عمر القاسم.. حياة حافلة في ذاكرة الحركة الأسيرة
بقلم: وسام زغبر*
من لا يعرف الشهيد القائد عمر القاسم لا يعرف الحركة الوطنية الأسيرة.. هكذا وصفه رفاقه في السجن وخارجه.. انتمى لفلسطين وللجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين تعلم في مدارسها وتثقف بثقافتها، عرف بقيادته لنضالات الأسرى وكان واسع الثقافة ترك بصماته واضحة على أجيال من رفاقه اليساريين حتى بعد استشهاده في الرابع من حزيران يونيو 1989 داخل سجون الاحتلال بعد أن أمضى 21 عاماً في سجون الاحتلال، لذا لقبه شعبه بـ"مانديلا فلسطين"، وأطلق عليه بين زملائه بالمعتقل شيخ الأسرى والمفكرين لتمتعه بقوة الفكر والإرادة، وعرف بالمفكر والمثقف.
الشهيد الأسير عمر القاسم عاش مناضلاً ومات شهيداً خلده شعبه في تشييعه ومثواه، ذلك القائد الذي قهر السجان وأبدع في سجنه ببناء الحركة الوطنية الأسيرة ونشر فكره وثقافته لكافة أروقة المعتقل، فهو الرجل في الحياة والموت كما وصفه سجانيه.
تحل اليوم ذكرى استشهاد الرفيق عمر القاسم الـ25 والأسرى في سجون الاحتلال الذين تعلموا في مدرسة القاسم يتذوقون اليوم مرارة السجن ويتحدون أساليب السجان القمعية في خوضهم الإضراب المفتوح عن الطعام رفضاً لسياسة الاعتقال الإداري التي تنتهجها إدارة السجون ومن خلفها حكومة الاحتلال الإسرائيلي بفرضها قوانين عنصرية تتعارض مع كل القيم والمواثيق الدولية.
ذكرى استشهاد الأسير عمر القاسم ابن حارة السعدية بمدينة القدس المحتلة، هي أليمة في الوقت الذي تمارس "إسرائيل" أبشع صور الإرهاب والتشريد والتهويد والأبارتهايد بحق السكان المقدسيين للسيطرة على مدينة القدس وتهويدها وطرد سكانها الفلسطينيين، وكذلك في ظل الهجمات المتوالية وسياسة الاعتقال الإداري وأعمال القمع والتنكيل والإهمال الطبي والإنساني التي تتعرض لها الحركة الوطنية الأسيرة في سجون الاحتلال.
فالشهيد القاسم ذاق مرارة السجن ولم يستسلم له بل ساهم بتعبئة الأسرى وإعدادهم داخل المعتقل، وشارك رفاقه وإخوانه في مواجهة كافة صور القمع الإسرائيلية في العديد من الإضرابات التي كان يقودها، وكان له الدور في تأسيس الحركة الوطنية الأسيرة، تلك الحركة الأسيرة التي خرّجت الأبطال القادة وصاغت وثيقة الوفاق الوطني "وثيقة الأسرى" في حزيران/ يونيو 2006. فعمر القاسم كما عرفه رفاقه وأصدقائه في السجن وعرف بين كافة أبناء شعبه، بالصلب والشجاع في مواجهة قساوة السجن والسجان.
انه عمر محمود القاسم ابن مدينة القدس ولد في حارة السعدية عام 1941 وترعرع وأكمل دراسته فيها ليعمل في أحد مدارسها ويدرس في جامعة دمشق بالانتساب في آن واحد، ليجعل من علمه نبراساً يزين مدينة القدس وفلسطين بأكملها. انضم إلى معسكرات الثورة الفلسطينية في مطلع شبابه بعد التحاقه بحركة القوميين العرب، ولكنه أراد العودة إلى وطنه بتاريخ 28/6/1968 بعد أن تدرب في دورات عسكرية وثورية خارج فلسطين، ليقود مجموعة عسكرية هادفاً الاشتباك مع العدو وجهاً لوجه للتمركز بمدينة رام الله، وأثناء اجتيازه لنهر الأردن اصطدم مع دورية إسرائيلية لتشتبك مجموعته مع الاحتلال إلى أن تنتهي ذخيرتهم وتعتقل الخلية بما فيهم قائدها عمر القاسم.
