معرفة العدو نصف الطريق إلى الانتصار عليه
سلسلة مقالات "مترابطة" حول
"سايكولوجيا الشخصية الإسرائيلية"
كيف تفكر الصهيونية لتصهينَ اليهود وتُؤَسْرِلَهم؟! وكيف تواجهنا بهم يهودا تصهينوا فتأسرَلوا؟!
6 من 15
هل هناك شخصية يهودية إسرائيلية ذات تكوين سيكولوجي واحد؟!
إن حجز الزاوية في الفكر الصهيوني، هو فكرة امتداد التاريخ اليهودي إلى زمن موغل في القدم، هذا ما أشار إليه "بنتوفيتش" في كتابه "فلسطين" بقوله: "إن عراقة الصهيونية إنما ترجع إلى زمان هدم الهيكل، ووقوع الشعب اليهودي في أسر نبوخذنصر"، وهو أيضاً ما أشار إليه "بن غوريون" في مذكراته حين قال: "منذ آلاف السنين ورغبة اليهود في العودة إلى إسرائيل لا تموت".
يقوم الفكر الصهيوني في جوهره إذن على مسلمة رئيسية مؤداها أن اليهود كيان واحد متجانس ممتد في الزمان وفي المكان، وأن ثمة فعلاً ما يسمى بالمشكلة اليهودية التي تتمثل في تشتيت اليهود واضطهادهم، وأن الحل الوحيد لهذه المشكلة هو عودة اليهود إلى أرض الميعاد، أي إلى فلسطين.
لكن ما تجب الإشارة إليه هو أن التسليم بهذه المسلمة الصهيونية، يترتب عليه التسليم مباشرة وبشكل حتمي بعدد من القضايا الفرعية، أولاها، أنه رغم تسليمنا بأن البشرية شهدت عبر تاريخها الطويل كَماًّ هائلاً من التغيرات، إلا أن اليهود من دون باقي البشر، قد حافظوا تماماً على مقدرتهم على تجاوز قانون التطور وتخطيه وعدم الخضوع لسطوته عبر آلاف السنين، وبالتالي فإن يهود اليوم هم امتداد حضاري مباشر وغير منفصل لليهود القدامى – أي ليهود التوراة – أي وبكلمة أخرى، إنهم عبارة عن كيان حضاري ممتد زماناً، لم يتأثر جوهره حتى الآن بما طرأ على العالم المحيط به من تغيرات.
أما القضية الثانية التي علينا التسليم بها جراء ذلك، فهي أن هناك ثمة ما يربط دائما بين اليهود جميعا في شتى أنحاء العالم، مهما تباينت الظروف المحيطة بهم، قد تكون هي الديانة اليهودية، وقد تكون هي التعرض للإضطهاد.
ولكن هل يُعَدُّ الإسرائيليون الذين أنجبتهم الصهيونية اليهودية حقا، امتدادا ماديا أو سيكولوجيا لليهود الذين حدثتنا عنهم الكتب السماوية؟!
لو كانت الإجابة على هذا السؤال بالإيجاب، لكان علينا أن نستمد مادتنا حولهم من الكتب القديمة التي تعرضت لنشأة اليهودية أو التي صاحبت تلك النشأة، كالتوراة والتلمود. أما إذا كانت الإجابة بالنفي، فإن علينا حينئذ أن نتصدى للبحث من جديد عن نقطة بداية لمعلوماتنا ولتحليلاتنا. وبما أن الإجابة هي قطعا بالنفي، فإننا سنلجأ إلى العقل وإلى العلم للتحقق والتثبت من دعاوى الحركة الصهيونية تلك.
تتناقض الصهيونية تناقضا تاما وصريحا ومنذ البداية، مع الحقيقة القائلة بأن الفكر هو وليد الواقع الاجتماعي بالدرجة الأولى، وقبل أن يكون هذا الواقع وليد ذلك الفكر بشكل من الأشكال. وذلك بسبب انطلاقها من مسلمة مضمونها أن الصهيونية كفكرة – خلافا لكل الأفكار – هي القوة الخالقة لذلك الواقع الذي يجسده التجمع الإسرائيلي على أرض فلسطين، دون الأخذ في الاعتبار أنها قبل أن تكون خالقة لذلك الواقع، كانت مخلوقة لواقع إجتماعي شهدته الساحة الأوربية عامة والساحة اليهودية منها خاصة، لتكون وليدة واقع إجتماعي كوَّنها وخلَّقها كفكرة اتخذت هذا الاتجاه، قبل أن تلد هي وتخلق واقعا إجتماعيا جديدا تمثل في الكيان المسمى "إسرائيل".
