منتديات فرسان الثقافة - Powered by vBulletin

banner
النتائج 1 إلى 7 من 7
  1. #1

    قصة قصيرة بعنوان // الملحمة الهمبرتية.

    لقد طار السيد همبرت، وهو شيخ انتروبولوجي في العقد الثامن من عمره، إلى موطنه المتحضر، مذهولا بالإنجازات الخلاقة التي شاءت الأقدار ان ينثرها على جبين الإنسانيه . فلقد عمل جاهدا، بيقين لا يتزعزع، على إثبات أسبقية الإنسان القفصي الأول على نظيره الأسترالي...مجبولا، منذ القدم، بحب لا ينضب للقارة السمراء. حيث قادته يد الدليل الى استجلاء جملة من الحقائق، المتوهجة بالفرادة والعبقرية. والتي ما تلبث أن تعود على إفريقيا برمتها بالخير العميم.

    إستطاع الدليل، وقد أصغى جيدا الى محاضرة الانتروبولوجي، والتي وجد نفسه في معتركها على سبيل الصدفة، رصد نوايا هذا العالم الألمعي ..فلم يعدم الحيلة في الوصول إليه، والتحاور معه. حيث بشره وأن رحمات من السماء قد ألقت به في طريقه، ليفضي إليه بسر عظيم . وحدت بينهما عرى صداقة سريعة وفعالة، إقتنع على إثرها السيد همبرت بجدوى التشبث بتلابيب هذ القدر الإلهي.
    أما الدليل، فما هو سوى شاعر محبط ، بسبب دمامة مفرطة، ألقت به خارج أسوار جنة القريض . إلا أنه ظل على صموده واعتداده بذاته، فلقد كان يؤمن أن الرجل رجل، المهم أن يكون أجمل من القرد بقليل، تاركا بذلك عالم الفن لأهله من ذوي الوسامة. السبيل الوحيدة المفضية لأرقى مراتب المجد الإنساني . ومعوله في ذلك، على اللغات الحية المتنوعة، التي يحذق التخاطب بها، حيث يتولى غزلها ببالغ الحذر، كشبكة من خيوط العنكبوت حول طرائده من كل الجنسيات . فتمكن من إثبات منقطع النظير، لعمق جدواه من الناحية السياحية . إضافة وأن السيد همبرت أبدى ولعه بهذه البشاعة البدائية، والتي توشك تفقد نقاءها، بسبب ملوثات جمة من عالم الثقافة. فطفق يتأمله، بصفته الحلقة المفقودة في طريقه نحو مخلوقه المتوحش، الذي يمني النفس في العثور عليه .لكن الدليل، الذي كان على درجة عالية من المكر، لا يتحلى بها الشعراء عادة.....قد قاد السيد الهمبرتي على عجل الى مبتغاه. في اثر حوار موجز وبالغ العمق، إنطلاقا من قاعة النزل الفخمة، أين أختتمت أعمال المؤتمر الدولي حول علم أصول الإنسان.. منسلين، رفقة بعض المعاونين الأشداء. وقد سلكا طرقا غابية ، خارج المدينة، إلى منطقة تسمى برج النعام.

