مرسي الذي يفاجئ الجميع!!
أحمد أبورتيمة
abu-rtema@hotmail.com
لا حرج إن اعتبرنا الثاني عشر من أغسطس 2012 هو اليوم التاليللحادي عشر من فبراير 2011، ففي التاريخ الأول سقط رأس النظام الحاكم، وفي التاريخالثاني سقط ما تبقى من أعمدة النظام وقضي على آمال الثورة المضادة بإعادةاستنساخ النظام السابق، أما ما بين هذين التاريخين فقد كانت مرحلةً من الفوضىوالتسيب والسعي الحثيث لإفشال الثورة وإعادة النظام السابق إلى الحكم.
بضربة مركزة واحدة لم يبق فيها مساحةً للتردد ولا فرصةًلالتقاط الأنفاس أهوى الرئيس محمد مرسي بأكبر رأسين فيما بات يعرف بالدولة العميقة،وأهوى معهما بإعلانهم الدستوري المكبل الذي انقلبوا فيه على الدولة الديمقراطية. رافقهذه الإجراءات تعيين المستشار محمود مكي نائباً للرئيس من السلك القضائي في تأكيدعلى مدنية الدولة وفي رد عملي على مزاعم الأخونة، فنائب الرئيس مثله مثل رئيسالوزراء ووزير الدفاع ورئيس الأركان ومعظم الوزراء لا علاقة لهم بالإخوان..
هذه الخطوات الشجاعة التي أقدم عليها الرئيس مرسي جاءت أكثرمما كان يطالب الثوار به ، فأقصى ما كانوا يطمحون لتحقيقه هو إلغاء الإعلانالدستوري المكمل، وقد كان متفهماً لديهم تأجيل المواجهة مع المجلس العسكري إلىمرحلة لاحقة، لكن الرئيس مرسي فاجأ أصدقاءه وأعداءه على السواء بهذه الخطوات القوية،وربما تكون هذه المفاجأة من أهم ميزات القرارات، فهذه المفاجأة أذهلت الجميعوأربكت حساباتهم وألجمتهم عن استيعاب الصدمة والقدرة على الرد عليها.
بهذه الخطوات رسخ الرئيس محمد مرسي موقعه كرئيس للثورة،واستطاع فرض هيبته على أعدائه المتربصين به داخلياً وخارجياً، واستحق بجدارة أنيكون اليوم فقط وليس قبل اليوم رئيساً بصلاحيات كاملة حتى أننا لا نبالغ إذا قلناإن التاريخ الفعلي لتولي محمد مرسي رئاسة الجمهورية هو هذا اليوم.
من المستبعد أن الرئيس مرسي أقدم على هذه المغامرة من فراغ، والمرجحأنه استبق بهذه القرارات مخططاً للانقلاب الوشيك وإجهاض الثورة فرأى أن يتسحر بهمقبل أن يفطروا عليه، ومما يعزز هذه الفرضية هو دعوات الثورة في الرابع والعشرين منالشهر الحالي، وهي دعوة يصعب افتراض البراءة فيها، فالذين يدعون للثورة على مرسيبعد ثلاثين يوماً من توليه الرئاسة هم أنفسهم الذين دعوا لمنح مبارك فرصةً بعدثلاثين عاماً في الحكم، كما أن عمومية المطالب التي يدعون للثورة من أجلهاوهلاميتها وبعدها عن التحديد يؤكد أن الفوضى هي المطلوبة من التحرك المعتزم، وقدكشفت زلة لسان أبي حامد بأن المجلس العسكري سيقف مع تلك الثورة المزعومة عن مدىخطورة الموقف، وهي زلة أكدت ما كنا نتوقعه ولم تنشئ اعتقاداً جديداً بتآمر المجلسالعسكري على الثورة وتخطيطه للانقلاب على الرئيس المنتخب.
ربما كان السيناريو المخطط لذلك اليوم هو أن يخرج أنصارالثورة المضادة إلى الميادين ويحيطوا بالقصر الجمهوري ويحدثوا حالةً من الفوضىوالتخريب تكون غطاءً لانقلاب المجلس العسكري على الرئيس الشرعي..
لكن المبادرة التي أقدم عليها الرئيس مرسي أربكت هذهالحسابات وأضعفت كثيراً من فرص نجاحها ، بل إنها ضربت الدولة العميقة في مقتل.
هناك أخبار لم تتأكد لكنها غير مستبعدة بأن وزير الدفاعالجديد عبد الفتاح السيسي اجتمع بالرئيس مرسي قبل يومين وأطلعه على مخطط للانقلابيقوده طنطاوي وعنان تحت غطاء تحرك شعبي في الرابع والعشرين من أغسطس فما كان منالرئيس مرسي إلا أن عجل باتخاذ هذه القرارات ثم استدعى طنطاوي وعنان إلى القصرالرئاسي وواجههما بالسيسي ثم احتجزهما الحرس الجمهوري حتى تم إصدار القرارات وأداءوزير الدفاع الجديد اليمين الدستورية قبل أن يطلق سراحهما..