انتخب في داخل سجنه عضواً باللجنة المركزية للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، وعمد إلى إثراء الأسرى بنقاشات مفتوحة حول تطورات القضية الفلسطينية، البرنامج السياسي للجبهة الديمقراطية وأدبياتها الفكرية والسياسية والمادية التاريخية والمادية الديالكتيكية وتاريخ الفلسفة وفي محطات سياسية كبرى كان يتوقف مطولا لشرح وتحليل أبعادها وتحديدا أحداث أيلول عام 1970، وحرب تشرين والبرنامج المرحلي الذي تبنته م. ت. ف عام 1974. ولم يتوقف القاسم عند ذلك بل لجأ الى دورات نظام الكادر التي استغرقت العام تقريباً تطرق فيها للحرب الشعبية والتجربة الفيتنامية والجزائرية وتخرج منها مجموعة من الرفاق في موقع كادري، لينتقل فيما بعد للاهتمام بالأدب والشعر.
وعشية انعقاد الدورة 19 للمجلس الوطني الفلسطيني في الجزائر، قاد الرفيق عمر القاسم في كافة السجون والمعتقلات النقاش السياسي من أجل صياغة المهام الراهنة للحركة الوطنية الفلسطينية في عصر الانتفاضة وساهم مساهمة رئيسية في توحيد المعتقلين على موقف سياسي موحد مطالباً الدورة 19 بإعلان قيام الدولة الفلسطينية وصياغة برنامج السلام الفلسطيني.
وقد ربط الرفيق القاسم بين مزاولة دوره السياسي الفكري وبين إصدار الصحف وممارسة الكتابة، وكان من المبادرين لإصدار الصحف داخل المعتقلات، وبعد أن أصبح لكل منظمة اعتقالية صحيفة، اقترح مشروع المجلة الموحدة، وقد نجح هذا المشروع في بعض الفترات وتراجع في فترات أخرى. وانصب اهتمامه في الكتابة على شؤون وأوضاع المعتقلين. فقد كتب "34" موضوعا شخص فيه تشخيصا قيما أوضاع المعتقلين وتناول المراحل التي مرت بها الحركة الأسيرة وتجارب الإضراب ودروسها، وسلوك المعتقلين من مختلف الجوانب. كان دائما يشجع المواهب الناشئة على الكتابة وخاصة لمجلة "الملحق الأدبي" التي تخرج منها عدد لا بأس به من الكتاب وكرس أيضا وقتا مهما لتدريس اللغة الانجليزية بشكل خاص واللغتين العبرية والفرنسية بشكل عام وبعض الكتب الأكاديمية الأخرى بهدف رفع المستوى العلمي للمعتقلين.
كان له عدة مواقف شجاعة ومنها عندما اقتاده الاحتلال الإسرائيلي مع رفيقه "أنيس دولة" في طائرة مروحية لإقناع مجموعة مسلحة تابعة للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين قامت باحتلال مبنى واحتجاز رهائن بعملية "معالوت- ترشيحا" في 14 مايو 1974 بالجليل داخل فلسطين المحتلة عام 48 ، لوقف عمليتهم مقابل تخفيف الحكم عليهما، فما كان لعمر القاسم إلا أن أخذ الميكروفون مخاطبا المنفذين قائلا لهم " ايها الرفاق نفذوا ما جئتم من اجله فعدوكم غدار " فما كان من الفدائيين الأبطال إلا ان قاموا بتفجير المعسكر الذي استولوا عليه واحتجزوا فيه مئات الجنود الإسرائيليين فاستشهد الرفاق الثلاثة زياد ولينو وحربي وسقط المئات من جنود الاحتلال ما بين قتيل وجريح، وعلى اثر ذلك مارست دولة الاحتلال كافة أنواع التعذيب ضد القاسم ورفضوا بعدها إخلاء سبيله في صفقة تبادل الأسرى في العام 1985 .
وقد أرسل الأسير عمر القاسم من داخل سجنه رسالة إلى عموم الحركة الوطنية الأسيرة التي عايشته والتي جاءت بعده، سردها بالتالي: إن العزاء الوحيد لنا بالسجن، هو وجودنا على ارض الوطن، والتعرف على أبناء صهيون عن قرب، من خلال وجودنا معهم وجها لوجه، أنتم ربما تقرؤون أو قرأتم عن الصهيونية في الكتب والمجلات، ولكننا ونحن داخل السجون، نلمسها طيلة أربع وعشرين ساعة في اليوم. قال لأخيه مرة قبل استشهاده: إذا استشهدت، فلا تأخذوا ثمن استشهادي، فروحي فداء حبي لوطني ولشعبي.
