مَلامِحُ الشَّخصيّةِ في القِصَّةِ القَصِيرةِ جِدّاً
د. يوسف حطيني
أولاً ـ نقاط الاتصال والانفصال:
لا يمكن لامرئ أن يتخيّل قصة دون شخصيات، أياً كان نوعها وشكل حضورها، ذلك أنّ الشخصية هي التي تصنع الحدث، والحدث هو لبّ الحكاية التي لا تقوم قصة من دونها. وينبغي ألا يقود ذلك إلى نوع من المبالغة، كالادعاء بأن الشخصية أهم أركان القص، فليس ثمة ركن أهم من آخر، بل إن الأركان تتضافر فيما بينها لتقديم بنية القصة ورؤيتها . كما أن هذا الحضور للشخصية لا يشترط فيه أن يكون مفصّلاً: جسمياً ونفسياً وبيئياً، ولا ينقل للقارئ، بالضرورة، شخصية من لحم ودم، كما يحبّ بعض النقاد أن يقولوا حين يمتدحون تفاصيل صفات الشخصية عند قاص أو روائي معين، فالشخصية في نهاية الأمر ليست من لحم ودم، بل من أحرف وكلمات، يسهم القارئ في حمل إشاراتها، وتحويلها من ثمّ إلى واقع إبداعي، يختلف باختلاف القارئ وثقافته وبيئته.
على أن القصة القصيرة جداً لا تقدّم من الشخصية سوى ضروراتها القصوى؛ إذ ربما تكتفي من البطل بنظرة من عينيه، أو إشارة من إصبعه، أو كلمة من شفتيه، ويبدو عندها رسم الشخصية أكثر اختزالاً، وأندر تنوعاً، وأقل عدداً مما نراه في القصة القصيرة.
وإذا كنّا نجد في الرواية شخصيات مرسومة جسدياً ونفسياً وبيئياً، عبر طرق البناء المختلفة من وصف وحوار ونجوى وحركة... إلخ فإن ذلك يغدو في القصة القصيرة مقتصراً على شخصية البطل في معظم الأحوال، أمّا في القصة القصيرة جداً فإن وصف الشخصيات، بما فيها البطل، يشبه إشارات برقية، يلتقطها القارئ ليجمع نثار الصفات والسلوكيات. وكثيراً ما يبحث القارئ في القصة القصيرة جداً عن وظائف الشخصيات المختلفة إلى جانب الشخصية الرئيسية (كالشخصية المساعدة والمكمّلة والطيفية) فلا يجدها، حتى إنه قد لا يجد الشخصية المضادة التي تعوّق مشروع الشخصية الرئيسية؛ إذ يكتفي القاص حين ذاك بتصوير ظرف مضاد أو بيئة مضادة.
وإذا أراد الناقد أن يقدّم نماذج الشخصيات ووظائفها وطرق بنائها في القصة القصيرة جداً، فإنه لا يستطيع أن يجد ذلك التنوع في قصة محددة، لذلك سيكون لزاماً عليه أن يلجأ إلى عدّة قصص حتى يتمكن من التمثيل لكلّ ذلك.
والشخصية في القصة القصيرة جداً هي، في معظم الأحوال، مجرد حامل لوظيفة فعلية، فلا يحتمل قِصَرُ النص تنوّع وظيفتها وتغيّر شكلها، ومن هنا فإنّ المنوط بالكاتب أن يعي وظيفة شخصيته، ويستثمر العنصر الأنسب فيها لبناء الحكاية، سواءٌ أكان هذا العنصر مظهراً أو جوهراً أو سلوكاً أو حديثاً أو نجوى....
وإذا كانت الرواية والقصة القصيرة تفترض شخصية تغيّر شكل الحدث من المستقرّ إلى نقيضه، فإن من المفترض في القصة القصيرة جداً أن تبدأ بالنقيض الذي تحمله الشخصية المأزومة منذ اللحظة الأولى، تاركة للقارئ مهمة تخيّل الاستقرار القبلي.
وإذا أخفق القاص في تقديم الشخصية وسط أزمتها، فإن ذلك سيقود الحكاية إلى نوع من الترهّل الذي لا يناسب هذا الجنس الأدبي الساعي لالتقاط الحالة الطارئة. ولعلنا نشير هنا إلى قصة "عجوز" لمحمد محقّق التي لم تنجح في تقديم الحكاية، فقد بدأ الكاتب برصد الشخصية في لحظة استقرار، تيمّناً ببعض القصص القصيرة، وأنهى قصته في سياق محدود من الكلمات، إخلاصاً للقصة القصيرة جداً، فوقع بين ضغط الحجم واستقرار الشخصية، وهذا ما قاده إلى تقديم حالة سردية لا ترقى إلى الحكاية، على الرغم من أنّ الحكائية قلما تفلت من بين يدي هذا القاص في قصصه الأخرى. تقول القصة:
"في دهشة عقارب الصمت
تجلس على عتبة الليل
تحاور وحدتها الموحشة
وتحتضن الماضي الدفين ".
مثل هذا الاستقرار في التقديم الافتتاحي للشخصية قاد القاصة عائشة الكعبي في قصة "ترقّب" إلى إنتاج حالة سردية مشابهة، لا تقدّم حكاية، لأنها غير قابلة للتطور، وكان من الممكن أن تفعل ذلك لو أنها بدأت مع الشخصية في ذروة أزمتها، أو لو أنها خرجت إلى سرد القصة القصيرة، لتنسج على مهل أزمة قابلة للتطوير:
"من خلف ستارة بيضاء، أستشعر ارتجاجات باب غرفتي..
حين تقرع أبواب الغرفة المجاورة ".
إن السرد الافتتاحي للشخصية في القصة القصيرة جداً شيء يشبه فن الكاريكاتير، يختار فيه الفنان أكثر ملامح الشخصية مناسبة للدلالة، من أجل إظهار تناقضها وأزمتها، بالمقارنة مع السياق الطبيعي، ليخلق من خلال ذلك صدمة للمتلقي تقوده إلى التأمّل في المعاني الكامنة وراء ذلك الملمح البارز.
