*
*
حنظلة


قصة قصيرة
بقلم( محمد فتحي المقداد)*
*
الطفل حنظلة.. حافي القدمين .. ثيابه رثة.. ترك المدرسة من شدة الفقر, والده لم يستطع أن يفي باحتياجاته من قلم الرصاص والدفتر. دروب العمل معطلة.. والبطالة متفشية, الفقر أصبح موضة أكثرية العرب.
كان حنظلة نموذج حي ومباشر لأطفال العرب خصوصاً, وأطفال العالم الثالث عموماً .. لا يشربون كأس الحليب الصباحي كل يوم. ولا يحظون ببيضة.. يسمعون عن حليب النيدو.. ولا يرونه في علبته الأنيقة الصفراء.. بينما يشربون على فترات متباعدة حليب أكياس الوكالة.
منذ وعيت هذه الدنيا يحكون لي عن حنظلة, كبرنا وبقي هو طفلاً رغم أننا نجايله سرحنا في متاهات الدنيا, وبقي مرابطاً مكانه, كأنه مرابط على ثغرة يخشى أن يخترقها العدو.
تطمئن نفسي ويرتاح قلبي, كلما أراه في مكانه متسمراً في موقعه, رابضاً لا يعبأ بما يجري خلفه, عيناه للأمام, ووجهه للأمام,وصدره للأمام, لا يتطلع للوراء لكي لا تضعف عزيمته من حال أمته , تعلم أن تكون رؤيته للمستقبل, وأقسم أنه لن ولن يلتفت للخلف أبداً.
وجهه مجهول للجميع, ويكذب من يقول أنه يعرف قسماته, فلا يعرفه إلا أبوه ناجي العلي.
وفي السنوات الأخيرة ومع تطور عمليات استنساخ الأجنة وأطفال الأنابيب, فقد قاموا بنسخ أجنة شبيهة بحنظلة, لكنها يبدو أنها شكل بلا مضمون. وقد فاتني أن أستوقف أحدهم عندما مرّ ممسكاً بيد والدته في السوق في محلات الألعاب الإلكترونية, وآخر يركب عربة تدفعها والده بيد ويمسك بالأخرى ذراع زوجته وهما يتمشيان على الكورنيش والنسيم العليل عند المساء.
وفي محل ألبسة الأطفال رأيت أحد النسخ ووالدته تشتري له طقماً من الجينز وهو يتفلت من يدها محاولاً العبث بمحتويات المحل, وشدّني الفضول لوسامته وأناقته, وتركت ناسياً ما كنت قد جئت من أجله, على أنني تابعت ذلك الطفل الأشقربعيونه الزرقاء, حتى انتهوا من شراء الملابس وخرجوا لمطعم الوجبات السريعة "ماكدونالد" وجلس قبالة والدته على الطاولة الملونة, وراح يلتهم الوجبة التي يحبها بعد أن وضعتها* النادلة أمامه.
وما إن مشيت قليلاً في السوق, حتى مرّ رجل وهو على عجلة من أمره, ويلف على عنقه الكوفية الفلسطينية, ويمسك طفلاً ما استطعت أن أتبين وجهه, ولكن شكله من الخلف أنبأني أنه حنظلة, وكاد قلبي ينخلع وراءه, وقد أيقنت أنه ترك مكانه ويركض والفرح والسرور باديةٌ عليه, رغم أنه يبعد قليلاً عني بين زحمة المتسوقين, ويركض بجانب والده الذي يسابق الزمن بخطاه الواسعة حتى يلحق بموعد مدينة الألعاب.
ناديت بأعلى صوتي... حنظلة .. يا حنظلة.. وقد خشيت أن يكون هو الذي ببالي, لم يطل الأمر حتى أنجدتني ذاكرتي ونهرتني, وأكدت لي أنه ليس هو..
قالت لي: " إنه هناك لا يزال محتجباً بوجهه عن الجميع, محتجاً على الوضع العربي, ولن يدير وجهه للخلف لأن فلسطين لم تتحرر, فهو الطفل الذي حفظ وصية أبيه, بأن يبقى مرابطاً على *شفير الهمّ العربي المتطاول والمستطيل".
عُدتُ لرشدي..
انفرجت أساريري..
انشرح صدري..
بأعلى صوتي.. ناديت :
راجعين يا بلادي .. راجعين ..
------------------ انتهى
بصرى الشام 15- 9- 2012م