    وهي واحة، خارج مدينة قبلي، مسربلة في عزلة وحشية، من أشجار النخيل، والسواقي الملتفة كالأفعوان ، حيث المياه خضراء وراكدة، والبط يسبح في المستنقعات، والحشرات بأنواعها تموج في الهواء، واصطفاق أجنحة اليمام الباحث عن مخارج للشمس، بين ذرى سعفات الجريد المتمايلة . وقد أحاطت بالبرك المائية في هذا الدغل الكثيف، كثبان من الرمال، غزا أدناها البلل، وقد تسلقها دبيب المياه الراكدة ، وعلتها رمال مشرقة الضياء، تنتهي في قمتها بركام من الأوراق المسحوقة، تحت تشابك الأغصان المتدلية ، حيث خشخشة الزواحف والأفاعي ، فجوة، هي بالتاكيد ليست المكان الأمثل للنوم . ولكنها بالنسبة لجيار، الرجل الطبيعي الوحيد في المجرة، الذي يقدر قيمة السبات الطويل في العراء، بمثابة فردوس مفقود.
    كهل أربعيني, ربما لن يجد الدليل الشاعر منهجا لوصفه، خارج سيول التعبير الشعري الغابرة، حيث تقول القصيدة القديمة:" هو الزنجي ذو الفرو الطويل الأصلم." مع التدارك، وأن جيار لم يكن طويل القامة، أو ذا قد أهيف، وعندما نضيف العبارة الثانية، يكتمل المشهد برمته، إذ يمكن القول إن خلقه مضبرا تضبيرا. تبقى مسألة اللون، وهي مسألة غير جوهرية، من وجهة نظر إفريقيا السوداء. إلا أن السيد همبرت أبدى هياما بالنوازع البدائية، لشعوب إفريقية السمراء، قد أولاها القيمة المثلى، التي لا يمكن الإستهانة بها، لدواعي انتروبولوجية..على وقع الأوصاف الشعرية، التي تبرع بها الدليل، ذو الوجه البدائي، بخصوص جيار الخالص البدائية، كان السيد همبرت يشق بتلهف طريقه عبر ممرات الدغل. وقد تبلورت في مخيلته فكرة خاطئة عن طريدته النائمة، بسبب التهويمات الفنية، التي يتعمدها الغاوون عادة من فحول الشعراء. فتتراءى له قطعان من السمر المقاتلين، ذوي العيون المتقدة، والمتحفزة للقتال على الدوام. زيادة على ما يمكن أن تضيفه غريزة الدغل، الى وحشيتهم المتنمرة من مهارات بدائية، خبرها السيد همبرت أثناء أدائه لواجبه المقدس، إبان الحرب الفيتنامية، لبث زهور التقدم في قلب الدغل الاسيوي البربري
    .لكنه فوجئ بجيار المسكين، الكهل المخمور على الدوام، بعينيه الزائغتين، وجسده الجبار الذابل، ورقبتة القصيرة العظيمة، وشعره المجعد المسحوق، وقد تخللته حبات قليلة من الشيب ،تدل على قدم جيولوجي، سوف يتولى السيد همبرت إثباته فيما بعد. فها هو يصعق، وقد وقعت عيناه على حلمه المغيب. فندت عنه صرخة مكتومة، ولوح بيديه للجميع، بفرح هستيري، آمرا إياهم بالجمود واتباع الأوامر. في حين تولى بمفرده الإقتراب على مهل، من المارد النائم في فجوة الدغل، مزيحا عنه أغصان الأشجار، مصغيا بكل إنتشاء للأنفاس المترددة من الأعماق الأكثر أصالة لأسلافنا الغابرين .كان جيار معفرا بالتراب، وعلى جبينه التمعت ذرات من رمل بلون التبر، وخطوط متموجه كرغوة من زبد البحر. بدا كمركب تقاذفته الأمواج، ليرسو محطما، وقد دفن في رمال الشاطئ.
    لئن كانت الوقفة المنتصبة، هي سمة الحلقات الأخيرة في سلم التطور البشري ، فإن جيار قليلا ما كان يرى واقفا، إلا لقضاء أمر قد قدر. ذلك ما كان يعلق بمخيلة الدليل الشاعر منذ صباه ، فلقد رأى العديد من النماذج البشرية الشاذة والغريبة، التي رشحها لتنال إعجاب صديقه العالم الفذ. لكنها تلاشت برمتها، مع مرور الزمن، من سجل الذاكرة، حيث تلتمع صورة جيار الخالدة التي لا تزول، وقد آن الأوان للإفادة منها ...لكن جيار في شغل شاغل، لا يبدي حراكا للجلبة، التي كانت تتصاعد من حوله
    .يذكره في مرات نادرة، باحثا عن نبيذه الحارق، وهي اللحظات القليلة التي يكون فيها بقوام شبه منتصب، مستعيضا، بعزلة خمرية، عن فكرة النديم، والتي تثير شكوك الشاعر رجما بالغيب. خوف أن يكون له مرافق يتواصل معه.؟
    كان الأطفال يطاردون الرجال المخمورين، وهم أناس محترمون، انزلقوا الى مهاوي الحضيض، ومنذ اللحظة التي يعثر فيها عليهم سكارى يخرجون من الحياة العامة.لكن جيار لم يدخل الحياة العامة، من يوم مولده، ولا يبدو أنه كان صاحيا في يوم من الأيام. وذلك ما جعل منه الأنموذج الأكثر فرادة لدى السيد همبرت. لم يؤذ جيار أحدا، ذلك ما كان الدليل يحيط به السيد همبرت علما . فلقد تنبه إلى ما يبديه العبقري، من توجس، من سورة غضب محتملة للوحش الغافي، حيث أفضى السيد همبرت على الملأ وأن الإيذاء، باستعمال أبسط انواع فنون القتال، هو فعل ثقافي . لذا، ثبت بالمعاينة الملموسة، تبرئة السيد جيار من هذا الجرم، المشوه للخصال البدائية. في حين كان جيار في نظر الشاعر، مجرد أسد مخمور، يجر لبدته إلى العرين، إنطلاقا من الأسواق الشعبية، أين تتوفر سلافة الدن. ولو أمكن لهذا المارد أن يصحو تمام الصحو، ويستعمل جبروته الكامل، كما يروى عن أسود الزبد في بغداد، إبان الفوضى العظيمة، لصارت تجبى اليه القوافل، محملة بالجرار المعتقة، من عصور النوم الأكبر، وعهود السبات الأبدي. غير أن عشقه للصهباء، أتلف لديه أويقات الصحو ، مما حدا بهمبرت لإثبات خطير، ينفي بموجبه، أن يكون جيار قد تعامل قط مع أي منتج، من منجات الحضارة المعاصرة ، فهو لا يكاد يصحو بين صبوح وغبوق، مما سيجعل منه محجة المستكشفين، فيما سيحرص همبرت على الذود عنه، بمنعهم من الاقتراب منه، مانحا الفنانين حق الإحاطة به، بنية تخليده.

