دولة المرابطين بين التأسيس ... والزوال
أولاً: أصول المرابطيــــــــن
ثانياً: بيئتـــــــــــــهم
ثالثاً: قيام دولة المرابطين ونهايتـها
أولاً: أصـــول المرابطين( )
ينحدر المرابطون من قبيلة لمتونه( ), ولمتونه هي فخذ من صنهاجة، أعظم وأوفر قبائل البربر( )، "وتنقسم صنهاجة إلى سبعين قبيلة منهم لمتونه، وجداله، ومسوفة، ولمطه، ومسراته، وتكلاتة، ومنداسـة، وبني وارث، وبني مسفير، وبني دخير، وبني زياد، وبني موسى، وبني لماس، وبني فشتال"( )، وبلكانة، وأتجفة، وشرطة، ومندلة، وبنو يتيسن ( ).
يقول ابن أبي زرع, "وفـي كل قبيلة بطون وأفخاذ وقبائل أكثر من أن تحصى وهذه القبائل كلها صحراوية... ومنـهم قوم لا يعرفون حِرثاً ولا زرعاً ولا ثمارا، وإنما أموالهم الأنعام، وعيشهم اللحم واللبن، يقيم أحدهم عمره لا يأكل خبزا إلا أن يمر ببــلادهم التجار فيتحفونهم بالخبز والدقيق"( ).
أما نسب صنهاجة فقد أختلف فيه المؤرخون، فيرى البعض من النسابة البربر( )، أنهم من بطون البرانس من ولد برنس بن بربر، وأما المحققون من نسابتهم فيقولون: "هو صنهاج بن عاميل بن زعزاع بن كيمتا بن سدر بن مولان بن يصلين بن يبرين بن مكسيلة بن دهيوس بن حلحال بن شرو بن مصرا يم بن حام"( ), "وقيل صنهاج بن اوريغ بن برنس بن بربر"( )، بينما يرى آخرون أنها تنحدر من العرب اليمانية( )، ويرجعونها إلى حمير بن سبأ( )، فقيل إن صنهاجة فخذ من هواره, وهواره فخذ من حمير يمانيون من ولد الصوار بن وائل بن حمير( )، وقيل ان صنهاجة فخذ من ولد عبد شمس بن وائل بن حمير( )، "وحمير احد العشرة من أولاد سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان بن عامر، بن شالخ بن أرفخشد، بن سام بن نوح عليه السلام"( )0وفي ذلك قال أبو فارس عبد العزيز الملزوزي( ), في أرجوزته:ـ
"مرابطون أصلهم من حميــــر قد بعدت أنسابهم من مضـــــر
وقـــد رأيت في كتاب النـسب قولا بــــــه اعجز أهل الأدب
بان صنهاج سليل حميــــــر وهو ابنة لصلبه لا العنصـــــر
أكرم به من نسب صريـــــح وقل لا تخف من التصريــــــح
عدلهم وفضلهم مشهــــــور ومجدهم وسعدهم مذكـــــور"( )
والخلاف في نسب البربر طويل وفيه أقوال كثيرة إلا انه تم الاختصار والتركيز على ما ذكرته المصادر والمراجع فيما يخص نسب قبيلة صنهاجة التي انحدر منها المرابطون، والتي أشارت بأن أصولها من حمير جاءوا من اليمن واستقروا في بلاد المغرب، "ولاخلاف بين نسابة العرب أن شـعوب البربر الذي قدمنا ذكرهم كلهم من البربر إلا صنهاجة وكتامة, فان بين نسـابة العرب خلافاً والمشهور أنهم من اليمنية وأن أفرقيش( ) لما غزا أفريقية أنزلهم بها"( ), وليس بينهم وبين البربر نسب إلا الرحم، وإنما تبربرت ألسنتهم لمجاورتهم للبربر، ولاختلاطهم بهم كونهم معهم، ولمصاهرتهم إياهم( ).
ولقد أطلق على المرابطين اسم الملثمين لأنهم قوم يتلثمون( )، ولا يكشفون وجوههم( )، وقيل في سبب لثامهم إنهم كانوا يتلثمون في الصحراء، سِنَةً توارثوها خلفاً عـن سلف، حيث إن حمير كانت تتلثم لاتقاء شدة الحر والبرد، يفعله الخواص منهم فلما كثر ذلك فيهم فعلته عامتهم ولما ملكوا البلاد ضيقوا اللثام ليتميزوا فيه عن غيرهم من الأمم( ).
