تدبـُّر الأمثال القرآنية -7
(كمثل جنة بربوة)
بسم الله الرحمن الرحيم
وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَتَثْبِيتًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ 265 (البقرة).
لقد سبق هذا المثلَ مثلٌ مشابه (انظر المثل الخامس) يصور إنفاق المؤمن بالله في أحد سبل الله بـحبَّة من القمح أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مئة حبة.
تربة وأرضية هؤلاء المؤمنين سوية خصبة تصلح لإنتاج الغذاء الأساسي للإنسان وهو القمح ، ومثل كل وحدة إنفاق تنتج بفضل الله وإخلاص النية، نبتة قمح فيها سبع سنابل ، في كل سنبلة مئة حبة والله يضاعف لـمن يشاء .
وأما هذا المثل فيصور نـموذج إنفاق صنف من المؤمنين ذوي درجة إيمانية أعلى من المثل السابق ، درجة إنفاق الراسخين في العلم المتثبتين منه ولا يبتغون من إنفاقهم إلا ابتغاء مرضاة الله، فمثل تربة وأرضية هؤلاء المتقين المحسنين كمثل جنة بربوة (أي بستان ذي أشجار عالية تخفي من يعيش ويسير بينها، وهي مزروعة في أرض خصبة مرتفعة ) عميقة الجذور متثبتة في الأرض ( متجذرة بعمق) وذلك بكثرة الأعمال الكبيرة الخالصة النية ، وميزة هذه الربوة أنها خصبة التربة مرتفعة المكان وبذلك تستقبل أشعة الشمس والأمطار الغزير والخفيفة التي تنفعها بأي درجة كانت ، لأن أشجارها راسخة عميقة الجذور تشرب من مخزونها الباطني أو ما تدره السماء عليها من أمطار. فتؤتي أكلها (من الثمار الناضجة ) أضعافاً مضاعفة، ولذلك ورد عن أقوال الصالحين : "ذرة من أعمال أهل القلوب توازي عمل الثقلين". والله هو البصير بما يعمل الإنسان كما يعلم نيته من كل عمل.
فهم ينفقون مما علمهم الله من علم راسخ، كما ينفقون من أموالهم بحكمة مبصرة ، فالصدقات الحكيمة توضع في مكانها المناسب ولو كان المال المنفق قليلاً فالأمور نسبية ، فمن يتصدق بدرهم ولا يملك إلا درهمين فإنه تصدق بنصف ماله ، فإذا وضعه في منابع نشر العلم وإحقاق الحق ليس كمن تصدق بدرهمين وهو يملك عشرات أو آلاف الدراهم ، ولو كانت الصدقتان خالصتان لله . فالأولى تشبه شجرة مثمرة بربوة ، بينما تشبه الثانية حبتا قمح أنبتت كل حبة سبع سنابل.
ويصبح معنى الآية وهي واضحة :
يشبه إنفاق الراسخين في العلم المتثبتين من إيمانهم ، ونـــيــتهم من الإنفاق ابتغاء مرضاة الله تعالى ، كمثل بستان كثيف الأشجار المثمرة المزروعة بربوة عالية تنـتفع بالأمطار الغزيرة أو القليلة، لأن الله عليم بحيويتها ومصادر سقايتها وإروائها. وتمثل الأمطار هنا النفحات الإلـهية التي تصيب النفس المؤمنة فتثيرها وتهيجها وتزيدها قرباً لله تعالى. ففي الحديث الشريف:
ألا إن لربكم في أيام دهركم لنفحات ، ألا فتعرضوا لها، فلعلها أن تصيب أحدكم فلا يشقى بعدها أبدا)
هذه الجنات تؤتي أؤكلها دائماً أضعافاً مضاعفة، فينتفع بها عامة الخلق طعاماً وفاكهة تبث السعادة في نفوسهم. والحمد لله تعالى.