    يجزم الشاعر لهمبرت، أن جيار يتمتع في عزلته، بأفضلية أدبية على جميع سكارى الكون. حيث استبدل فكرة النديم، التي لا ينكرها إلا جاحد مسطول، بالغرق الدائم في بحيرة سبات عدمي، مثبتا في توحده قيمة المبادرة الفردية، بمدلولها الليبرالي والوجودي . ومن له فكرة ولو بسيطة عن النوم، بسمعته العالمية المشعة، لن يتجرأ على الإدعاء بأن أصحاب القبور أنفسهم، في حاجة إلى من يقارعهم، في هذه الكأس المترعة بالضياع. إضافة الى أن جيار، الرجل المعدم، كان يحتسي كحولا، جعلت في الأصل لإشعال الأحطاب في المواقد.
    إنها مشروبات انتحارية فردية، لا تستدعي وجود النديم، كفكرة صوفية أو خمرية، ذات بعد أسطوري. وبذلك تمت تبرئة جيار من البعد التاريخي الدرامي لمدلولات السكر الثقافية، ومن فكرة النديم الإشتراكية التي يمقتها السيد همبرت، في آن واحد،والتي في حال ثبوتها تكون تشويشا، يصل حد المساس من نقاء فكرة البدائية المحض، التي يحاول بعض المخمورين من العلماء الحاقدين التلاعب عليها.لم يكن السيد همبرت، المتحلي بالروح العلمية، في عجلة من أمره. فلقد وضع متاع الحاضر المتخيم، ليقتنص ملاحظاته القيمة، ويرصد كل حركات وسكنات حقل بحثه الفريد. ومما يجب التنويه به، أنه خلال الثواني الأولى لأبحاثه المتوجسة، طفق يفتش سرا في الجوار، عن آثار لجماجم أو بقايا طرائد، قد يكون جيار المسكين قام بافتراسها.! وبمرور الساعات، تململ جيار لمرات عدة، متقلبا على جنبيه، وقد خاب الرجاء في صحوته . وعندما انتصب بعد لأي، بجذعه المترنح، واتسعت حدقتاه المحمرتان، مجيلا بصره في الحاضرين، كحيوان مريض، شعر السيد همبرت نحوه بدفقات هائلة من حنان أبوي . وبدون أن يشعر إقترب منه، واتجهت يمينه إلى جبينه، تزيح عنها ما علق بها، بحركة في غاية النعومة، وكأنه يزيل غبارا سديميا، عن وجه قناع أحفوري نادر.

