حتى لا نقول: أعتقتك لوجه الله؟
كان الرجل، من باب الترحم، يُجمل إطلاق عصفورٍ من قبضة ابنه، فيقول لولده أطلقه يا ولدي وقل: أعتقتك لوجه الله، فكان الولد وبعد تمنعٍ يطلقه ممتثلاً لما أمره أبوه، عل وعسى أن ينال ثواب ذلك.
في بعض الأحيان، يفلت عصفورٌ من قبضة الولد، من خلال حيلة أو غفلة من الولد، فيبادر الولد بعد أن رأى أن عصفوره هرب الى القول: أعتقتك لوجه الله!
شاهدت مقابلة في التلفزيون بين اثنين من إخواننا السودانيين، أحدهما يدافع عن التمسك بجنوب السودان، والآخر يدافع عن فكرة الانفكاك من ذلك الجنوب المتعب حسب رأيه، فهو بوجهة نظره لا تمر مياه النيل من خلاله، ولا يحقق الاحتفاظ بالجنوب إلا مزيداً من التوتر والإنفاق العسكري، وتقديم التضحيات البشرية في سبيل تلك الفكرة التي لا تجلب للسودان أي منفعة!
معلوم، أن الأسر تتفكك ويطلب أبنائها المتزوجون أو حتى غير المتزوجين الانفصال عن الأسرة، والاستقلال بحياتهم. ويحدث هذا أيضاً في الشركات الخصوصية والعامة، وأسباب ذلك عندما يحس الراغب بالانفصال بانعدام العدل وضياع جهده في وحدة لا تقسم ثمارها ونتائجها بعدل بين الشركاء.
وهذه الظاهرة تنسحب سياسياً في كثير من أقطار العرب، ولا نراها بهذه الكثافة في بلدان العالم، رغم أن أعداد المكونات الإثنية في بلدان العالم تفوق كثيراً ما هي عليه الحال في بلداننا. فالهند بها أكثر من 100 مكون عرقي وإيران بها أكثر من خمسة مكونات وسويسرا والصين والولايات المتحدة. ولكن تلك الظاهرة لا تتكرر بنفس القدر الذي تتكرر فيه في بلداننا، في العراق واليمن والسودان وتقريباً هي مرشحة للظهور في كل بلد عربي.
إن الأسباب التي فشلت الأقطار العربية في تحقيق الوحدة أو التضامن أو التنسيق فيما بينها، هي نفس الأسباب التي تعاني منها تلك الأقطار في الحفاظ على وحدة القطر الواحد، ونستطيع إيجازها فيما يلي:
1ـ إشكالية في الاعتراف بشرعية الحكم في معظم الأقطار العربية.
2ـ انعدام تناقل السلطة فيما بين مكونات الشعب بصورة يرضى عنها الجميع.
3ـ اغترار النظم الحاكمة بقوتها تجاه (شراذم!) تستطيع تصفيتها بسهولة.
4ـ غياب الدساتير المتفق عليها من الجميع لتنظيم الحياة السياسية والمدنية في تلك البلدان، وإن وجدت دساتير، فهي تُكيف بين حين وآخر لمصلحة ديمومة الأنظمة.
5ـ محاصرة الحريات العامة، مما يسبب الاحتقان في نفوس الرافضين للأوضاع القائمة وترجمة احتقانهم بحركات عنيفة تحول دون الحوار الجاد والموثوق بنتائجه من قبل الجميع.
6ـ تماشي الأوضاع القائمة بسوئها مع تطلعات القوى الخارجية التي تصلب من إرادة عدم اللقاء والتفاهم بين مكونات الشعب الواحد.
إن كل تلك الظروف ستسوق الى ظهور رغبات الانفصال والتشظي بين مكونات البلد الواحد، ليظهر في النهاية من يقول: لقد تعبنا من تلك الوحدة، فلينفصل من يريد، ولنقل له: أعتقتك لوجه الله!