رَجْعُ أقدَام
... إذ لم يكن بالنسبة إليه كنزاً ثميناً يطمع أن يظفر به بعد سفر قاصد وحفر غير عميق، أو يداً ممدودة إليه على وشك أن يصافح صاحبها في لقاء قريب وسير نحوه حثيث، بل كان حلماً شق عليه تحقيقه في اليقظة والمنام، وأفقاً يراه بعيداً صعب المنال ...
قبل أعوام جلس مرهفاً السمع في مكان عزيز عليه، وقد لاحت منه سمة الوقار، وكسى الهدوء وجهه، والدمع أضاء عينيه بعد عصر يوم اثار لديه بما حفل به من أحداث ولقاءات ذكريات ذات شجون، وبعثه كل ما كان يجري حوله يومها على تذكر أناس قضوا يعرفهم حق المعرفة، كثيراً ما جالسهم وجالسوه، وألفهم مستأنساً بهم وألفوه ...
أرسل نظرة أولى من مكانه إلى دار عتيقة هناك، فتمثل أهلها واحداً واحداً، وهم مجتمعون في فنائها الواسع يتحدثون بما لذ وطاب من الكلام، ويقصون ما أورق وأزهر من الحكايات النادرة ...
بعث العائد من جديد بنظرة ثانية إلى شجرة معمرة هنالك، فذكره ظلها الوارف بأحاديث طريفة كان يتقاسمها مع شيخ ظريف جليل، ثم امتد بنظرة ثالثة إلى مسجد صغير، فعادت صومعته القصيرة بسمعه إلى صوت أذان شجي، كان يسحر قلبه، ويأسر لُبه، وظل يشرق كل يوم في أعماقه خمس مرات، فلازمه صداه منذ أن استقبلته أذناه، ولم يفارقه قط حتى بعد هجرته إلى تلك البلاد القصية، التي انفق فيها أعواماً طويلة ...
عرج بنظرة رابعة على بئر ماء قديمة عميقة، ودلو أسود مائل قد وضع على حافتها، وشد وثاقه بإحكام إلى حبل غليظ، فاستيقظت في ذهنه ذكريات له مع تلك البئر، ومع من كانوا يترددون عليها مرات كل يوم يستسقون ماءها العذب الزلال، ثم إنه لم يبخل بنظرات أخر على أطلال لها في قلبه نبض متفرد ومعزة خاصة، فما كاد يفرغ من سياحته الخاطفة ببصره فيها، حتى تقاطرت العبرات صامتة من عينيه، وتدفق في سمعه رجع أقدام على الطريق الماثلة أمامه لأحباء عز عليه فراقهم ورحيلهم منذ زمن بعيد ...
د. عبد الفتاح أفكوح - أبو شامة المغربي
aghanime@hotmail.com