كما أن الصهيونية من جانب آخر ترفض مبدأ التناقض أو ما يسمى في الأدبيات العلمية الديالكتيكية، مبدأ وحدة الأضداد كسبب للتطور والتغير. فهي لا تقبل مطلقا بإمكانية أن تكون ثَمَّة تناقضات أساسية وفعالة بين اليهود أنفسهم، كأن يظهر أي تنافر بين أي يهودي وبين الصهيونية!! كل يهودي – في نظر الصهيونية – يجب أن يكون صهيونيا، وكل صهيوني هو بالقطع يهودي. كما أن كل يهودي إسرائيلي وكل إسرائيلي يهودي، بل وكل إسرائيلي صهيوني وكل صهيوني إسرائيلي.. ولكن هل هذا صحيح؟!
دلت النتائج النهائية للإحصاء الذي أجرته اللجنة التحضيرية للمؤتمر الصهيوني الثاني والعشرين، على أن مجموع الذين تم تسجيلهم في عضوية المنظمة الصهيونية العالمية قد بلغ حوالي 900 ألف عضو، في حين بلغ عدد اليهود في البلدان التي شملها الإحصاء المذكور في نفس السنة، حوالي ثمانية ملايين ونصف المليون يهودي. إلا أن الأمر لم يقف عند حد اللامبالاة التي يتصف بها اليهودي في الانتماء للحركة الصهيونية، بل إن هناك نوعا جَدِّياًّ وعميقا من المعاداة اليهودية للصهيونية، بدأت مع ظهور الحركة الصهيونية نفسها.
ففي البيان الذي صدر عن هيئة الحاخامات الألمان احتجاجا على دعوة هرتزل لعقد المؤتمر الصهيوني الأول في أواخر القرن التاسع عشر، تم التأكيد على أن الدعوة إلى عقد مؤتمر صهيوني وإذاعة جدول أعمال هذا المؤتمر، أدت إلى بث تصورات خاطئة ومضللة عن مضمون التعاليم اليهودية، وعن الأماني والتطلعات التي تجيش في عقول ونفوس معتنقي هذه الديانة.
هذا، وقد وجدت هيئة الحاخامات الموقعة على البيان المذكور نفسها مضطرة إلى التأكيد على أن مساعي الذين يسمون أنفسهم بالصهيونيين، وهي المساعي الرامية إلى تأسيس دولة قومية يهودية السكان في فلسطين، تتنافى بالكامل مع العقائد المتعلقة بانتظار مجيء المسيح المخلص في الديانة اليهودية، كما نصت عليها العقائد والتعاليم في الكتاب المقدس وفي المصادر المتأخرة للديانة اليهودية. لا بل قد أوضحت الهيئة الموقعة على البيان وبما لا يدع مجالا للشك، أن اليهودية تلزم معتنقيها بالعمل في خدمة الوطن الذي ينتمون إليه بكل إخلاص وتفان، وبالدفاع عنه وعن مصالحه القومية من صميم القلب وبجميع الطاقات والإمكانات. ويُختتم البيان بالدعوة إلى الابتعاد عن المحاولات والمساعي الصهيونية الواردة أعلاه، وعلى وجه الخصوص الابتعاد كليا عن المؤتمر الصهيوني الذي يصر الصهاينة على عقده رغم كل التحذيرات والتنبيهات التي أطلقت ضد الفكرة والدعوة.
وإذا لم يكن كل يهودي صهيونيا فليس كل يهودي إسرائيليا أيضا!!
فقد أوضحت البيانات الإحصائية خلال عقد السبعينيات أن يهود العالم بلغوا حوالي 13 مليون شخص، فيما لا يضم التجمع الإسرائيلي بحسب آخر الإحصائيات إلا 5 ملايين يهودي فقط، أي حوالي 35% من يهود العالم ليس إلا. ولا يقف الأمر عند هذا الحد، بل هو يتجاوزه إلى حقيقة ذات دلالة هامة في توضيح أهداف الحركة الصهيونية.
إذ ليس كل صهيوني أسرائيليا!!