في قصة "تباعد" لسناء بلحور يولد الرجل كبيراً، مما يشكّل مفارقة ناجحة، بالمقارنة مع السياق الطبيعي، صالحةً للبناء عليها، من خلال حدث غرائبي؛ حيث يبدأ هذا الرجل بالعودة خلفاً نحو الشباب:
"ولد شيخاً... خافوا منه ومقتوه... وتخلّوا عنه...
كان كلّما قطع أشواطاً من الزمان، شبّ واعترته طراوة وحسن... آنذاك أحاطوا به، أحبوه، لكن... تخلّى عنهم ".
ويلاحظ أنّ القصة القصيرة جداً قلّما تطرح شخصيات محايدة، أو شخصيات تنمو وفقاً لتطور ظروف تفصيلية، بل تطرح شخصيات نامية تتعرض لظرف مضاد (لا لظروف مضادة) لتنتقل من حالة الأزمة إلى حالة الفعل السردي الذي يقودها إلى اكتمالها الفني.
في قصة "مغتصبة" ينجح مأمون حرش في رصد شخصيتين في أوج أزمتهما، ويستنتج القارئ ما سبق عقدة الحكاية من أحداث قادت إلى تلك الأزمة، وأمام ظرف المواجهة تنفرج الأزمة عن نفاق اجتماعي يغفر للذكر ما لا يغفره للأنثى:
"تدخلُ حريقاً،
ويدخل حمّاماً...
بعد الخروج..
هي.. يلفظها المجتمع...
وهو.. تضوع رائحته وتنقاد له أخرى ".
ونشير هنا إلى أنّ الشخصية خيار فني يبدعه خيال الكاتب، دون سلطة من أحد، باستثناء سلطة النص، الذي يجعل الشخصية حرّة بمقدار ما تسمح اشتراطاتها الفنية البنائية والفكرية. في قصة "النصّاب" يسند القاص والناقد حميد ركاطة أفعالاً متعددة (حرّة) للجماهير المحكومة بأيديولوجية التبعية والعمى المطلق، فتقف بحريتها الكاملة، في لهيب الحَرّ، منتشية بكلمات الزعيم، سابحة في أحلامها الوردية، فيما يعبث هو، حرّاً، في حريتها المقيّدة بشرط الرؤية التي تحكم هذه القصة:
"وهو يخطب فيها، كانت الجماهير تنتشي بروعة الكلمات، وتداري لهيب الحرّ، وعناء الوقوف منذ ساعات مبكرة من الصباح سابحة في أحلام عالم مشرع الأبواب والنوافذ، عابق بأريج الحدائق وأزكى الجنان.
على طاولة المفاوضات كان الزعيم يبيع أحلامهم، ووعودهم، ويعقد بجرة قلم أكبر الصفقات ."
ثانياً ـ في البحث عن وظائف الشخصيات:
يمكن لأي ناقد أن يدرس الوظائف المتنوعة للشخصيات في رواية ما، إذ سيجد فيها شخصيات فاعلة، وأخرى مساعدة، وثالثة معيقة، ورابعة مكمّلة، وخامسة طيفية، دون أن يعاني في البحث عن التمثيل النظري الذي يدور في فلكه. غير أن الأمر يبدو أصعب في القصة القصيرة في ظل عدد محدود من الشخصيات، ولكنه يغدو ضرباً من الخيال حين يتعلّق الأمر بالقصة القصيرة جداً؛ إذ من المستبعد جداً أن تتوفر هذه الأنواع من الشخصيات، أو أن يتوفر عددها من أجل القيام بحدث (أو بعدد محدود من الأحداث) يقود الحكاية بشكل مباشر نحو نهايتها. لذلك كان لا بد من البحث عن تلك الوظائف في عدد من القصص، إذ قد تكتفي القصة القصيرة جداً بثلاثة أنواع من هذه الشخصيات، وقد تكتفي بالشخصية الفاعلة والمعيقة، وربما تكتفي بشخصية واحدة، تضعها في مواجهة ظرفها المضاد.
أ ـ الشخصية الفاعلة:
نقصد ها هنا بالشخصية الفاعلة تلك الشخصية التي تقوم بالحدث الأساسي (أو الأحداث الأساسية) لتقود الحكاية نحو النهاية، ويمكن التمثيل لهذا النوع من الشخصيات، بشخصية (أقوى الرجال) في قصة "الولادة" لزكريا تامر، وهي تبرز قدرة تلك الشخصية القوية الماكرة على الفعل المتوالي الذي لا يعرف حدوداً، من خلال الاستيلاء على ما تريد، والحصول على كل شيء، بما في ذلك الإنسان:
"استولى أقوى الرجال وأغناهم وأمكرهم على أراض ذات سهول وجبال وأودية، واستولى على سماء وشمس وقمر ونجوم تتلألأ حين يسود الظلام، واستولى على غيوم ترحل من مكان إلى مكان، واستولى على ربيع وصيف وخريف وشتاء، واستولى على قطط وكلاب وطيور، واستولى على صحارى وبحار وبحيرات وأنهار، ثم تفحّص ملياً ما استولى عليه، فرأى أنه أصبح مالكاً لوطن لا ينقصه إلا الرجال والنساء والأطفال، فظفر توّاً بما ينقصه وبغير جهد ".
وفي قصة "المولود الجديد" لآمنة برواضي يغدو الرجل/ الذكر فاعلاً في مقابل شخصية المرأة/ الأنثى التي تبحث عن ظلال فاعليتها، في حضوره دون جدوى، فتخفق في امتحان الفاعلية، لأنها امرأة تعيش في مجتمع ذكوري:
"بعد عودتها من زيارة الطبيب، سألته:
ماذا لو كان المولود أنثى؟
أجاب، وهو مقطب الجبين:
بذلك تصبحين أمّاً لثلاث بنات.
