حلمَت هذه الليلة شقيقتي الدكتورة رفيف ، بأنَّ أبي يناديني من غرفته التي كان نائماً فيها ، إلى غرفتي قائلاً لي : " غَنّي بعدُ يا ريم غَنّي " ، فأسرعت نحوَه شقيقتي وأَدْلَت إليه بشيء ثم عادت إليّ ، مشكِّلةً بذلك ربما صلة وصل بيني وبين أبينا .. لقد فهمتُ من حلم شقيقتي سرورَ والدي بعملي في رسائله إلى الأديب حنّا مينه ، وبرغبته في عودتي إليها بعد انقطاعٍ اضطراريّ عنها لبضعة قليلة من الأيّام .. سأفعل أبي ، سأعود وأُغنّي رسائلك التي يمثِّلُ كلٌّ منها واحدةً من أناشيد الحياة ..
رسالة من أبي إلى حنّا مينه
1993
العزيز حنّا
في صبيحة يوم خميس ، هطلَ المطر علينا ، فغسلَ فضاء المدينة وأشجارها والشوارع وأرصفتها وجدران مبانيها ، فتَنَفّسنا وبعدَ انتظار طويل هواءً نقيّاً ، وأحسسنا بشيء يشبه الطُّهر . وفي مساء اليوم ذاته ؛ تلقّيتُ رسالتك ، فاغتسلَت نفسي بكلماتها ، وملأني إحساس عالٍ بالراحة والدّعة ..
أن تكون أنتَ عبد القادر ؛ أمرٌ يمنحني اعتزازاً .. وأن أكون أنا حنّا ؛ فذلك طموحٌ أصبو إليه .. يا لَنفسك الخصبة التي تتفاعل مع كلّ معطىً إنسانيّ تصادفه ، فتمنحه من إمكانات النماء ، ما يحول دون انهداره في وديان الضياع .
لقد تأخّرَت رسالتي عنك ، ذلك أنَّ عملاً عاجلاً قد طرأ لديّ ، فاضطررتُ إلى تأجيل الكتابة إليك ، فشأني شأنك ؛ أنتَ تقرأ رسائل أصدقائك ، في جوٍّ من المراسم الوقورة ، وأنا أكتب رسائلي إلى الصديق الحميم ، ضمن طقوس تتطلّب التفرُّغ والانكباب ، ولا تقبَلُ التعجُّل والانشغال . وكان عليَّ أن أنتظر فترةً ، لا تزحني خلالها المشاغل ، لأخصّك بهذه الكتابة .
أقول لك : إنني كنتُ أتوقّع أن نوفّر لك في زيارتك السابقة جلسات أكثر بهجةً وغنىً ، لذا فقد خالطني شعور بالتقصير حيالك .. وإذا كنتَ ترى في إصغائي إليك عطاءً ؛ فإنني أرى فيما تقول العطاء . وإذا كان في عبارات رسائلنا ، ما قد يبدو للآخرين وكأنه مجاملة ؛ فإنني أقول : كم هي عميقة تلك الصداقة ، التي يبدو التعبير الصادق عنها شيئاً يشبه المجاملة .
في أيِّ حال .. فإنَّ لاذقيّتك اليوم مغسولةٌ أعطافُها ، وجَوّها صافٍ وبحرها رخام أُحسِنَ صقلُه .. ولايزال أبو العبد يشتاق لقاءنا في زاوية مقهاه الشماليّة الشرقيّة .
عبد القادر هلال