فمن بين 13 مليون يهودي منتشرين في مختلف أصقاع الأرض، يوجد 100 ألف صهيوني عامل خارج إسرائيل. فالتجمع الإسرائيلي إذن لا يضم كل صهاينة العالم. إذ أن ثمة صهاينة متعصبون لصهيونيتهم كأشد ما يكون التعصب، ومع ذلك فإنهم يمانعون في الهجرة إلى إسرائيل كأشد ما تكون الممانعة، في وضع غير مقبول ولا منطقي وعصي على التفسير المتوازن إلا بافتراض التشكيك في صهيونيتهم، أو على الأقل في الجانب اليهودي منها، ووصمهم بالتالي بتبني الجانب الاستعماري الإمبريالي الغربي من جوهر الدعوة الصهيونية!؟
فإذا كان عماد الفكرة الصهيونية هو الهجرة إلى فلسطين، وهو ما تحرص عليه إسرائيل باستمرار عبر استقدامها من تستطيع استقدامه من يهود العالم إليها. فكيف يكون صهيونيا ذلك الذي يصنف نفسه خارج إطار دائرة وجوب الهجرة إلى فلسطين!؟
إن هذا الأمر يؤكد أن الصهيونية هي تيار فكري سياسي، وما دام الفكر أيّاً كان نوعه، ومهما كان تقديرنا لتأثيره، لا يعدو أن يكون نتاجاً للظروف الاجتماعية المادية، فإنه لا يحدد وحده سلوك الإنسان وبالتالي سلوك أفراد المجتمع. وإذن فإن الفكر الصهيوني ورغم شراسة الدعاية له، لم يكن قادرا على إقناع أتباعه مهما غالوا في تعصبهم له، بالهجرة من بلاد الرخاء إلى المجتمع الإسرائيلي.
إن ثمة حادثة مثيرة وقعت خلال المؤتمر الصهيوني الثامن والعشرين الذي انعقد في مدينة القدس في يناير من عام 1972 تكشف بمنتهى الوضوح عن التناقض المريب الذي يتغلغل في أعماق بنية الحركة الصهيونية. فقد تقدم "بجيئيل ليكيط"، زعيم شباب حزب العمل الإسرائيلي باقتراحِ فَرْضِ واجب الهجرة إلى إسرائيل على كل صهيوني في العالم، وفي الطليعة الزعماء الصهاينة، ليكونوا قدوة حية للشباب اليهودي، مقترحاً عقوباتٍ على أي زعيم صهيوني لا يهاجر إلى إسرائيل خلال أربع سنوات من انتخابه، وذلك بعدم انتخابه مرةً أخرى لأي منصبٍ صهيوني. فما الذي حدث؟!
لقد أثار هذا الاقتراح الذي باركته الأوساط الصهيونية في إسرائيل ردة فعل عنيفة لدى ممثلي المنظمات الصهيونية التي تعمل في الخارج، وخاصة منها الأمريكية الممثلة في المؤتمر. حتى أن رئيسة منظمة "هداسا" النسائية، وهي إحدى المنظمات الصهيونية الرئيسية في الولايات المتحدة، قد أعلنت أن منظمتها قد تضطر إلى الانسحاب من المؤتمر إذا ما جرت محاولة لوضع هذا الاقتراح موضع التنفيذ العملي.
وإذا لم يكن كل الصهاينة إسرائيليون برفضهم الهجرة إلى التجمع الإسرائيلي، فليس كل الإسرائيليين صهاينةٌ أيضاً!!
فهناك من يحمل الجنسية الإسرائيلية ويختلف مع الفكر الصهيوني من منطلقات متباينة وبدرجات متفاوتة. فجماعة "ناطولي كارتا" وهي جماعة صغيرة الحجم من يهود فلسطين الذين ظلوا فيها منذ الزمن القديم، ترفض الصهيونية وفكرتها ودعوتها من منطلقٍ ديني، ولا تعترف بالتالي بالثمرة الصهيونية التي هي دولة إسرائيل، وتعتبرها ثمرة الغطرسة الآثمة، لأنها قامت على أيدي نفرٍ من الكافرين الذين حرفوا مشيئة الرب بعملهم، وتدخلوا بالتالي في صنعه بدل الانتظار لما وعد به.