صمتت... ثم قالت:
وماذا لو كان ذكراً؟
ابتسم وقال:
سيحمل اسمي، ويرث أموالي من بعدي...
تراجعت إلى الوراء وسرحت ببصرها في سقف الغرفة ".
ب ـ الشخصية المساعدة:
تستحقّ الشخصية المساعدة جدارة الانتماء إلى هذا النوع من الشخصيات حين تناط بها وظيفة ما، أو فعل ما يسهم في خدمة مشروع البطل الأساسي، سواء أتمّ ذلك بتخطيط منها، أم بمحض المصادفة، ولعلنا نشير هنا إلى قصة بعنوان "إنشاد" لجمعة الفاخري، إذ يتجمّع عدد من الشخصيات المساعدة للإسهام في قيادة الحكاية نحو منتهاها:
"نفخ الراعي في نايه.. غنّت البلابل.. رقصت الأزاهير.. انتعش الربيع.. انتشت الشياه.. اخضرّت أنامله.. أطلّت من ثقوب الناي حقول أزاهير..! "وثمة شخصية مساعدة بارزة في قصة (مسرحية) لمصطفى لغتيري إذ يتدخل السارد، ليدوّن تسويغاً لتصفيق المرأة التي شاهدت المسرحية، إنها المؤلفة التي وجدت في الممثلة شخصية تساعدها على الانتقام الرمزي، إثر خيانة تعرّضت لها من قبل عشيقها، ولم تستطع أن تردّ عليها بشكل مناسب إلا على الورق:
"من مقعدها في الصف الأمامي ، كانت المرأة تتابع بشغف أحداث المسرحية. أعجبها رد فعل الممثلة حينما اكتشفت خيانة عشيقها. حين انتهت المسرحية، لم تتوقف المرأة عن التصفيق إعجابا بالممثلة.. المرأة المصفقة هي كاتبة المسرحية، و أحداثها مستوحاة من حياتها. ص54
ج ـ الشخصية المعيِقة:
تقوم هذه الشخصية بوظيفة أساسية هي إعاقة وصول الشخصية الفاعلة إلى قيادة الحدث نحو الحكاية، بل على العكس تماماً تقف دائماً على النقيض من مشروعها، وتقوم بأفعال مضادة، بحيث يمكن أن نعدّها بطلاً مضاداً. غير أنها لا تقوم في القصة القصيرة جداً إلا بعدد محدود من الأحداث، بسبب طبيعة التكثيف الذي يتحكم ببنية النص، ولكنها قد تكون قادرة على إدارة دفة الحكاية بالاتجاه الذي تريد.
في قصة "أنا" لعدنان كنفاني، تتلبس الشخصية المعيقة شكل مظلة، تجمع الخير الذي ينتظره الناس بفارغ الصبر، إلى الزعيم الأوحد، وتحرم كل أولئك من إتمام حكايتهم على الوجه الذي يشتهون:
"تلبدت السماء بالغيوم واسودت.. لمع البرق، وقصف الرعد، وهطل المطر بعد طول انحباس.. خرج الناس من بيوتهم للاستمتاع بالخير المنتظر.
فجأة انتصبت مظلة كبيرة.. كبيرة جداً.. غطت سماء المدينة، وساقت الماء الهاطل بغزارة إلى مكان واحد ".
في قصة "صداقة العمر" لنور الدين كرماط يستطيع اللص أن يسطو على بيت صديقه، ويجمع في كيسه كل ما يلمع، ولكنّ الجار شكّل بطلاً مضاداً لأحلامه، إذ أعاق اكتمال فرحته بالنصر المؤزر، حين اكتشف اللص لا الجار، أنّ صديق عمره قد بادله خيانة الثقة بما لا يحتمل من ألوان القهر، إذ رأى زوجته بين أحضان ذلك الجار:
"حمل اللص كل ما يلمع في كيسه، لمّا همّ بالخروج سمع صوتاً نسوياً يتهادى من غرفة النوم في دلع. نظر من ثقب الباب فاكتشف بأن جوهرته تلمع أكثر بين يدي جاره صديق العمر ".
والواقع أنّ هذه القصة تعدّ مثالاً جيداً جداً على التكثيف الذي تتطلبه القصة القصيرة جداً، فهي لا تقول إلا ما هو ضروري، بل إنها لا تقول ما هو ضروري إلا في مكانه، ولو اضطر كاتبها إلى تأجيل تعبير (صديق العمر) للنهاية، من أجل أن يمنح القصة اكتمال بنائها ومفارقتها ودلالتها المتفجرة من تلكما الكلمتين.
د ـ الشخصية المكمّلة:
نعني بالشخصية المكمّلة تلك الشخصية التي لا تناط بها وظيفة حكائية، ولا تقوم بأي حدث، بل تنعكس عليها أفعال الشخصيات، أو تسهم في إكمال بيئة القص، أو ترد في ذاكرة الأبطال على نحو ما، ويمكن في هذا الإطار أن نشير إلى شخصية الشرطي التي يستعين بها عماد ندّاف لإكمال قصة "حزن الحمار" فنياً ورؤيوياً:
"الحمار كان متضايقاً جداً من صاحبه! لم يتناول شيئاً من التبن الذي وضعه له أمامه، ولم يقترب من كومة قشر البطيخ التي رماها قربه بسخاء!!
كان صاحبه قد شتمه قائلاً: امش جيداً أيها الخَنوع!
لم ترق كلمة الخَنوع للحمار، وكان يشاهد صاحبه، وهو يقدم الطاعة للشرطي، ويتوسله كل يوم!! ".
