قصة قصيرة: (11) فانوس الإشارة !
قحطـان فؤاد الخطيب / العراق

شاءت الأقدار أن تختطف يد المنون قرينة قروي لم يملك من حطام الدنيا سوى ابنته الوحيدة (ع)، ذات السبعة عشر ربيعا، ومجموعة تعد بالأصابع من الماشية، وأثاث قروي متواضع يتناسب مع كوخه في أسفل سفح جبل شامخ، أواسط ثمانينيات القرن الماضي.

وترك فراق الزوجة الأبدي أسً عميقاً لدى الريفي الأرمل، مما جعله يسترسل في النوم الصباحي على غير عادته، ضاربا أخماسا بأسداس، ومهملا الحقل الذي يعتاش من مورده. وانتهت مراسيم العزاء، كما انقضت فترة ما تدعى بالأربعينية، فإذا به متماد في تمرده على العمل، رغم إلحاح ابنته على ضرورة ممارسته للحياة اليومية بصورة طبيعية، معزية إياه بأن ما حصل قدر مكتوب، أرادته السماء. بيد إنها كانت تتحسس كوامنه بذكاء حاد، وتتلمس مدى حاجته لنصفه الآخر، مدركة، بدهاء، أن الحياة ترتكز على قطبين لا ثالث لهما: إذ لا ليل دون نهار، ولا شروق دون غروب. كان شديد الإصغاء لأفكارها الواقعية، متوسما فيها كل خير، محترما إياها كثيراً، غادقا عليها جل حنانه، معجبا بنضجها المبكر، خصوصا عندما شنفت أسماعه في الآونة الأخيرة بضرورة زواجه! كانت تلح على هذا الموضوع. فما كان منه إلا أن قال:
"
كيف أتزوج، يا مدللتي، وصورة أمك ما برحت شاخصة في ذهني، ناهيك عن أنني لا أطيق رؤية حواء سواها ! ؟

"إنها سنة الله ورسوله. "

" ومن هي سعيدة الحظ تتزوج كهلا في خريفه الذهبي الستيني ؟ إنني، يا (ع)، طاعن في السن، ولا أطيق، كما أسلفت لك سابقا، رؤية أية أنثى تروح وتغدو في صحن الكوخ بعد أمك."

"صحيح . . . . لكن، إن لنفسك عليك حقا. "

" إذن، أنت متحمسة للفكرة، أليس كذلك !؟ "


هز رأسه بانشراح، وسحب نفسا عميقا من غليونه التراثي ثم صمت برهة وراح مشدوها يتساءل :

كيف ابدأ ؟"

"
تبدأ كما يبدأ كل المنكوبين أمثالك. اذهب، على سبيل المثال، إلى صديق عمرك، (س)، واسترشد بآرائه، أو فاتح المختار أو الشيخ "(. .
ثم ابتسمت وهي تكيل له المديح والتشجيع قائلة:
"انك لازلت شابا، طافحا بالحيوية والطموح، يا أبتي. أنسيت ابن عمك،
( . . . ) ، حين تزوج وأنجب وهو في العقد الثامن من عمره ؟ ما رأيك بزوج خالتي، (................) ، ألم يتزوج وهو مشارف على الثمانين ؟ و . . . . و............."

" إذن، لأجرب حظي وأذهب إلى جاري، (س) ، فربما يسعفني في حل معضلتي إن كان لها حل!"

وما أن أسدل الليل خيوطه حتى كان أبو (ع) يطرق باب جاره، إلا انه لم يكن هناك ثمة جواب. فاقفل راجعا. بيد أن صوتا أنثويا رقيقا دار عنقه عنوة، جاعلا إياه يعود صاغرا إلى الوراء، كأنه وقع في مجال مغناطيسي لا فكاك منه. وهناك سأل عن السيد ( . . . . ) ، فأخبرته بلهجة ريفية مميزة بأنه يغتسل الآن. وإن شاء فلينتظر خارجا .
وفيما ذهبت لتبلغه بقدوم الضيف، استرجع ذاكرته المشوشة. فإذا به طريدة جاذبيتها. والتفت يسارا ويمينا بشكل لا إرادي، تتراقص في مخيلته أسئلة فجائية عمن تكون تلك الحسناء. وكم سيكون فردوسا لو شاطرته عشه ! و .... و .....

