يقولون في وصف العمل «المشبوه» في السياسة بأنه (اللعب في فنّ الممكن)، وهذه مفردة تحمل الكثير من «المراوغة» السياسية الساعية إلى تحقيق مكاسب متنوعة.
ولو تابعنا كثيراً من الحراك السياسي، خاصة في سلوك بعض الدول التي تُخفي وراء سياستها المعلنة، سياسة أخرى خبيثة تسعى دائماً إلى استغلال الشعوب وفرض هيمنتها وشروطها على الأضعف، واستلاب خيراتها، نجد، في أمور كثيرة، ومهمة، وهي حق ومصلحة للآخرين، أن الحلّ على غاية من الوضوح والبساطة، لكنه، ومتى دخل في دائرة السياسة، يتسطّح ويبتعد عن مراميه الأساس، إما لكسب الوقت، وإما لتدمير ما يمكن تدميره في نسيج الآخرين كي لا تقوم لهم قائمة..

كان صديقي العجوز «أبو العبد» يستمع، ويبتسم، وبعد صمت طويل قال:
أعادني الحديث عن السياسة إلى تذكّر حادثة جرت في قريتنا، فقد حدث وأفلِتت بقرة من الوتد الذي يشدها إلى الأرض في يوم صيفيّ لاهب، وانطلقت تبحث عن ماء، اقتحمت باب غرفة في بيت صاحبها «أبو ابراهيم»، الباب المُشرع دائماً إلى الغرب، يستقبلُ الضوءَ والريحَ وأطيافَ الغرباء، شدّها ذلك السائل الشهيّ المعبأ في جرّة فخارٍ كبيرة ملفوفة بقطع كثيفةٍ من الخيش، لحظات، أدخلت رأسها الضخم فيها، عبّت من الماء قدرَ ما استطاعت، وحين أرادت الابتعاد لم تستطع تخليصَ رأسها من فوهة الجرّة، وانحشرَ فيها.
في الوقت نفسه، وبسبب اندفاعها، علِق الوتد المقلوع بين عتبة وباب الغرفة وجانب الجدار ليثبّتها بالحبل المشدود على رقبتها، وسط الغرفة.
- نكسر الجرّة!!
قال أصغر أبناء «أبو ابراهيم».! لكن الفكرة لم تعجب أحداً خوفاً من أن يسبب كسر الجرّة جروحاً في رقبة أو في رأس البقرة.
سرعان ما طرح أحد الحاضرين اسم «الحكيم حاييم»، قال إنه وحده القادر على إنقاذ الموقف دون خسائر..
«حاييم».. لا أحد يعرف كيفَ، ولا من أين حملَ هذا الاسم العجيب، ولا من أين جاء، ولا من أين اكتسبَ الحكمةَ التي اشتهر بها.؟!
جلس «حاييم» في ركن الغرفة، قال وهو يحاول شرحَ الأمر:
- لا نستطيعُ تخليصَ البقرة قبل أن نُحررَها من الحبل المحشور في شقِّ الجدار، وهذا الأمرُ يتطلب هدمَ جزءٍ من الجدار. «فكّر قليلاً ثم تابع»: ولا نستطيع هدم جزء من الجدار خوفاً من انهيار السقف!
علينا إذاً رفع السقف أولاً.! وإذا أسقطنا السقف دفعة واحدة ستتعرّض الجدران للانهيار، ونخسر كل شيء، ولكن لا بد لنا من عمل ذلك حفاظاً على البقرة وسلامتها.
تصاعدت همسات الاستحسان، وبعد أن استغرق حاييم بعض وقت، قال: - علينا أن نبدأ العمل إذاً، فالوقتُ ليس في صالح أحد على الإطلاق.
أزيلت الغرفة، الجدران، والسقف، بينما بقيت البقرةُ واقفةً في مكانها، ورأسها محشور في الجرّة.
تبادل مع الجميع نظرات ساخرة، ونظرة استهزاء صوّبها إلى أصغر أفراد أسرة «أبو ابراهيم»، ثم هبّ واقفاً، شد كتفيه الضئيلين، وفتحَ ذراعيه، وألقى على مسامع المنتظرين بصمت وخشوع خلاصةَ الحكمة التي تراكمت في تكوينه، وورثَها عبر سنوات تأملٍ كثيرة، جملةً واحدة، أسقط كلماتَها بهدوءٍ وثقة حرفاً وراء حرف:
- الآن حررنا الحبل، وحررنا البقرة، بقي أن نكسرَ الجّرة.!!
تنهد «أبو العبد» بعد أن انتهى من سرد القصّة، وأردف بسخرية:
- حق الشعب الفلسطيني أن يعود إلى أرضه وتاريخه وتراثه، وحق كل دولة أن تتمسّك بسيادتها وقرارها الوطني المستقل..