وقيل أن طائفة من لمتونه خرجوا للإغارة على عدو لهم فخالفهم العدو إلى بيوتهم ولم يكن فيها إلا الصبيان والنساء والشيوخ, ولما تأكد الشيوخ بأنه العدو, أمروا النساء أن يرتدين ملابس الرجال, ويتلثمن( ), ويضيقن اللثام حتى لا يعرفن وان يتقلدن السلاح, وتقدم الشيـوخ والصبيان أمامهن, واستدار النساء بالبيوت, فلما اشرف العدو رأى جمعاً عظيماً فظنه رجالا, وقالوا هؤلاء عند حريمهم يقاتلون عنهن قتال الموت, والرأي أن نسوق الغنم ونمضي فان اتبعونا قاتلناهم خارجا عن حريمهم فبينما هم في جمع الغنم من المراعي, فإذا برجال الحي قد اقبلوا فبقي العدو بينهم وبين النساء فأوقعوا بهم وقتلوا من العدو, فأكثروا, وقتل النساء منهم أكثر مما قتل الرجال, ومنذ ذلك الوقت جعلوا اللثام سِنَة يلازمونه فلا يزيلونه, والمقتول منهم في المعركة لايعرفه أصحابه بوجهه بل بلثامه( ), "وجميع قبائل الصحراء يلتزمون النقاب وهو فوق اللثام حتى لا يبدو منه إلا محاجر عينيه ولا يفارقون ذلك في حال من الأحوال ولا يميز رجل منهم وليه ولا حميمه إلا إذا تنقب وكذلك في المعارك إذا قتل منهم القتيل وزال قناعه لم يعلم من هو حتى يعاد عليه القناع، وصار ذلك لهم ألزم من جلودهم وهم يسمون من خالف زيهم هذا من جميع الناس أفواه الذبان بلغتهم"( ).
ويقال في رواية أخرى أن قوما من أعدائهم كانوا يقصدون غفلتهم إذا غابوا عن ديارهم، فيطرقون الحي, فيأخذون المال والحريم, فأشار عليهم بعض شيوخهم أن يبعثوا النساء في زي الرجال إلى ناحية, ويبقى الرجال في البيوت ملثمين في زي النساء, فإذا أتاهم العدو ظنوهم النساء, فيخرجون عليهم, ففعلوا ذلك وثاروا عليهم بالسيوف, فقتلوهم، فلزموا اللثام تبركا بما حصل لهم من الظفر بالعدو( ), كما قيل في سبب ذلك, إنهم يتخذون اللثام في أعراسهم نوعا خاصا من الحجاب( )، وعلى العموم فقد اجمع المؤرخون على ان هذا اللثام يختلف في طبيعته عن لثام الفرسان الذي كان متعارفا عليه في الجاهلية عند العرب( ).
ثانياً: بيئتـــهم
كانت ديار صنهاجة في أفريقيا قبيل الفتح المرابطي, واستقرارهم في قلب الصحراء, ما بين بلاد البربر وبلاد السودان, فاثروا حياة القفر( )، على أية حياة أخرى( ), "فاصحروا عن الأرياف ووجدوا بها المراد وهجروا التلول وجفوها, واعتاضوا منها بألبان الأنعام ولحومها, انتباذاً عن العمران واستئناسا بالانفراد وتوحشا بالعز عن الغلبة والقهر"( ).
يقول ابن أبي زرع: "وتنقسم صنهاجة على سبعين قبيلة ... وهذه القبائل كلها صحراوية, حوز بلادهم في القبلة( ), مسيرة سبعة أشهر طولاً, ومسيرة أربعة أشهر عرضاً, من نول لمطه( ), إلى قبلة القيروان من بلاد أفريقية"( ).