مضت لحظات أنسته مصيبته، وبعثت الدفء في قلبه، إلى أن خرج الصديق الجار، (...)، حيث رحب به كثيرا، وألح عليه في الدخول. وبعد ترحيب تقليدي حار سأله عن مبتغاة، لكن الأخير أطبق صامتا. فعاد وسأله ثانية عن مبتغاه، فأجاب قائلا :
"
بصراحة،" وهو يسحب نفسه بصعوبة، ...... "باختصار .... جئت أطلب العون منك ! أنت صديق العمر. جئت أستشيرك في مسألة شخصية ولكن، أرجو أن لا أكون مخطئا أن التي فتحت لي الباب هي كريمتك !
أجابه، "أحسنت. ولكن لماذا تسأل؟"

تلعثم واختنقت أنفاسه ثم أجاب، "أنا …أنا أريد القرب منك طالبا يدها."


أجابه، بعد تردد وتأمل، وكأن لسان حاله يقول:

"إلا إذا سمحت لي بالقرب منك وطلب يد ابنتك، أيضا. فأنا أرمل مثلك، وهما وحيدتانا ، أليس كذلك؟"

لم يطل الرد كثيراً، فإذا به يقول دون تردد: "موافق."

كان وقع الخبر على الشابة،(ع) طبيعيا جدا، رغم إجحافه لفارق السن. إذ تمنت من كل قلبها السعادة لأبيها المنكوب، حتى ولو تم ذلك على حساب أنوثتها ومستقبلها، فيما كان وقع الخبر على جارتها،(د) أليما كالصاعقة. فهي مراهقة صلفة وعنيدة، حباها الله سحراً فتاناً، وجمالاً أخاذاً !

ولكن إذا خطط الآباء في الريف فعلى الأبناء الطاعة ليس غير .
دارت الأيام، وزفت العروسان إلى بيت الزوجية، كما تأقلمتا مع الجو الجديد رغم رتابته وروتينيته القاتلة:
استيقاظ مبكر، إعداد للفطور، ذهاب الزوجين إلى الحقول، العودة منها، تناول العشاء ثم الرقود إلى النوم....حياة ميكانيكية محضة لا تليق بإنسان العصر الحديث.

وفي إحدى الأمسيات الشتوية الحالكة الظلام، وبينما كان أبو (ع) يغط في نوم عميق، بعد عمـــل يوم مضن، كانت تشاركه النوم في الحجرة المقابلة أمه المسنة، ضعيفة البصر. وما أن انتصف الليل حتى أفاقت الزوجة المراهقة، ومضت، كعادتها، بصمت نحو مجمع التبن الملاصق لغرفتها، ورأسها مزدحم بالأفكار، غير آبهة بالظلام الدامس، والسكون الرهيب يلفها من جهاتها الأربع.

كانت وجهاً لوجه أمام نقطة التحول واتخاذ القرار المصيري، على غير ما ألفت سابقاً. تلفتت يميناً وشمالاً، بحذر ويقظة، وتطلعت إلى السماء ، فإذا بها : .............. نجوم متألقة، تعوم بغبطة، مفترشة الفضاء ........ تشق عتمة السماء، ونسيم عليل يداعب شعرها المنساب بدلع على جسدها.

مدت يدها بغرور لالتقاط علبة كبريت. والتقطت أناملها الناعمة عود ثقاب بتثاقل وارتباك وكأنها تعلم ما يخفيه لها قدرها هذا المساء. أشعلت الفانوس وأنسلت إلى بوابة البئر العتيق، محركة يدها المرتجفة يميناً وشمالاً، مؤذنة برفع الستار عن الفصل الأول من التراجيديا. ثم أقفلت راجعة نحو غرفة التبن تاركة الفانوس منيرا .

تسلم (دون جوان) ، الطرف الثاني ، الإشارة الفانوسية بان كل شيء على ما يرام. لقد أعياه السهر. وكأنه هو الآخر يحس أن ثمة مصيبة قد تقع هذا المساء . كان شاباً مفتول العضلات، بدين البنية، رياضياً بالفطرة. كان مشغول البال على مدار الساعة بسيدة كوخ جاره، السيدة (........) . كان وسيماً، ذا سحنة ملفتة للنظر .............. تحرك من موقعه بصمت ورهبة في جنح الظلام. لم يتوقع ما يكدر صفوه في ذلك الليل، الدامس الظلام.