وهناك جماعة " الماتزين"، التي تُعْتَبَر تنظيما سياسيا إسرائيليا معاديا للصهيونية، تكوّن في أوائل الستينيات. ويرى هذا التنظيم أن التجمع الإسرائيلي الاستيطاني قد أقامه الاستعمار وما زال يدعمه عسكرياً ومادياً لضرب حركات التحرر الوطني في المنطقة وفي العالم.. ولا ننسى حزبي "ماكي" و"راكاح" وغيرهما من القوى الصغيرة التي لا تؤمن بالصهيونية بل تعاديها.
وإذا تجاوزنا علاقة اليهود بالصهيونية لنعكف على معرفة علاقة غير اليهود بهذه الحركة، فإننا نكون بصدد وضع أيدينا على بيت القصيد في منظومة المصالح الاستعمارية في العالم وفي المنطقة العربية. فالأصولية المسيحية ممثلة في البروتستانتية المتطرفة بالدرجة الأولى، والاحتكارات الرأسمالية الدولية وشبكتها الأخطبوطية في العالم، والمُجَمَّع الصناعي الحربي في الغرب وكارتلات الصناعات الكبرى، ومجموعة المحافظين الجدد الذين يقفون على رأس المؤسسة الغربية التي تقود هذه الشبكات الاقتصادية وتشرف عليها. هؤلاء جميعاً هم في حقيقة الأمر الصهاينة الحقيقيون الذين أسس أسلافهم الفكر المسيحي المساند للصهيونية والذين يتبعون خطى هؤلاء الأسلاف بمنتهى الإخلاص، والذين يرعون الصهيونية اليهودية، الواجهة الأمامية والقاعدة المتقدمة لكل نشاطاتهم وأجنداتهم على ظهر هذا الكوكب.
خلاصة القول إذن أن الصهيونية تيار فكري سياسي اقتصادي عالمي، غربي الروح، إمبريالي الجوهر، يهودي المظهر، استيطاني الشكل، عنصري السِّمَة. وهو بهذا المعنى يسري عليه ما يسري على غيره من التيارات الشبيهة، وأما الإسرائيلية فهي جنسية يسري عليها ما يسري على سواها من الجنسيات والتابعيات، وأما اليهودية فدين ودين فقط.
وبناء على ما سبق، فإننا كي نفهم جيداً حقيقة التجمع الإسرائيلي وحقيقة صيرورته وحقيقة بنائه وطبيعة ارتباطاته، يجب أن نفهم أولاً وقبل كل شيء التناقض الرئيسي فيه، هل هو التناقض بين أحزابه السياسية المختلفة؟! أم هو التناقض بين شبابه وشيوخه؟! هل هو التناقض بين أغنيائه وفقرائه؟! أم هو ذلك التناقض المتأصل بين أتباع الأصول الحضارية المتباينة الذين يضمهم؟! أم لعله غير ذلك كله؟!
لقد كانت هناك تناقضات هامة بين المهاجرين الشرقيين (السفارديم) والمهاجرين الغربيين (الأشكنازيم). فبالنسبة للعديد من اليهود الشرقيين كانت حياتهم الجديدة في إسرائيل تمثل إنجازاً واقعياً لتراثهم الديني اليهودي، لكن بالنسبة لمعظم اليهود الغربيين فقد كانت الحالة الإسرائيلية تمثل نبذاً لماضيهم اليهودي الذي بسببه عاشوا حياة الذل في الجيتو الأوربي.. أليس هذا تناقضاً خطيراً يرجع إلى التباين في الأصول الحضارية لكل من اليهودي الشرقي واليهودي الغربي؟!
تثبت الأرقام والإحصائيات أن الإلحاد ينتشر بشكل مثير وملفت وسط "الأشكنازيم".. لماذا؟!
لأن اليهودية الأرثوذوكسية، أي المتشددة أو المتطرفة، توحي للأشكنازيم بصورة يهودي روسيا البائس الذي كان يعاني من الكبت والقمع، وهي الصورة التي يود يهود أوربا نسيانها بأي شكل، ولكن هؤلاء اليهود الأشكنازيم الذين يرون في ماضيهم اليهودي عاراً وخزياً يجب محوه من الذاكرة والقضاء على روابطهم به شكلاً ومضموناً، لا يستطيعون فعل ذلك بالتحول إلى الديانة المسيحية أو الديانة الإسلامية، وإلا ترتب على ذلك عدم احتوائهم في إسرائيل حيث تُمارس التفرقة الدينية على أشد صورها، فليس – والأمر كذلك - من سبيل أمام هؤلاء الأشكنازيم الذين يريدون شطب أسمائهم من قائمة الماضي البغيض، إلا أن يتحولوا للإلحاد ورفض الحل الأرثوذوكسي للعلاقة مع التراث اليهودي الذي يتبناه أكثر اليهود السفارديم. فبإلحاد الاشكنازي يمكن بقاؤه إسرائيلياً، بل ويمكن قبول وصفه بأنه يهودي ملحد، خاصة بعد أن أصبح اليهودي يتعامل مع يهوديته كقومية وليس كديانة، لكن من المستحيل تَفَهُّم صيغة يهودي مسيحي، لأنها صيغة عديمة المعنى.