أما القاص أحمد جميل الحسن فإنه يستثمر استثماراً حسناً شخصية طارئة على حكاية قصته "دمية" هي شخصية الدمية ذاتها، إذ تخترق فجأة نظام الحكاية الأليفة، لتحوّلها إلى حكاية مدهشة، على الرغم من أنها (أي اللعبة) مجرد حامل دلالي:
"دمرت الطائرات الإسرائيلية البيت على أصحابه، بدأت عملية الإنقاذ وانتشال الجثث، وخلال ذلك شوهدت قدم صغيرة تحت طرف السرير..
رفعوا السرير.. وجدوا تحته طفلة مضرجة بدمها، تحتضن دميتها لتحميها من الطائرات ."
هـ ـ الشخصية الطيفية:
هي شخصية يقتصر دورها على الحضور الطيفي، على شكل حلم أو تخيّل أو ذكرى، ويمكن لهذه الشخصية أن تسهم في تفعيل الحدث، وفي صناعة الحكاية، وربما تسهم أيضاً في تغيير وجهتها. ويمكن أن نمثّل لها بشخصية الجدة في قصة "موت جدتي" لفاطمة المزروعي؛ إذ ينوب الطيف عن الجدة في إتمام مهمة السرد التي ألفتها الشخصية الرئيسة في القصة: "أضع رأسي على المخدة، أنتظرها بفارغ الصبر لتراني قبل أن أنام. أتحرّك في سريري وبداخلي لهفة.. كل ليلة يتكرر المشهد.. بعد زمن، أصبح طيفها ـ فقط ـ هو الذي يسرد الحكاية .
أمّا مهنّد العزب فهو يبتدع في قصة "موعد" شخصية طيفية، لتزور البطل بعد وفاته، ليبقى بعد وفاته في انتظارٍ افتراضيٍّ لزيارة افتراضية: "قبيل وفاته أوصى: إذا جاءت حبيبتي لكي تراني لآخر مرة، أفسحوا لها الطريق، فنحن لم نلتقِ أبداً، لأنها كانت من نسج خيالي ".
و ـ الشخصية الرمزية:
إن الشخصية الرمزية هي تلك الشخصية التي يصنعها الكاتب، ليبحث القارئ عن شخصية، أو شخصيات، تقابلها في الواقع، أي أن بناءها يدفع القارئ ليبحث عن ظلالها خارج القص، بسبب قدرتها الإحالية على الواقع السياسي أو الاجتماعي أو الثقافي إلخ.. ويمكن أن نشير هنا إلى قصة بعنوان "الشهادة" لزكريا تامر، وهي قصة تحيل بقوة على مصر، إذ يسمّي القاص بطلة القصة بهية، ويحيل من خلال الأحداث على ما يشبه توقيع اتفاقية كامب ديفيد في سياق انتقادي مثير، يدين الاتفاقية التي وقعها السادات، مثلما يدين تهافت بعض الدول العربية على إقامة علاقات مع العدو الصهيوني:
"تباهت بهية أمام نساء حارتها بحفاظها على شرفها وشرف الحارة التي ولدت فيها، وحكت ما جرى لها أمس عندما كانت تتنزه في أحد البساتين القريبة، فالرجل المجهول الذي اغتصبها شهر سكيناً تذبح جملاً، وأمرها بأن تخلع كل ثيابها، ولكنها لم تخلع جواربها متحدية أمر الرجل وسكينه، فشهقت نساء الحارة معجبات بها، وانتشرن في البساتين عازمات على ألا يخلعن الجوارب" .
في قصة "قاراقوش" يحشد عدنان كنفاني شخصيات الغابة ممثلة بحيواناتهـا المختلفة في وحدة قصصية مركزة من أجل أن يقدم قصة عميقة الدلالة، تحيل على شخصيات بشرية تنتمي إلى واقعنا، مستفيداً من اسم العلم التاريخي في إسباغ صفة الظلم على الطاغية، وهنا تصبح الشخصيات حوامل رمزية لدلالات أكثر اتساعاً. يقول كنفاني في قصة "قاراقوش":
"فرامان سلطاني شديد اللهجة يقول: كل حمار (مهما كان تصنيفه) ينهق في الأماكن العامة يتعرض لعقوبة الخوزقة.
ساد الهرج والمرج وتزاحمت وحوش الغابة وطيورها وحشراتها تغادر مواطنها هرباً..
قال حمار يخاطب أرنباً هارباً: لماذا تهرب والفرامان يخصنا دون سوانا؟
ضحك الأرنب ساخراً، وأجاب: في غابة مثل هذه، كلنا حمير.
وانطلق يركض على غير هدى ".
ثالثاً ـ بناء الشخصية:
لا تبتدع القصة القصيرة جداً طرقاً جديدة في تقديم ملامح الشخصية القصصية، ولكنها تقترح اختياراتٍ أقل عدداً وأكثر تركيزاً من تلك الطرق، فقد يكتفي الكاتب بتسمية الشخصية مستنداً إلى رصيد اجتماعي أو تاريخي، وقد يكتفي بالحوار أو النجوى، أو بالوصف الجسدي لتقديمها، وهكذا تبدو الشخصية، دون إلحاف منه في تتبع ملامحها، وحيدة الاتجاه في غالب الأحيان. وها هنا تقع مسؤولية اختيار الطريقة المناسبة لتقديم الشخصية على الكاتب: أيقدّمها من خلال اسمها أم صفاتها الجسدية أم النفسية أم ثقافتها أم خلفيتها الاجتماعية أو السياسية أو الفكرية إلخ... لأن جمع هذه الطرق لتقديم الشخصية سيجعلها شخصية روائية، لا شخصية من شخصيات القصة القصيرة جداً.