فتكريم الشهيد الأسير عمر القاسم لم يقتصر على فصيله "الجبهة الديمقراطية" الذي أنتمى إليه انتماءاً حقيقياً بل تعدى ذلك في وصف أعدائه قبل أصدقاءه ورفاق دربه.
فقد وصفه سجانيه بأنه "الرجل في الحياة والموت".
وقال عنه القيادي في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين عبد الرحيم ملوح، أن الشهيد عمر القاسم برز في العديد من المجالات الثقافية والإبداعية والتنظيمية إلا أنه أصر على حمل السلاح والنزول إلى ميدان المعركة في أرض الوطن، رافعا شعار العلم والثقافة في مواجهة الاحتلال .
بل قال عنه عضو لجنة الأسرى للقوى الوطنية والإسلامية عبد العزيز أبو عمرة، أمام مقر اللجنة الدولية للصليب الأحمر بمدينة غزة، في مسيرة نظمتها الجبهة الديمقراطية في ذكرى استشهاده بـ 4/6/2013، إن الشهيد عمر القاسم ابن مدينة القدس كان من الأسرى الأوائل للدفاع عن فلسطين ومنها القدس والأغوار، الذي اعتقل في عملية العودة إلى الوطن عام 1968، وتحمل المرض الذي استشرى في جسده إلى إن استشهد في 4 حزيران 1989، لأن جرح الوطن أقوى وأعظم من جرح المرض.
واصل ابو يوسف امين عام جبهة التحرير الفلسطينية، أشار إلى الشهيد عمر القاسم هو من الأوائل الذين أثاروا قضية إلزام سلطات الاحتلال على التعامل مع الأسرى الفلسطينيين كأسرى حرب، وطالب محاكميه الاعتراف به كأسير حرب، وسرد ما تنص عليه القوانين والمواثيق الدولية مما أربك قضاة المحكمة الذين عجزوا عن الرد عليه وذهبوا يبحثون عن رد ملائم لما جاء به القاسم، وحينما عجزوا ادعوا أن فلسطين ليست بدولة فهي لا تنطبق على الأسرى الفلسطينيين المواثيق الدولية.
فيما الأسير المحرر محمود بكر حجازي قال، انه التقى عمر القاسم داخل السجن في العام 1968 ورأى فيه تجسيداً لصورة المناضل الفذ بإطلالته وكلامه وتحركاته، وأن وجوده في المعتقل قد أغنى تجربة كل من عاصره من جيل، ولم تكن الوحدة الوطنية بالنسبة له شعارا، بل كانت ممارسة عملية، فهو كان دائما يغلب العام على الخاص .
فقد أرسل القاسم رسالة للاحتلال أن "شعبنا لن يتنازل عن حقه في النضال والمقاومة حتى انجاز حقوقه الوطنية، ولا يساوم على قضيته لمصلحة فصيله أو شخصه بل يغلب مصلحة الوطن على ذلك، والذي دعا كافة القوى والفصائل لتغليب المصالح الوطنية العليا عن المصالح الحزبية والفئوية الضيقة"، وجسد ذلك عندما ساومه أحد جنرالات الاحتلال الإسرائيلي عام 1987 بين حريته والتنازل عن بندقيته ومقاومته، فكان رد القاسم سريعاً وعفوياً : "لقد أمضيت أكثر من عشرين عاما في الاعتقال، ولا يهمني مصيري الشخصي، ما يهمني هو قضية شعبي، وطالما بقي كابوس الاحتلال على صدر شعبي، سأبقى أقاتلكم."
هذا هو الشهيد القائد عمر محمود القاسم ابن فلسطين البار، وأحد قادتها العظام عبر عصور التاريخ، الرمز المشرق للنضال الوطني الفلسطيني والعربي، وهو في أسره، وفي استشهاده، وكيف خلده أبناء شعبه الحر الميامين، فسيبقى عمر القاسم، النبراس الذي يضيء طريق المناضلين والأحرار، ليس في فلسطين فحسب، بل في كل الديار العربية، وفي كل دول العالم المتطلعة للحرية والعدالة والسلام.
· صحفي فلسطيني- قطاع غزة/ فلسطين.