إن ما يكرهه الأشكنازيم في السفارديم، هو أنهم يذكرونهم من خلال حفاظهم المفرط على التقاليد الدينية المتوارثة بالأحوال الاجتماعية والثقافية التي كانت سائدة في الجيتو اليهودي، إن الرغبة العارمة والحقيقية لدى غالبية الأشكنازيم في نسيان ماضيهم والتخلص منه، هي التي أدت إلى التحول الخطير عن تقاليدهم الأصلية وثقافتهم القديمة، وتكاد تتفق معظم التحليلات السيكولوجية التي كُتِبَت جميعها بأقلام يهودية، على أن الأشكنازيم لا يزالون عن وعي أو عن غير وعي منهم يخجلون من ماضيهم.
ولكي يقنعوا أنفسهم بأنهم أصبحوا الآن من الجنس الأبيض، تسيطر عليهم رغبة تصل إلى حد الحاجة الملحة لإبداء الازدراء للعناصر اليهودية التي تشبه معتقداتها وعاداتها، معتقدات وعادات أسلافهم في الجيتو الأوربي. ومن هنا فإنهم يشعرون بنزعة قاهرة للاستخفاف باليهود السفارديم والعرب على حد سواء للاطمئنان إلى أنهم يوسعون الهوة بينهم وبين ماضيهم المخجل الذي يرونه في هؤلاء السفارديم.
إن الأشكناز كي يعمقوا من هذا الإحساس بالابتعاد عن ماضيهم، فإنهم لا يجدون أمامهم سوى السفارديم مرآة تعكس لهم هذا الابتعاد، وكلما زاد احتقارهم للسفارديم واستخفافهم بهم كلما أشبعوا غرورهم. ولعله لهذا السبب راح الأشكنازيم يصرون على النظر إلى السفارديم باعتبارهم إسفين الحضارة العربية البغيضة والمتخلفة التي تذكرهم بماضيهم الأسود، والمزروع داخل المجتمع الإسرائيلي. فهم - في نظر الأشكنازيم – سيكونون أكثر الفئات الإسرائيلية قدرة على فهم العرب والتعايش معهم، فالسفاردي يتحدث العربية مثل العربي، ويمارس الكثير من العادات مثله، وهو في العادة يشبهه، لأنه في الأساس عربي.
ولهذا السبب فإن الأشكنازيم وتجنباً لحدوث مثل هذا التحول في موقف السفارديم تجاه البلاد العربية، يسعون دائماً إلى تأجيج مبررات العداء النفسي في قلوبهم تجاه العرب، كما أنهم يسعون إلى القيام بإجراءات كثيرة للحيلولة دون اختلال موازين القوى داخل إسرائيل لصالح السفارديم، ومن هنا فقد أصبح من الشائع والمعروف أن السلوك السفاردي يُجَسِّد الحقد العميق ضد العرب، وأن السفارديم هم أكثر من كافة الإسرائيليين الأخرين شوفينية وتزمتاً وحباً للحرب ضد العرب وتجسيداً للروح العدوانية الإسرائيلية، وأشدهم مساندة لمبدأ ضم الأراضي العربية المحتلة.
إن السفارديم يشكلون حالياً ما يزيد على (60%) من يهود إسرائيل رغم أنهم لا يمثلون على مستوى العالم سوى (10%) من إجمالي اليهود. بينما يمثل الأشكنازيم (40%) من يهود إسرائيل في حين أنهم يشكلون (90%) من يهود العالم. وتثير هذه الأرقام معضلة تثبت عمق التناقضات في المجتمع الإسرائيلي. فالأصل الحضاري الذي يضم تحت لوائه النسبة الأقل من يهود العالم يمثل أتباعه اليهود غالبية سكان إسرائيل، والعكس بالعكس، فالأصل الحضاري الذي يضم تحت لوائه النسبة الأكبر من يهود العالم، يمثل أتباعه الأقلية في التجمع الإسرائيلي.