أ ـ التسمية والتشخيص:
ربط عدد من النقاد ربطاً مبالغاً فيه بين التسمية والشخصية، فيما أهمل نقاد آخرون تلك العلاقة، غير أن التسمية تبقى في جميع الأحوال أبسط أشكال التشخيص ، وإذا كنّا نرى بعض المبدعين يسمون شخصياتهم اعتباطاً، أو يهملون تسمية تلك الشخصيات لسبب أو لآخر، فإن مبدعين آخرين اهتموا بالتسمية اهتماماً بالغاً، وجعلوا ذلك ديدنهم، ويمكن أن نشير سريعاً إلى الروائي العربي نجيب محفوظ الذي كان ينحت كثيراً من أسماء شخصياته نحتاً من بيئتها، ونلفت النظر هنا إلى رواية "زقاق المدقّ" بالتحديد، "فالمعلم كرشة ذو كرش كبير، وزيطة يحمل كل الفوضى التي يحملها اسمه، وفرج ابراهيم (القواد) يدل اسمه دلالة واضحة على مهنته، فهو (يفرج) عن الناس، وهو أبو الرحمة أيضاً (وهذا هو معنى كلمة ابراهيم ـ ابراهام بالعبرية)، ورضوان لا يخرج فيما يفعله عن الرضى (القناعة بما هو واقع)، ولا يسعى إلا إلى مرضاة الله. ومن جهة أخرى، فإن حميدة تعاكس دلالة اسمها، إذ لا تقوم بأي فعل محمود، وكذلك سليم علوان، فهو مريض حطّ الدهر والظروف من منزلته... إلخ ".
في القصة القصيرة جداً، حيث تكون ملامح الشخصية محدودة، وحيث يكون اختيار طريقة التشخيص أكثر تركيزاً، يجد الكاتب نفسه أمام مساحة نصيّة، وأمام أحداث متسارعة تقوم بعبء الحكاية، ولا تضطره إلى التسمية. وقد لاحظ أحد المنظرين للقصة القصيرة جداً ذلك الأمر، وهو الأستاذ د. جميل حمداوي، فرأى في نظريته الميكروسردية أنّ التنكير قدر الشخصية في هذا الجنس السردي الجديد، ولكننا خالفناه في ذلك، ليس في التفاصيل بل في التعميم، ورأينا أن التسمية تبقى إحدى وسائل التشخيص وأن دعوة شخصية باسم خاص تشكل "العنصر الأبسط من التمييز" كما يقول توماشفسكي ، حتى في القصة القصيرة جداً، وقدّمنا عدداً من النماذج التي تثبت إفادة القاص من دلالة اسم العلم واستثمارها ، وإن كان العدد الأكبر من القصص يلجأ إلى تنكير البطل، أو تكرار اسمه، أو حتى تسميته بحرف واحد.
ويبدو د. جميل حمداوي مخلصاً، في قصصه القصيرة جداً، لذلك التنظير؛ مستثمراً ما يتيحه التنكير في تعميم التجربة وامتدادها، ومن ذلك ما نلمسه في قصة "النياشين"، حيث يدين القاص صنوف الهوان التي يتعرّض لها المضحّون بكل شيء في سبيل رفعة وطنهم، ولا يلاقون مقابل ذلك سوى الإجحاف والإهمال:
"زينوه بالنياشين، وشواهد التقدير والتكريم، وأتخموه بالكلام المعسول، فدفنوه عارياً تنهشه الديون الجائعة... ".
ويرتضي مأمون الحرش أيضاً لنفسه خيار تنكير الشخصيات، إذ يقّدم معظم نصوصه بلا أسماء، مستثمراً الحكاية التي تحيل على دلالة عامة تجعل اسم العلم فضلة لا تقدّم إضافة للنص، ومن هذه النصوص قصة بعنوان "رأس":
"تحسس رأسه.. لا أحد جسّه، والمادة لم تكن غير ذرق طائر
حمد الله لأنه يملك رأساً يقع عليه شيء من السماء ".
وقد لجأ بعض القاصين إلى خيار آخر في تسمية الشخصيات، تمثّل في إطلاق حرف واحد على الشخصية، مقتفين أثر تجارب عالمية سبقتهم في هذا المجال ، ولعلنا نشير هنا إلى تميّز القاص المصطفى كليتي فيما يتعلَّق بإطلاق أسماء مدروسة على شخصيات قصصه، فقد أطلق على عدد منها اسماً من حرف واحد، أو اسماً يدلّ على مفهوم مجرّد، أو اسماً على علاقة وثيقة بوظيفته القصصية. وثمة شخصية مكررة اسمها (س)، يقدّمها القاص في سياقات حكائية مختلفة، وقد انتشرت في مجموعتيه (ستة وستين كشيفة ) و(تفاحة يانعة وسكين صدئة) التي يقدم فيها اثنتي عشرة قصة بطلها (س)، نختار منها قصة "سلطة الأقنعة":
"قرر (س) أن يتخلّى نهائياً عن الأقنعة الزائفة، ويظهر مبرزاً حقيقة صورته، فتسمّر أمام المرآة فلم يجد له وجهاً .
وفي قصة له بعنوان "جثة قابلة للتعفن" يستثمر كليتي مفهوم الضمير، وينقله من دلالته المجردة، إلى حيّز القص، وينوط به عدداً من الوظائف الحكائية:
"قفز السيد (ضمير) من متحفه وقال: اليوم سوف أتفقد أحوال المدينة وأسودها..
وكانت المدينة ساحة صناديق إسمنتية صفّت صفوفاً متعرّجة.. تسامقت حتى حجب تطاولها قرص الشمس، فتشوهت الأزقة والشوارع وأضحت جراحاً راعفة بركام آسن..
كحّ السيد (ضمير) حتى جحظت عيناه واحمرّت من جراء تلوث مؤكسد بالفساد، سلّ السيد (ضمير) من جيبه قلماً وكنّاش مذكراته وسجّل ملاحظات وهوامش فاضت بها وريقاته، جلس السيد (ضمير) في الشارع العام، ليقرأ تقريره الأخير.
