هذيان كل يوم
بين الأشجار المتكاثفة الأغصان وعلى الحشائش المتعطشة كان مجلسهما حيث يسترقان من الزمن هنيهة يهدهد القلبان بعضهما بعيدًا عن المدينة التي يلتهم زحامها المشاعر حين تتشعب الطرق المزدحمة بالمشاة الذين ربما لا تهتدي خطواتهم إلى أهدافها ، وتلك البنايات التي تحوي في جنباتها الآلام ولا تبوح شرفاتها إلا بالأقنعة المخفية وراءها أسرار الحياة الصعبة في الأحياء البائسة التيهي بذاتها تحلم أن تسير كالجبال يوم القيامة لتزور تلك الأحياء التي فاح عبقها ورقصها وموسيقاها وطربها بشجنه ومجونه . حتى البنايات تطمع في تلمس الانفلات من حالها
تحت أعطاف الخميلة مالا بعطفيهما ... احتضنت راحتاه يدها التي أوت إلى فراشها الوثير واستراحت من عناءات الأيام التي عانقتها الريح وأدوات الطبخ والتنظيف ، وكأنها بين كفيه تستشفي من أدوائها ، وتستجم على بحيرة زهرية تهفو على ضفافها فراشات ألوانها ضيائية الملامح ترقب تلك اليد وقد تمددت ملقية كل خلاياها تستحم بومضات الشوق المنبعث من قبة اليد العليا إلى فضاءات اليد السفلى وبينهما هذه الورقاء التي انتبهت أنها هنا شاكية مما هدد العالم أنه ذابحها لا محالة ، فقد طلبها الصياد وصوب وهو الآن يسدد البارود طالبًا هذه اليد التي ترى أنها ملك لحاضنها .
ارتعدت في راحتيه ارتعادة المحموم الذي كان قد غفى هروبًا من الجحيم المتقد في خلاياه ... رفعت يدها الأخرى التي كانت قد عبثت بالحشائش ما عبثت ، واقتلعت منها ما اقتلعت وأطبقتها على يده ، وكأن العشق كله انحدر إلى الأيدي ... مال وكأنه النسيم مقبلاً يدها كأنه يتنفس آخر الأنفاس ... رفع رأسه لتلتقي العيون تحمل التحدي المقاوم لكل الانكسارات ... غاصت كل عين بعين تحتضنها حينًا ، وتفتش في حناياها عن عالم غير العالم وقانون بلا صياد ولا مقصلة صنعت من الفقر والقهر والحرمان تقص رقاب الآمال .
تبادلا الآراء في صمت الشفاه ونطق العيون ... توترت اللحاظ كلما حف الحفيف ، أو تهامست الأشجار ... لم يدركا أن الأشجار أحياء ترقب وتمدح وتهجو ... رفعا رأسيهما حين هوت وريقات من غصن مال يسترق السمع ، أو أنه أراد أن يكون بينهما في لحظة البوح ، أو أن الشجرة أرادت أن تضربهما لما بدى من ضعف و انهيار ... ودا لو أن الجزع ينفتح ليهربا داخله ليبدأ التاريخ من جديد ... ضمها وضمته في اتحادية التوحد ... وقفا ... تجردا من ثيابهما ... مازالت العيون تحكي أسرارها ... تجردا ... بديا عاريين ...تعريا وتعريا وتعريا ... من الثياب ... من الغبار وأتربة الشوارع التي حملت رائحة العرق المتساقط عليها من اجساد الكادحين وخلت من بقايا الطعام الذي لم يكن يتبقى منه شيء ... من المقصلة ... من الزحام ... من الهواجس والظنون .
تعريا ... إلا من عفة هي ما أبقت لهما السنون .
تذكرت أن جيب أبيها لا يختلف عن جيبه أو جيب أبيه ، فالزوار ممنوعون من الإقامة فيه ، وتذكر أن طبخ أمها لا يختلف عن طبخ أمه ، وتذكرا كم فرقهما الزحام ... كم وأدت المشكلات أحلامهما ... وتذكرا ألف مقصلة ... الأسوار ... أسوار نارية ... وأسوار وردية ...وتذكرا ...
قررا أن يتحولا إلى بذرتين فالبذور تتحول أزهارًا ، الأزهار تتلاقح ما شاءت ، تهمس ما شاءت ، أشواكها تحميها ..... وتحنو ما شاءت ...تصبح أشجارًا تتعانق في فضاء الغابة وبين نسائمها ، ودفئها ورعودها .
انحنيا ... ركعا ... استقبلتهما الأرض ... تضاءلا ... تحولا ...ارتجفا لرطوبة الأرض ... هبط غرابان أسحمان ... حمل كل منهما بذرة في منقاره ... صرخا ... تضاحك الغرابان ... طار كل منهما إلى حيث طار .
مأمون المغازي
الأربعاء 8 / 11 /2006