لا بل أن المعضلة لا تقف عند هذا الحد، وتتجاوزها إلى ما هو أخطر في دلالته. فالحالوتس الذي نشأ وتكون في أوربا على أنقاض الجيتو، خالقاً إسرائيل التي أرادها نموذجاً ينسيه ماضيه المذل ويقطع صلاته بتراثه القميء الذي يذكره بهذا الماضي. الحالوتس هذا غدا الآن يشكل أقلية في هذا التجمع، فيما النمط اليهودي الذي هرب منه ابن الحالوتس إلى إسرائيل طغى عليه، وأصبح يكون الآن في إسرائيل النموذج والنسبة الأكبر.. أليست هذه الظاهرة تعبيراً عن أشد حالات التناقض غرابة وخطورة على هذا الكيان وعلى البنية السيكولوجية لأبنائه وعلى طبيعة العلاقات القائمة والتي ستقوم بين طرفي المعادلة الحاكمة لهذا التجمع، الأشكنازيم والسفارديم؟!
ولكن هل من الممكن حل التناقضات الحضارية العميقة القائمة بين السفارديم والأشكنازيم لخلق تكوين سيكولوجي موحد لدى أبناء التجمع الإسرائيلي كافة؟!
بادئ ذي بدء علينا أن نسلم من منطلق علمي بأن عادات وتقاليد وقيم اليهود من أبناء مصر مثلاً هي أقرب بالتأكيد إلى الطباع المصرية المسيحية والإسلامية مهما اختلفت عنها، إذا ما قورنت بعادات وتقاليد اليهود من أبناء بولندا مثلاً، مهما كانت نقاط التشابه بينهم. إن اليهودي الألماني أقرب إلى المسيحي الألماني منه إلى اليهودي من أبناء جنوب إفريقيا. لقد عاش اليهود ظروفاً متباينة اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً، وبقدر تباين هذه الظروف كان لا بد من أن تتباين أفكارهم وتكويناتهم الاجتماعية وخصائصهم النفسية.
إن الفهم العلمي للعلاقة المتبادلة تأثراً وتأثيراً، بين البناء التحتي والبناء الفوقي في المجتمع، يبين لنا أن التغيرات التي تطرأ على البناء الفوقي تنمو وتتحرك بمعدلات أبطأ كثيراً من نظيرتها التي تطرأ على البناء التحتي، وبالتالي فإنه بعد أن يتم تغير الظروف الموضوعية، تبقى الأبنية الفوقية متمثلة في الفكر والتكوينات الذهنية والنفسية محتفظة بخصائصها لفترة طويلة.
ولو حاولنا تطبيق ذلك في مجال سيكولوجية الجماعات، لاتضح لنا أن ثمة قناة تربط بين البناء التحتي – أي الظروف المادية العامة - والبناء الفوقي- أي شخصية الجماعة وشخصية الفرد داخل الجماعة – إن هذه القناة تتمثل أساساً في عملية التنشئة الاجتماعية، ثم فيما يرتبط بها من عمليات الاتصال المختلفة.
وذلك يعني أن تغير الظروف المادية المحيطة بتجمع بشري معين لا يمكنه أن يؤدي بشكل فوري إلى تغير في التكوين السيكولوجي لأفراد هذا المجتمع، بل أن الأمر يتطلب أن يبلغ تغير تلك الظروف الحالية الحدَّ الذي تتغير عنده أساليب التنشئة الاجتماعية السائدة.
ولذلك فإن السؤال الخاطئ التالي: "ألا يعيش يهود إسرائيل اليوم في ظل ظروف مادية مشتركة؟! أو لا يعني ذلك بالتالي أن تكوينهم الفكري والسيكولوجي قد أصبح موحداً؟!" يجب أن يعدل ليطرح على النحو التالي: "هل توحدت بالفعل أساليب التنشئة الاجتماعية التي تُمارس في التجمع الإسرائيلي كي نتحدث عن تكوين سيكولوجي موحد في إسرائيل؟!"