لكن ضربة محكمة التسديد نالت أم رأسه، تمرّغ على الإسفلت ديكاً أرقصته شطحة الألم الأعظم. انتفض ثم انتفض فأشرق دمه القاني فوق وريقاته، وهمد ".
ومثلما أفاد المصطفى كليتي من دلالة الحرف (س) الذي أطلقه اسماً لعدد من الشخصيات، ومن استثمار دلالة مفهوم الضمير في جعله علماً، فقد أفاد أيضاً من الدلالة اللغوية لتسمية الشخصيات في عدد من النماذج، وبنى على ذلك موقفاً حكائياً، ونشير هنا إلى قصة "الانتصار للحياة"،حيث يدعو بطلة قصته "رحمة"، وهي قابلة على علاقة وثيقة باسمها، كما سيلاحظ القارئ:
"كانت الأم رحمة قابلة القرية، قد ثكلت أولادها تباعاً، في حروب خاسرة، وكلما نودي عليها من أجل تخليص امرأة حبلى متوجعة، تستردّ منتهى عنفوانها وحيويتها، فرحة ومستبشرة بكل ما تدفعه الأرحام إلى الأمام ".
كما أفاد إسماعيل البويحياوي من اسم العلم ورصيده في الذاكرة الشعبية، في قصة بعنوان "نوم قصصي" حيث تدفع الأبوة شعور البنوة في داخل البطل الأب، وتندفع الذكريات نحو حكايا الأجداد، ليجتمع كل هؤلاء على صعيد الحكاية:
"أخيراً نامت مروة. سحبتُ يدي، وأطفأت شمعة حكايتي الأخيرة. تدنو، تلامسني، حكّ ظهري واحكِ يا بابا. يغمغم طفل بداخلي. حكَّ واحكِ يابا. تتلألأ في ظلام الغرفة أطياف جدي وجدتي وأبي. يشعلون فوانيس الحكي، فيخرج الغول وهاينة وحديدان والثعلب والقنفذ. يضفرون لنا شواطئ حلميّة، نجري، نتسابق، نتراشّ ماء الحكي، ثم نغطس في بحيرة النوم ."
وخلال البحث في أسماء الشخصيات وبناء الحكايات عليها قامت القصة القصة جداً بتوظيف أسماء عدد كبير جداً من العلماء والمثقفين ورجال الدين والقادة والشخصيات التراثية الأدبية والأسطورية وغير ذلك، فنقرأ قصصاً تستثمر السندباد وجحا وعنترة ونرسيس وجان بول سارتر وجورج صاند وشهريار وشهرزاد... ويمكن هنا أن نشير إلى استثمار بعض هذه التسميات، على نحو ما نجد في قصة "حمراء" لجمعة الفاخري التي تفيد من دلالة اسم العلم التاريخي، وتستثمر حمولاته المختلفة، لتقدّم حكاية جديدة، تختلف مع الحكاية الأصلية في بدايتها، ولكنها تتفق معها في نهايتها الدموية:
"قبل أن تبدأ شهرزاد في سرد أولى الحكايا شرع شهريار بالشخير..
وحين نامت... كان حدّ السيف يعانق عنقها مبتدئاً حكاية حمراء مرعبة..! "
ب ـ الوصف الخارجي والوصف الداخلي:
يمكن أن يكون للوصف الخارجي أثر بارز في تصوير الشخصية في القصة القصيرة جداً، إذا أحسن القاص استثمار هذا الوصف، حتى وإن تعددت الصفات الخارجية. فالمهم ها هنا إدراك بناء الشخصية، ووعي أبعادها. ونشير هنا بإعجاب إلى قصة "بذلة" لجمعة الفاخري الذي عمد في سرده إلى خداع القارئ بالتركيز على الصفات الخارجية للشخصيات، من أجل أن ينتج مفارقته المذهلة في النهاية التي تقوم على المقارنة المفترضة التي يقيمها القارئ بين ما هو برّاني مصطنع لا قيمة له، وبين ما جوهري إنساني لا يلتفت أحد إليه:
"ـ ربما عبر فجأة دون أن ينتبه إليه أحد.
هكذا صرّحت سيدة وهي قرب زميلة لها وهما تنظران بإعجاب إلى الوافد الجديد إلى المدينة. بينما أطرق الشرطي مفكّراً، وأنامله تداعب شاربه الطويل، وسهام نظراته مصوّبة باتجاه واحد فقط، تستطلع مكونات البذلة الجديدة لرئيسه، هو يحرّر محضر حادثة سير طفل أردته سيارة مخمورة قتيلاً على الفور ".
ويمكن أن نشير إلى قصة أخرى بعنوان "اقتراض" للقاص محمد محقق، تعتمد اعتماداً كبيراً على الصفات الخارجية التي تنوب عن الحدث في تقديم بداية الحكاية ونهايتها، إذ ليس ثمة في الفعل السردي سوى: (دخل دوامة الاقتراض وخرج منها)، بينما تتمم صفات الجسد بقية الحكاية:
"دخل دوامة الاقتراض.. باسماً.. معتدل القامة..
خرج شاحب اللون.. مقوّس الظهر..! ".
ويلاحظ القارئ دون شك أنّ القصتين السابقتين ظهَّرتا الوصف الجسدي الخارجي على حساب الوصف الداخلي، إذ لا تحتمل القصة القصيرة جداً أن يزجي كاتبها السطور جرياً وراء رسم شخصية ذات أبعاد متعددة.
في المقابل قدّمت بعض النماذج القصصية شخصيات ذات ملامح نفسية، وأخلى الوصف الخارجي السطور لوصف يهتم أكثر بما هو جوّاني قادر على إنتاج شخصية تحرك الأحداث عبر مساحات الوعي، ليس غير. ويمكن هنا أن نمثل بقصة عنوانها "عتمة" لحميد ركاطة، وهي قصة تجري أحداثها داخل ذهن البطل:
"فتح الجريدة، مسح ما بها من أخبار، ظلّ حائراً في فك أسرار البياض، فتح ذاكرته وحاول تذكّر لحظة منيرة، فلفّها السواد.