كما ذكر المؤرخون أن أعداد القبائل الملثمة قد زادت وتضاعفت حتى ضاقت بهم منطقة حماهم( )، فتحتم عليهم البحث عن مواطن جديدة، وكانت منطقة الواحات الصحراوية لاتسع عدداً كبيراً من السكان، لأن مواردها محدودة، ورقعتها ضيقة، وكان أهلها إذا ضاق بهم العيش اتجهوا إلى الشمال، صوب الأراضي الخصبة، ولهذا نرى بان صنهاجة الجنوب أول ما اتجهت إلى إقليم الواحات لانتزاعه من زناتة( )، وأقامت، "صنهاجة الجبل ضواعن في قبلة درن( ) إلى درعة( ) وبعضهم في نواحي مكناسة( )، إلى وادي أم ربيع( ) ... ومن تادلا( ) إلى درعة عبر درن متصلة غير منفصلة ... وأما صنهاجة الصحراء فقد انتشرت بين العرق( ) - أطلس الصحراء - وبلاد السودان، منهم رعاة ابل بحكم بيئتهم حتى إن المرابطين لما فتحوا البلاد الغربية اختاروا مراكش عاصمة لهم لان موقعها مسرح خصيب لجمالها"( ).
وعلى العموم فقد حدد المؤرخون موطنا عاما لقبائل صنهاجة، يمتد من غدامس( ) جنوب طرابلس إلى المحيط الأطلسي، في المناطق الصحراوية، التي تلي سلسلة الجبال المعروفة بجبال درن، ومن جبال درن في الشمال، إلى مصب نهر السنغال، بل حتى منحنى النيجر أو يجاوزه بقليل، فتتخطى مضاربهم هذا النهر إلى الشرق، فتصل إلى تادمكة( ), في قلب الصحراء الكبرى( ).
أما الأوطان الخاصة فان لكل قبيلة مضاربها المعلومة، فقبيلة لمطه وجزولة، استوطنت المنطقة الممتدة من جبال درن حتى وادي نول( ), القريبة من المحيط الأطلسي( ), وأما قبيلة لمتونه التي كان موطنهم من بلاد الصحراء يعرف كاكدم( ), أهم هذه القبائل وأقواها، تمتد من وادي نول على المحيط الأطلسي، حتى رأس بوجادور الحالية والى الشرق من وادي نول, تقع مدينة ازكي( ), على مسيرة سبع أيام من وادي نول، وهي حصن لمتونه ومعقلها، وتمتد في الصحراء شرقا, حتى تدرك الطريق الموصل بين غانة وسجلماسة( ), "وهم ضواعن في الصحراء، رحالة لايطمئن بهم منزل, وليس لهم مدينة يأوون إليها، ومراحلهم في الصحراء مسيرة شهرين في شهرين"( )، ويلاحظ أن هذه القبيلة احتلت موقعاً ممتازا, فلذلك كتب لها السيادة على هذه القبائل, لوفرة مالها, وكثرة أعدادها وأهمية موقعها( ).
وتضرب قبيلة جدالة القوية جنوباً حتى مصب نهر السنغال, متخذه مدينة اوليل( ), مركزاً لها, وهذه القبيلة أوفر مالاً وأكثر استقراراً فهي قريبة إلى غانة, وقريبة من اودغست( ), وطريق سجلماسة كما أنها اقرب قبائل الملثمين من بلاد السودان( )، أما قبيلة مسوفة, فتمتد مضاربها في منطقة قاحلة مجدبة, تقع بين سجلماسة في الشمال واودغست في الجنوب, وكانت بعض بطونها تتوغل شرقاً حتى تصل إلى تادمكه, وكوكو( ).
وكان لظهور المرابطين الذين بسطوا نفوذهم من منحنى النيجر في الجنوب حتى البحر المتوسط في الشمال، الأثر الكبير على مواطن القبائل ومركزها في أفريقيا، فاستقرت صنهاجة الصحراء في سهول البلاد الغربية( )، ونزلت لمتونة ومسوفة رحبة مراكش، ثم توالت جموعهم من الصحراء باستدعاء يوسف بن تاشفين لهم أيام نيابته عن أبي بكر بن عمر اللمتوني وثم أيام استقلاله( )، فانتشرت قبائل صنهاجة في معظم أنحاء المغرب الأقصى( )، والسوس، إلا أن تجمعاتهم الرئيسية كانت تعيش في سجلماسة ووادي درعة( ), ووادي السوس( )، وكذلك في المناطق الجنوبية في الصحراء وما وراءها حتى تخوم بلاد السودان وغانة( ).