هل يمكن التحدث إذن عن شخصية إسرائيلية واحدة في إطار هذا التباين والتنوع في الأصول الحضارية والثقافية لسكان إسرائيل الذين وفدوا إليها من أكثر من مائة دولة، وفي إطار التباين والاختلاف في أساليب التنشئة الاجتماعية بين كل من الأشكنازيم والسفارديم وعلى مستوى عميق من جهة أولى، وبين مختلف المنابت العرقية السفاردية أو المنابت العرقية الأشكنازية، وإن يكن على مستوى أقل عمقاً من جهة ثانية؟!
إن الإجابة على هذا السؤال هي بالنفي قطعاً، فمن غير الممكن التحدث عن شخصية يهودية إسرائيلية واحدة. بل يمكننا الحديث عن شخصية يهودية سفاردية عامة تتضمن داخلها قدراً هائلاً من التقسيمات التكوينية للشخصية اليهودية وفقاً للبلدان الأصلية التي ينتسب إليها هؤلاء السفارديم (العراق- اليمن – مصر – المغرب – الهند – جنوب إفريقيا – إثيوبيا.. إلخ). كما يمكننا الحديث عن شخصية يهودية أشكنازية تمثل يهود وسط وشرق أوروبا، وهم منشئو الحركة الصهيونية ومؤسسو دولة إسرائيل والقائمون على حكمها منذ إنشائها حتى الآن – وإن كنا داخل البوتقة الأشكنازية سنعود لنتوه في خِضم قدر هائل من التقسيمات التكوينية للشخصية اليهودية وفقاً للبلدان الأصلية التي ينتسب إليها الأشكنازيم (بولندا – روسيا – المجر – تشيكوسلوفاكيا – رومانيا.. إلخ).
ومن جديد يلح علينا السؤال التالي: "أيُّ هذه الأنماط السكانية في إسرائيل يعتبر أكثر تجسيداً للشخصية اليهودية الإسرائيلية وتعبيراً عنها في داخل هذا النسيج الفسيفسائي للتجمع الإسرائيلي؟!
إن الشخصية القومية أو التكوين السيكولوجي للجماعة، إنما هي جميعها أبنية فوقية لابد لها من بناء تحتي ترتكز إليه، يفرزها وتتفاعل معه، وهذا يعني أنه لا يمكن أن تكون ثَمة وحدة سيكولوجية بين أفراد جماعة بشرية معينة، إلا بقدر تشابه الظروف الاجتماعية والاقتصادية والتاريخية المحيطة بتلك الجماعة. وانطلاقاً من هذا الفهم يتكشف زيف الادعاء بوجود ما يسمى بالسيكولوجية اليهودية الموحدة، أو بالسلوك اليهودي الموحد، أو بالقومية اليهودية، وما إلى ذلك من تعبيرات يشيع ترديدها في كُتب الصهاينة.
إننا لا نسلم بوجود واقع تاريخي مادي متصل منذ نشأة الديانة اليهودية حتى اليوم، يجمع بين اليهود السوفييت واليهود العرب، أو بين يهود اليمن ويهود ألمانيا مثلاً. وبناء على ما سبق فإننا نستطيع التأكيد على أن هناك سيكولوجيتين أساسيتين على الأقل يمكن أن يندرج تحتهما سكان إسرائيل.
1 - واحدة تضم أولئك اليهود الذين ينتمون لأصول سفاردية بصرف النظر عما إذا كانوا ولدوا بالفعل على أرض فلسطين أو هاجروا إليها مؤخراً.
2 - الثانية، وتضم أولئك اليهود الذين ينتمون لأصول أشكنازية دون النظر أيضاً إلى مكان الولادة الفعلي.
إن إغفالنا لمسألة مكان المولد، قد انبنى على تسليمنا بأن قضية التكوين السيكولوجي هي في الأساس قضية تاريخ وليست قضية جغرافية، ولكي تتمكن الجغرافيا من أن تشكل أساساً للتكوين السيكولوجي يجب أن تتحول إلى تاريخ. أي وبكلمة أخرى، فإن التجمع الإسرائيلي الذي ولد منذ ستين عاماً فقط، ربما يحتاج كي يتمكن من خلق تكوين سيكولوجي موحد لسكانه على هذه الرقعة الجغرافية المسماة إسرائيل، إلى ما لا يقل عن خمسمائة عام كي تتيح للجغرافيا الحديثة أن تصبح جغرافيا بقوة التاريخ.