بين الأبيض والأسود، ظلّ سنوات يبحث عن نفسه، فأمطرت غيومه ذكريات قاتمة، بلا كلمات ".
وقد يلجأ القاص إلى إجراء مقابلة طريفة بين الصفات الداخلية والخارجية، فيقدّم الخارجي، ليكشف من ثمّ صفة خارجية مدّعاة، وداخلية حقيقية، وقد كثُر تقديم هذا النموذج في كشف النفاق الديني عند بعض الشخصيات، ويمكن أن نشير إلى قصة "عفّة" لعبد الإله الخديري التي تتخذ من الجسدي جسراً مفارِقاً لتقديم النفسي:
"كانت الصالة مملوءة عن آخرها، والهدوء تام. مشاهد الفيلم كانت حامية جداً وخليعة. أزاح يده من بين فخذيها، خلّل لحيته الكثيفة، فيما سوّت هي نقابها، ولبست قفاز يدها اليسرى، وهي تسوقه لخلاء غير بعيد لتكمل فيلمها في حياء وعفّة ".
ومثلما تلاعب المبدعون في بعض الأحيان بالعلاقة بين الجسدي والنفسي، فقد تلاعبوا أيضاً بالعلاقة بين أحدهما وعناصر سردية أخرى مجرّدة أو محسوسة، ويمكن أن نشير إلى قصة "تأمل" لمحمد غازي التدمري، حيث تتقابل الصفات الجسدية وجهاً لوجه، وتبني حكاية القصة:
"تأملَّ صورته المعلّقة على الجدار، نظر إلى المرآة، قارن بين الصورة والخيال.
ثمة صراخ تأجج في أعماقه.
وقعت الصورة وقهقه الخيال ".
كما نشير هنا إلى قصة "وجه" لجمانة طه التي تفيد من المقابلة بين عنصر الوصف المقترح من قبل معلمة الصف وعنصر الوصف المتخيّل للشخصية، فتجعل ـ في صورة فريدة ـ الربيع مرآة لوجه الأم في مخيلة الفتاة الصغيرة:
"قالت معلمة الصف لتلميذاتها: فصل الربيع هو موضوع اليوم. على كل واحدة منكن أن تعبّر بالأسلوب الذي تراه مناسباً.
أمسكت بسمة بالقلم ورسمت وجه أمها .
ج ـ التصوير غير المباشر للشخصية:
وثمة طرق أخرى مألوفة لتقديم الشخصية في السرد، لا يعتمد القاص فيها على وصف شخصيته أو تسميتها، بشكل مباشر، بل على تقديمها من خلال تفكيرها أو سلوكها أو حواراتها، أو أية طريقة غير مباشرة يقترحها نصّه الإبداعي:
• فقد يقدّم القاص شخصيته من خلال حوار ما يجسّد آراءها في قضية من قضايا الحياة، ويصبح الحوار عند ذاك حاملاً من حوامل الملامح النفسية، ونستطيع هنا أن نستعين بقصة "انفتاح" لليلى العثمان التي تنقل حواراً بين وردتين، تبدو المجيبة فيه توّاقة للحرية، تقول ليلى العثمان في قصتها:
"سألت الزهرة رفيقتها:
-لماذا تفتحت قبلي؟
قالت الرفيقة بانتشاء:
ـ فتحت قلبي للنور والمطر قبلك."
ونستطيع أن نرصد في قصة "جنوح" لحصة لوتاه شخصية امرأة ذات شعر مجعَّد تعاني القهر والكبت في مجتمعها الذي لا عدالة فيه، وذلك من خلال حوار يجسّد رؤيتها الفكرية:
قالت لهم المرأة المجعدة الشعر: إنّ سماءكم تضيق بي.
قالوا لها: إن أرض الله واسعة.
فذرفت دمعة وهي تقول: وهل تتركونني أعبرها بسلام؟! ".
في قصة "تخيّل" لمحمد غازي التدمري يقوم كشف الشخصية على نجوى (حوار مفترض) بين السارد (الذي يتخيّل نفسه مارد علاء الدين) وبين خوائه الذي يجسّد غربة روحه في الحياة، وفي هذه الغربة لا تصبح الأمنية الخروج من أسر العبودية، بل التمسك بها:
"تخيّل نفسه مارد علاء الدين
سأل نفسه ما هي أمنيتك؟
أجابه خواء داخلي:
غرفة من خمسة جدران ".
• ويمكن أن يستند القاص في تقديم شخصيته ألى وصفها من الداخل أو الخارج من خلال سلوكها وعلاقتها مع الآخرين، وثمة قصة جميلة لعبير إسماعيل بعنوان "أمركة" تحكي صراعاً بين امرأة أمريكية تسعى إلى تغيير قلب رجل عربي، وبين رجل عربي مهزوم مستسلم، يصنع انتصاره عليها أخيراً من خلال أغنية يصدح بها، وهو على فراش الحُمّى:
"لقد استطاعت أن تنتقم من قلبها الذي جعلها تحب عربياً، فعملت على أمركته. كان إكراماً لعينيها يرتدي الجينز، ويتناول غداءه في مطاعم ماكدونالدز، ويتكلم الإنكليزية باللكنة الأمريكية، ويرفع العلم الأمريكي على سارية فوق بيته كبقية المتعصبين. لكنه عندما أصيب بالحمى أثار دهشة زوجته وجميع الأطباء المتحلقين حول سريره، فقد كان يهذي ويغني بلغته، وبصوت قروي حزين: "بي بي الغربة.. الوطن حنونا ".