وقـد حرمت هذه المنطقة من الأنهار الدائمة الجريان ومن الغطاء النباتي الأخضر، والأمطار، التي إن هطلت عليها فأنها قليلة ( )، وتحبس أحيانا لسنوات عدة، ويتعرض سكانها لأكثر الأعوام إلى المجاعة, إلا انه في بعض السنوات تتلقى المرتفعات، كميات من الأمطار، مكونة بعض الواحات القليلة، والتي توزع الملثمون حولها، فنشأت مع مرور الزمن قرى صغيره( )، وأخيرا موطن المرابطين يقابله اليوم موريتانيا ومالي وغانة وأكثر بلاد النيجر( ).
من كل ما تقدم يتبين لنا إن قبائل صنهاجة استوطنت بعد ظهور المرابطين معظم بلاد المغرب العربي( )، فلا يخلو منهم جبل ولا سهل، "ومواطنهم الأصلية أربعة:
1. الناحية الواقعة بين بجاية( )، والمسيلة( )، ومليانة( ), ولمدية( ) بالمغرب الأوسط.
2. الناحية الواقعة بين نهر كرط، وبلاد غماره( ), والبحر المتوسط، بالمغرب الأقصى.
3. الناحية الواقعة بين المحيط الأطلسي ووادي درعة والسفوح الخلفية لجبال الأطلس .
4. مناطق الصحراء الكبرى الممتدة من غدامس إلى المحيط الأطلسي وبلاد السودان بأقصى الجنوب"( ).
ثالثا: قيام دولة المرابطين ونهايتها
قامت دولة المرابطين في النصف الأول من القرن الخامس الهجري/ الحادي عشر الميلادي في الجزء الشمالي الغربي من قارة أفريقيا، والتي ظهرت نواتها الأولى على ضفاف نهر السنغال في جنوب بلاد المغرب الأقصى، على يد الفقيه عبد الله بن ياسين والأمير يحيى بن إبراهيم الجدالي ثم يحيى بن عمر اللمتوني، وتوسعت حتى ضمت المغرب كله والأندلس( )، وقامت على أسس إسلامية تبنتها وأهمها: الجهاد في سبيل الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتزام أحكام الدين( ).
كان المغرب الأقصى في النصف الثاني من القرن الخامس الهجري /الحادي عشر الميلادي يعيش محنة سياسية واقتصادية ودينية لضعف السلطة المركزية وانعدامها في بعض الفترات، فكانت نهبا لقوى متصارعة فيما بينها، ومن هذه القوى قبائل غماره في الشمال وموطنها جبال الريف، وإمارة برغواطة( ) في الغرب ومقرها إقليم تامسنا( )، والإمارات الزناتية وهي إمارة بني خزرون في درعة وسجلماسة، وإمارة بني زيري بن عطية الزناتي( ) في فاس( )، وإمارة بني يفرن في سلا( )، وتادلا، وإمارة بني توالي- بني يخفش- والتي تقع إمارتهم في بلاد فازاز، في منطقة الأطلس الأوسط وكذالك مجموعة البجليون ( )، في منطقة السوس ومجموعة الوثنين في الجنوب( ).
لقد ترتب على سوء الأحوال السياسية تدهورا في الأوضاع الاقتصادية وارتفاع الأسعار ونضوب المواد الضرورية من الأسواق، واشتد الخوف، وخيم شبح الجوع والغلاء، حتى قيل إن أوقية البر( )، كانت تباع بدرهم( )، وانتشرت الشعوذة والبدع وكثر المتنبئون خاصة في غمارة فترتب على ذلك التحلل من القيم الإنسانية النبيلة( )، وقد عبر ابن أبي دينار، عن هذه الحالة السيئة بقوله: "وقام بالمغرب عدة أقوام من المفسدين وقليل من المصلحين"( ).
