صوت محمود درويشلا يكون الصوت كبيرًا حتى يكون قويَّ البُنيان رَحيبَه، ولا حسنًا حتى يكون عذبَ الأنغام خَصيبَها، ولا كبيرًا حسنًا معًا حتى يكون سَلِسَ الحركة دافقَها، مثلَ صوت محمود درويش!يخرج من محمود درويش صوتُه أصيلا دائما، لا يعرف الصوت الزائف الذي يسميه الملحِّنون "مُسْتَعَارًا"، مثلما أعرفه أنا مثلا: أكلم الناس بصوتي الأصيل، وأنشدهم بصوتي الزائف؛ فأما بالزائف فأفتح غرف جهازي النطقي كلها حتى السرية، وأما بالأصيل فلا أفتح إلا العلَنية- ومثلما عرفته نجاة الصغيرة المطربة المعروفة، التي تغني الناس بصوت زائف غير الذي تكلمهم به!لقد كان محمود درويش ينشد الناس بالصوت الذي يكلمهم به!ولأنه الشاعر والمنشد والمؤلف والممثل والموسيقي والعازف والملحن والمغني جميعا معا، يختار للأداء ما يناسبه، ويتصرف فيه؛ فيحذف ويضيف، ويقدم ويؤخر، ويخلط ويُخلي، ولا يبالي حين يرقى منصته، أطال الوقت أم قصر، ولا يبالي المتلقون، ولا يدرون أنهم لا يبالون! وقد أغناه ذلك زمانا طويلا، عن إشراك فنون أخرى في أدائه مثلما فعل نزار قباني وغيره، ثم بدا له؛ فعمِله هو نفسه، أو عمله بعض من أشركوا في أعمالهم بعض أداءاته؛ فكانت طريقهم إلى التوفيق والتأثير الكبير!يعود صوت محمود درويش بالإنشاد إلى أصل دلالته "رَفْع الصوت"، من قبل أن تخالطه عناصر الغناء؛ فهو لا يفعل أكثر من ذلك، ثم يترك لعاداته النطقية أن تعمل عملها؛ فنجده يقطّع أداءه وكأنه يهيئه لمتكلمين مختلفين، ويخالف بين إيقاعاته تعبيرا عن مشاعره المختلفة، ويتلبّث قليلا عند الأطراف دون أن يقطع بعضها من بعض، ليتيح للمتلقين أن يستوعبوا وأن يطربوا.وقد كان أمثاله فيما مضى قليلا، فصاروا أقل من القليل، بعدما ازدادتْ فسادًا حياتُنا الصحيةُ والرياضيةُ والأدبيةُ والثقافيةُ والفنيةُ والعلميةُ! ولكن ينبغي ألا يضطرنا ذلك إلى التسليم لمحمود درويش بالتوفيق دائما، ويحرجنا عن أن ننبه على ما أخفق فيه أحيانا، ولكن هذا حديث آخر!