وصل إلى غرفة التبن. وهناك التقى الخائنان. وكلاهما كانا يتوجسان شيئاً ما. في البداية قرر الاعتذار والعودة إلى كوخه. لكن الجارة شيمته على البقاء، مخففة عنه، ومشجعة إياه. رقد الاثنان صامتين كصنمين حجريين دون حراك.

وشاءت الصدف أن تفيق حماتها وتذهب إلى دورة المياه. أطبق الصمت وساد السـكون. تناولت العجوز الفانوس ومضت إلى مقصدها. وما هي إلا لحظات حتى عادت هي الأخرى مضطربة نوعاً ما وكأن عقلها الباطن باح لها بأن ثمة خطر في انتظارها. دفعها الفضول إلى فتح باب التبن دون سابق تخطيط وكأن قدرها ساقها إلى حتفها. لدهشتها ماذا رأت، وهي ضعيفة البصر ؟ قالت لنفسها في بحر ثوان " إنهم لصوص ليس غير! " ولم تتمالك نفسها البتة فطفقت تصرخ بشكل لاشعوري " أبو .....، السراق في دارنا، ...... النجدة. "

وهنا استجمع الجار القبيح قواه فسدد لها طعنة في صدرها، دونما وازع أو رادع، خرت على أثرها صريعة. وهنا دخل الزوج المخدوع ليستطلع الأمر . فماذا رأى ؟

زوجته المصون وراء ابن الجار الخائن ! أمه العجوز مضرجة بالدم، لا حول لها ولا قوة. قبل أن ينبس بكلمة واحدة وجه له ابن الجار الغادر طعنة نالت من رقبته، خر على أثرها على الأرض. وهنا حفزت الزوجة الخائنة عشيقها على الانقضاض عليه والتخلص منه نهائياً. فكان لها ما أرادت.

انتهى المشهد الدرامي بكل حيثياته. وماذا بعد ؟ ما العمل ؟ هنا اختلطت الأمور عليهما. قالت له : "تخلصنا منه وانتهى كل شيء. لنحتسي كأسينا. " وهنا حدث ما ليس في الحسبان. استرجع الشاب نفسه، وأحس بالذنب العظيم. قاطعها قائلاً: " نعم انتهى كل شيء. ولكن ليمض كــل منا إلى سبيله. " أشعل سيجارة وسحب نفساً عميقاً جداً وتركها راجعاًً، مقطب الوجه، إلى كوخه دون أي كلام.

أنبلج الصباح ، وأنتشر الخبر، وتاه رجال الشرطة مذهولين بما حدث: كيف حصل ما حصل ؟ ومن الفاعل والمستفيد ؟ أظهر التحقيق الأولي براءة الزوجة مما حصل لغياب الشهود. بيد أن القاتل الفعلي مضى إلى رجال الشرطة وأخبرهم القصة من الألف إلى الياء . وهذا لا يعفيه من العقاب !

اهتزت المنطقة لهول المصيبة. وتشتت أفكار الناس. وتعجبوا من أن ثمة سلوكاً منحرفاً انتقل إلى منطقتهم الآمنة كالفيروس القاتل. مارس رجال الشرطة ورجال القضاء تحرياتهم الدقيقة واتخذوا القرارات الحاسمة. ومرت الشهور فإذا الحكم بالإعدام يطال المجرمين.

وساعة التنفيذ، أقترب مأمور السجن من القروي المدان سائلاً إياه عما يطلب. فأجاب: " لاشيء سوى سيجارة واحدة نوع كريفن أي. " وجيء له بها، واستنشق آخر نفس عميق، ثم استدار نحو المأمور قائلاً :
"
الموت بانتظاري، وأنــا لست خائفاً منه لأنني أقر بجريمتي، وأستحق جزائي. ولكن، بالله عليك، أيها المأمور، أين هي القروية البائسة (..................................) الآن؟
أجابه المأمور على الفور: "أنها تنتظر ذات الحكم. وقد تكون صعدت أو هي في طريقها إلى الصعود إلى أعواد المشنقة الآن."

انبهر المجرم. وقبل أن يكمل سيجارته، رماها على الأرض، باصقاً عليها، وهرول نحو المشنقة دون طلب من يرافقه، صارخــــــــــــا بأعلى صوته:

"
أنها السبب في كل شيء..." !!!……

الموصل / حزيران 1982