وشجعت أحوال المغرب السيئة أعداء الإسلام على الإغارة على السواحل المغربية، فأغار النصارى عليهم في عقر ديارهم، فكان المغرب بظروفه السياسية والاقتصادية والدينية المضطربة بحاجة ماسة لحركة إصلاحية تلم شعثه وتوحد قواه( )، وفي هذه الظروف اجتمعت قبائل صنهاجة وتحديداًَ قبائل "لمتونة وجدالة ومسوفة وتحالفت لتواجه الظروف التي مر بها المغرب، وكانت لمتونة قد تولت رئاسة هذه القبائل والسيطرة عليها"( )، حيث أول من ملك بلاد الصحراء بأسرها يتلوتان بن تلاكاكين الصنهاجي اللمتوني، المتوفى سنة 222هـ/836م، ودان له به أزيد من عشرين ملكا من ملوك السودان كلهم يؤدون له الجزية( )، ثم افترق أمرهم سنة 306هـ/918م، وانقسموا شيعاً، وصار ملكهم طوائف، زهاء مائة وعشرين عاماً إلى أن قام فيهم الأمير أبو عبد الله محمد بن تيفاوت المعروف بتارشتا اللمتوني، (400- 403هـ/1009- 1012م)، فاجتمعوا عليه وقدموه على أنفسهم، فلم يدم حكمه سوى ثلاثة أعوام، إذ استشهد في إحدى غزواته ضد بعض قبائل السودان الوثنية، فولي الأمر بعده صهره يحيى بن إبراهيم الجدالي، (403- 434 هـ/1012- 1042م)، وجدالة شقيقة لمتونة وبطن آخر من بطون صنهاجة( ).
وكان يحيى بن إبراهيم يتحين الفرصة لإخراج قومه من التخلف والجهل بتعاليم الإسلام وأصوله( )، واتته الفرصة في عام 427هـ/1036م، عندما رحل إلى المشرق لأداء فريضة الحج( )، وعند عودته استطاع أن يصطحب معه عبد الله بن ياسين احد تلاميذ الفقيه واجاج بن زلو اللمطي( )، فعاد يحيى به إلى قومه فرحا وشاركه قومه الفرحة واستقبلوه بمنتهى الحفاوة والتكريم( ).
فاخذ عبد الله بن ياسين يبث تعاليم الدين الإسلامي بين أولئك البدو الصحراويين( )، الذين وجدهم لا يعرفون من الإسلام إلا اسمه وغلب عليهم الجهل، وانحرفوا عن مبادئ العقيدة الصحيحة( )، يبصرهم بأحكام الدين ويأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، فشدد عليهم، وطالبهم بالإقلاع عن التقاليد المنافية للإسلام( )، فتعلق به الفقراء وعامة الناس( )، واصطدمت تعاليمه بمصالح بعضهم( )، فاخذوا ينصرفون عنه، ويعرضون عن تعاليمه، لما رأوا أن لا صبر لهم على تحمل التكاليف الشاقة التي يكلفهم بها، رفضوا الأخذ عنه فثاروا عليه وكادوا يقتلونه( )، إلا انه غادر ديار الملثمين ومعه سبعة أفراد مع الأمير يحيى بن إبراهيم الجدالي إلى حوض نهر السنغال، لتأسيس رباطه المشهور في الجزيرة التي أشار عليه بها الأمير يحيى( ).
وبعد انتشار أمره، ووفود الناس إليه لم تمر فترة وجيزة حتى اجتمع له ألف رجل من أشراف صنهاجة، فسماهم بالمرابطين للزومهم رباطه( )، وبعدها ندبهم لجهاد من خالفه من قبائل صنهاجة، فبدأ بقبيلة جدالة فأخضعهم إلى طاعته ثم سار إلى قبيلة لمتونة وقاتلهم إلى أن أذعنوا لطاعته وبايعوه على إقامة الكتاب والسِنَّة، ثم سار إلى قبيلة مسوفة فقاتلهم حتى أذعنوا له وبايعوه على ما بايعته لمتونة وجدالة( )، "ولما وثق بولاء لمتونة وشدتهم حرضهم على تجاوز حدود الصحراء إلى سجلماسة ودرعة لضرب زناتة المغراوين والسيطرة على مدنهم"( )، ثم توفي يحيى بن إبراهيم الجدالي، فجمع عبد الله بن ياسين رؤوس القبائل من صنهاجة وولى عليهم يحيى بن عمر اللمتوني، وقد اختصه بشؤون الحرب والسياسة بينما احتفظ هو بالتوجيه الديني، واستقام الأمر ليحيى بن عمر اللمتوني وملك جميع بلاد الصحراء وغزا بلاد السودان ففتح كثيراً منها إلى أن استشهد في بعض غزواته ببلاد السودان سنة 448هـ/1056م( ).