تظهر عبقرية هذه القرارات في أنها راهنت على تناقض مراكزالقوى داخل المجلس العسكري، فالجيش ليس كلمةً واحدةً، وهناك رغبة في قيادات الصفالثاني في الجيش بالتخلص من القيادات العجوزة المهيمنة منذ أكثر من عشرين سنة، وبالتأكيد فإن الرئيسمرسي قد درس التركيبة الداخلية للجيش جيداً قبل أن يقدم على هذا القرار الجريء،وفيما لو فكر طنطاوي أو عنان بالتمرد على القرار فإن ردعهما سيأتي من داخل صفوفالجيش، ولن يسمح وزير الدفاع أو رئيس الأركان الجديدان لهما بأن يغتصبا منهماالسلطة.
بالإضافة للمراهنة على مراكز القوى داخل الجيش فإن هناكمراهنةً أساسيةً على القاعدة الشعبية التي ازداد احتضانها للرئيس مرسي بعد قراراتهوعادت إليها الثقة بنجاح ثورتها، وليس من السهل أن تقبل هذه الجماهير بانقلاب صريحعلى رئيس منتخب لم يزد على أن قام بممارسة صلاحياته التي يخولها له القانون،في ذات الوقت فإن هذه القرارات سحبت البساط من تحت أقدام أنصار الثورة المضادة ولمتعد حجتهم قويةً في تعبئة الشارع للنزول إلى الميدان.
هذه القرارات لن تسر الأطراف الخارجية التي لم تكن مرتاحةًلوصول مرسي إلى الرئاسة وكانت تراهن على العسكر لحماية مصالحها. من هذه الأطرافأمريكا التي سعت لترسيخ واقع تقاسم السلطة بين الرئيس المنتخب محمد مرسي والمجلسالعسكري المنقلب حين جاءت وزيرة خارجيتها فاجتمعت بطنطاوي بعد الاجتماع بمرسي فيدعم فاضح للانقلاب العسكري على الديمقراطية، وإسرائيل التي كانت تراهن على العسكركملاذ أخير في مصر، ورأت في هجوم رفح فرصةً لتهميش موقع مرسي وتعزيز مكانة العسكرفإذا بالسحر ينقلب على الساحر، وينجح مرسي بذكائه السياسي في تحويل المنحة إلىمحنة والاستفادة من الظروف التي أعقبت هجوم رفح في تعزيز موقعه والإطاحة بأعدائه.
لقد حاول المجلس العسكري توظيف اعتداء رفح ليهمش دور مرسي وليتصدر المشهد السياسي، لكنسرعان ما أمسك الرئيس مرسي بزمام الأمور وزار سيناء مرتين ووصل إلى الحدود معفلسطين المحتلة كما لم يفعل الرئيس السابق إطلاقاً، ودفع بتعزيزات إلى سيناء لأولمرة منذ اتفاقية كامب ديفيد، ثم بدأ بحملة إقالات واسعة طالت رئيس المخابراتوآخرين قبل أن ينتهي المطاف بالضربة الكبرى بإقالة وزير الدفاع ورئيس الأركان،ليحقق بذلك هدفاً مزدوجاً الأول داخلياً بتثبيت أقدامه والقضاء على رموز النظامالسابق، و الثاني بتثبيت السيادة المصرية في سيناء، ويبدي الإسرائيليون تخوفهم منأن مرسي لن يسحب التعزيزات العسكرية من سيناء بعد انتهاء العملية الأمنية.
بدا القلقالإسرائيلي تجاه ضربة مرسي واضحاً حتى أن الجنرال أفيف خوكافي رئيس الاستخبارات وصف قرارات مرسي بأنها خطر يهدد الأمن القوميالإسرائيلي، بينما قال الإعلام الإسرائيلي إن التغيرات تصب فى صالح النداءاتالمطالبة بتغيير "كامب ديفيد"، وإن طنطاوى كان الحاجز الرئيسي لمنع تحولمصر لبلد إسلامي متشدد..
أداء الرئيس مرسي خلال الفترة القصيرة منذ بدء توليه السلطةوما يتميز به من قوة ومبادرة وحزم يفتح الباب أمام التساؤل عن شخصية هذا الرجل ومنأين يستمد كل هذا القدر من القوة والحزم والمبادرة حتى تخرج قراراته مفاجئةًللجميع؟؟
يشير أداء مرسي إلى أننا أمام رجل تتقدم فيه قوة الروح علىحسابات العقل ، وهذه هي الصفة التي تتطلبها صناعة التاريخ، ففي اللحظات التاريخيةالحرجة تكون حاجة الأمة إلى روح قوية مبادرة وشجاعة أكثر من حاجتها إلى هدوء العقلوحساباته الطويلة المملة، والمترددون ليس من شأنهم أن يصنعوا التغيير فذلك شأنالمبادرين الحازمين الذين يأخذون الكتاب بقوة ..
لعل من أجمل ما تتصف به شخصية مرسي أن ظاهره يخدعك عن باطنه،ففي داخله رياح عاتية بينما يوحي ظاهره بالهدوء والشرود، وهذا هو سبب فشل الجميعفي توقع خطواته، وكان هذا أيضاً سبب التجرؤ عليه والاستهانة به ووصفه بالإستبن!!..
إذا كان هذا هو الاستبن فما بالكم بالأساسي!!
المصدر إيلاف