ويمكن أن نسوق تمثالاً آخر من مجموعة "مرور خاطف" لمحمود شقير، وهو قصة بعنوان "تمساح"، يعنى فيها القاص بتقديم معظم ملامح الشخصيات من خلال سلوكياتها، فالتمساح يرقب المرأة ويستشار ويُغْوَى، والرجل يتمسّح بها ويُغْوَى أيضاً، وهي تتعرى وتركض وتُغْوِي، ومن خلال هذه السلوكيات يقف المرء على صفات الشخصيات الثلاث التي تبنى عليها الحكاية:
"تمساح باهت الجلد، مسترخ تحت شمس الظهيرة، مرتاح لبلادته التي لا توصف، يرقب بسكينة ودعة، المرأة وهي تتعرى ببطء لذيذ، يرقب بالسكينة وبالدعة نفسها، الرجل وهو يتمسح بالمرأة التي تبدو مثل فريسة سهلة المنال، التمساح وهو مسترخ تحت شمس الظهيرة، يذرف الدموع، شفقة على المرأة التي ركضت، ضاحكة، مستثارة نحو حافة الماء، وهي لا تدري أنها تغوي تمساحين اثنين في وقت واحد) .
وتنبغي الإشادة هنا بمحمود شقير الذي جعل هذه الشخصيات تقوم بأحداث يفرضها منطق النص من أجل كشف صفاتها، لأنّ محاولة فرض صفات أو سلوكيات على الشخصية من خارج النص سيؤدي إلى فرض الشخصية على الحكاية بما يعيق سيرها.
• كما يمكن للقاص أن يستثمر، من أجل تقديم شخصياته، كلّ ما يخطر في باله من يوميات أو اعترافات أو رسائل أو مذكّرات أو غير ذلك، من أجل تظهير صفة أو أكثر من صفات شخصياته.
في قصة "الرسالة" يستثمر جمعة الفاخري رسالة (sms) تصل خطأً إلى إحدى الفتيات، لتقدّم صفات جسدية مطلوبة في الأنثى، مما يجعل الفتاة تشعر بفرح عارم، وهي تتخيّل أن الرسالة مبعوثة لها، وأنّ تلك الصفات هي صفاتها فعلاً، قبل أن تذكّرها المرآة بأن لها صفاتٍ أخرى:
"(حبيبتي شفتاك حديقتا أحلام.. عيناك بحران من فرح.. ووجهك النهاري قصيدة).. قرأت الكلمات فعرّش الفرح في قلبها.. احتضنت فرحتها.. هرعت إلى مرآتها.. أخبرتها المرآة بكلام مختلف. سقط هاتفها الجوّال من يدها..
أدركت أن الرسالة قد وصلتها عن طريق الخطأ .
أما قصة "الساحر" لزكريا تامر فهي تستعين بالذكريات لتقديم صفات الشخصيات التي تستجلبها ضحكة طفل أحيت الحب والإنسانية في نفوس الجنود. فالحكاية تتحدث عن ضابط يأمر خمسة من جنوده بإطلاق النار على قلب طفل، وإذ يضحك الطفل يتذكر الجنود الخمسة أياماً جميلة في حياتهم، وتكون النهاية المفاجئة إذ يبادر الجنود الخمسة إلى إطلاق نيران بنادقهم على صدر ضابطهم الذي تهاوى أرضاً مثقوباً خمسة ثقوب دامية، وذلك لأنّ ضحكة الطفل تقود الجنود إلى ذكريات تحضر فيها شخصيات غنية بالوصف:
"واختلط صوت الضابط الصارم الآمر بضحكة ندت عن الطفل، وبلغت مسامع الجنود الخمسة، فتذكـر الأول زوجته الجميلة حين تضحك، وتذكر الثاني سريره قرب نافذة تطل على نهر، وتذكر الثالث شارعاً مشجراً يمشي فيه مثرثراً مع صديق، وتذكر الرابع يوم كان صغير السن يعلمه أبوه صيد السمك على شاطئ بحر، وتذكر الخامس أمه تكبر في السن فجأة حين مرض."
هذه الضحكة الآسرة إذاً أعادت إلى ذاكرة الجنود كل ما هو خصب ودال، وكل ما هو إنساني، لقد مارست دور السحر، لذلك ليس غريباً أن يطلق القاص على قصته اسم "الساحر"، ويقدم لنا من خلال ستة عشر سطراً قصة تختلط فيها الجزئيات الصغيرة الدالة بسحر الضحكة التي تختلط بدورها بسحر العنوان واللغة البديعة.
رابعاً ـ معيقات رسم الشخصية القصصية الناجحة:
ثمة في رسم الشخصية في القصة القصيرة جداً بعض المحاذير التي تعيق انسيابها وسلاستها ووصول دلالتها إلى القارئ، فالشخصية هنا شخصية برقية، تركز على الوصف الداخلي أو الخارجي، أو غير المباشر، وقلّ أن يجمع القاص بين طريقتين لتقديمها، حتى لا يصيبها ترهّل لا يتناسب مع حجم النص.
إضافة إلى ذلك فإنّ ثمة أساليب لغوية وحكائية يمكن أن تحدّ من دلالة الشخصية على نحو استخدام اللغة التقريرية في تقديم الشخصية، أو المقاربة الشديدة جداً بين البطل وشخصيته، أو تنميط الشخصية الذي يجعل كل أفعالها متوقعة للقارئ.
• • في اللغة التقريرية تنوب العبارات التي تقدّم ملامح الشخصيات بشكل مباشر، عن الطرائق المختلفة المستثمرة في بناء الشخصيات، وتغتصب حقّها في أن تقدّم نفسها من خلال سرد انسيابي، مما يُشعِرُ القارئ بأن الكاتب يمارس عليه سطوة قهرية لقبول هذه الملامح، دون أن يتيح له استنتاجها، ولعلنا نشير هنا إلى النصف الأول من قصة "خطأ" لتوفيق بوشري، إذ تبدو الشخصية مقدّمة بطريقة تقريرية تهدف إلى إقناع القارئ بصفاتها، دون إعطاء فرصة للسرد القصصي أن يقدّم