وولى ابن ياسين مكانه أخاه أبا بكر بن عمر اللمتوني، وبايعته لمتونة وسائر الملثمين وأهل سجلماسة ودرعة، وأمره بمتابعة الفتح باتجاه الشمال، فغزا بلاد المصامدة وبلاد السوس، ففتح بلاد السوس سنة 448هـ/1056م ثم فتح ماسة، وتارودانت، وتمكن من فتح مدينة اغمات( )، سنة 449هـ/1057م، ثم بلاد المصامدة( )، وجبال درن سنة 450هـ/1058م، ثم غزا بلاد تادلا، ثم دعا المرابطين إلى جهاد برغواطة الذين كانوا بتامسنا فكانت لهم فيها وقائع وأيام حتى استشهد في بعضها عبد الله بن ياسين سنة 450هـ/1058م( ).
لقد استمر أبو بكر بن عمر في إمارة قومه وتمكن من فتح بلاد فازاز وجبالها وسائر بلاد زناتة، وفتح بلاد مكناسة، ثم اقتحم مدينة لواتة( )، سنة 452هـ/1060م ثم عاد إلى اغمات، فشرع بالعودة إلى الصحراء سنة 453هـ/1061م( )، للجهاد في بلاد السودان، وحل الخلاف الذي حصل بين جدالة ولمتونة( )، فاستخلف على اثر ذلك على المغرب ابن عمه يوسف بن تاشفين( ).
اخذ يوسف بن تاشفين، ( ت: 500هـ/1106م)، يتابع جهاده في عسكره من المرابطين واختط مدينة مراكش سنة 454هـ/1062م، وغزا قبائل المغرب قبيلة قبيله حتى أخضعها، ليكلل نجاحاته بالاستيلاء على مدينة فآس سنة 462هـ/1070م، وبذلك يكون يوسف قد فتح جميع بلاد المغرب الأقصى عدا سبتة( )، وطنجة( )، وكان على اتصال مع أميره أبي بكر بن عمر، الذي عاد إلى ديارهم فوجد يوسف بن تاشفين قد استبد علية ففطن لذلك وتجافى عن المنازلة، فسلم الأمر ليوسف بن تاشفين، ورجع إلى الصحراء إلى أن استشهد سنة 480هـ/1087م، ثم سار يوسف بن تاشفين فتمكن من فتح مدينة تلمسان( )، وبذلك امتد الى المغرب الأقصى( )، وظل على ديدنةٌ في الجهاد في المغرب والأندلس حتى وفاته، ثم قام بالأمر من بعده ابنه علي بن يوسف، ( 500- 537هـ/1106- 1143م)، وهو يحكم ما كان بيد أبيه من العدوتين بأحسن سيره حتى وفاته سنة 537هـ/1143م( ).
ثم تولى الأمر بعده ابنه تاشفين بن علي بن يوسف، ( 537- 539 هـ/1143- 1145م)، وقد بايعه أهل العدوتين، إلا أن أمر الموحدين الذي ظهر على عهد ولاية أبيه قد استفحل وانتشر سلطانهم، فخرج من مراكش ونزل مدينة تلمسان، غير ان الموحدين قصدوه ففر إلى مدينة وهران( )، حيث فقد هناك سنة 539هـ/1145م، فاستولى الموحدون على المغرب الأوسط، بعدها بويع إبراهيم بن تاشفين بن على بن يوسف بمراكش إلا أنهم خلعوه لعجزه، فولي مكانه عمه إسحاق بن علي بن يوسف وعلى عهده كان الموحدون قد ملكوا جميع بلاد المغرب، فقصدوه الى مراكش فخرج إليهم في خاصته فقتلوه سنة 541هـ/1147م، وبمقتله انتهت دولة المرابطين( ).
بقلم
حامد زتو الشرابي