    ظل جيار مذهولا، ولم يكن يبدي أي نوع من أنواع التواصل، حتى مع الذين تم جلبهم من أبناء جلدته من الفلاحين، وكأنه لا يعرف اللغة على الإطلاق، ولا يحسن التلويح بالإشارة. وهذا بالتحديد مالم يكن يحلم به السيد همبرت.
    لقد باع الشاعر رمز طفولته، جيار، للعالم المريب، مقابل ثمن بخس، دولارات معدودات، كما باع القصائد من قبل، مثبتا بذلك كلتا قدميه، في مستنقع المهانة إلى الأبد .استأذن الأنتروبولوجي من لهم منتهى الأمر، في مرافقة وحشه البدائي إلى أنوار العالم المتحضر. وبذلك، أمكن لجيار النوم محلقا، في الفضاء الرحب، كنسر وافته المنية في الجو. إذ سرعان ما ملأت صوره الملونة أرقى المجلات، والنشريات العلمية، جنى بفضلها السيد همبرت ثروة طائلة. وقيل أنه تحصل على تشجيعات مالية ضخمة، من رؤوس الأموال المولعة بالبحوث العلمية، مكنه ما فاض منها من إعداد بيئة طبيعية، مماثلة لبرج النعام.! لكن جيار، الذي تماسك للعيش لشهور، لغرض إتمام السيد الهمبرتي لأبحاثه الخارقة، قد ساءت حاله ولاحت في مقلتيه نذر الموت المشؤومة ، اقتنصها رسام مغمور في لوحة زيتية منعدمة النظير، أرسلت به دفعة واحدة الى حجيم الشهرة .
    لكن جيار الجاحد للجميل قد فارق الحياة،لأسباب غامضة، مسلما السيد همبرت ليتم انتروبولوجي عقيم. وقد أشيع فيما أشيع، أن أمعاءه لم يتسن لها التأقلم مع جودة الأصناف الرفيعة من الخمور المعتقة، بالرغم من تولي السيد همبرت سقايته خفية لأحقر أنواع الكحول الملتهبة، ليدفن في الأخير بمسقط رأسه الطبيعي، إستجابة لدواعي أنتروبولوجية صرفة، في طقوس من الإجلال والرهبة، لم يحظ بمثلها مشاهير العالم الراقي، وقد حظيت الانسانية بلوحة زيتية مدهشة، عن كائن مغترب يحتضر، وتفضل الشاعر ببالغ الأسى، أمام حشد من المشيعين، ليرثيه بقصيدة عصماء، تغزل فيها بالسجايا البدائية النقية للإنسانية.

    شوقي الصليعي / تونس

  2. #2
    قصة لافتة لواقع مخز...
    أهلا بك بيننا من جديد..كان نصا مسبوكا بعناية.
    مرور اولي.
    [align=center]

    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي
    ( ليس عليك أن يقنع الناس برأيك ،، لكن عليك أن تقول للناس ما تعتقد أنه حق )
    [/align]

    يارب: إذا اعطيتني قوة فلاتأخذ عقلي
    وإذا أعطيتني مالا فلا تأخذ سعادتي
    وإذا أعطيتني جاها فلا تأخذ تواضعي
    *******
    لم يكن لقطعة الفأس أن تنال شيئا ً من جذع الشجرة ِ لولا أن غصنا ً منها تبرع أن يكون مقبضا ً للفأس .

  3. #3
    الأخت الفاضله ريمه الخاني، ألف شكر على المداخة الكريمة والكلمات المشجعه التي أسبغتها على نصي المتواضع. أخوك شوقي الصليعي.

  4. #4
    نص قوي يعكس في مرآة الضمير ملا يراه الكثير من البشر...
    مرور وتحية كبيرة.
    ملده

  5. #5
    الأخت الفاضلة ملده، ألف شكر على المرور الكريم، أسعدتني كلماتك واستكناهك لما رميت إليه من خلال النص. دمت. أخوك شوقي الصليعي.

  6. #6

    الملحمة الهمبرتية

    أخي المكرم الأستاذ شوقي


    قدمت نصا طريفا

    مغمورا بفيض من المعلومات العلمية

    ما يشير إلى غزارة ثقافتك

    أما الأسلوب فكان مشوقا و اللغة مكينة


    سلم يراعك باسقا

    نزار

  7. #7
    الأخ الفاضل نزار. ب الزين، ألف شكر على المرور الكريم والكلمات المشجعة التي اسبغتها على نصي المتواضع. الرجاء التفضل قصد تصحيح اسم البلد الذي انتمي إليه، بعد شكرك على إيراد قصتي القصيرة أقوام الضفة الأخرى بالعربي الحر. حيث ورد خطأ شوقي الصليعي من العراق والصواب أنني تونسي. ألف شكر مسبقا على تصحيح الأمر.

المواضيع المتشابهه

  1. قصة قصيرة بعنوان
    بواسطة أسامة عكنان في المنتدى فرسان القصة القصيرة
    مشاركات: 5
    آخر مشاركة: 11-17-2014, 10:49 AM
  2. قصة قصيرة//الملحمة الهمبرتية
    بواسطة شوقي الصليعي في المنتدى القصة القصيرة
    مشاركات: 7
    آخر مشاركة: 12-13-2012, 09:39 AM
  3. قصة قصيرة//الملحمة الهمبرتية
    بواسطة شوقي الصليعي في المنتدى القصة القصيرة
    مشاركات: 6
    آخر مشاركة: 12-04-2012, 10:06 PM
  4. قصة قصيرة بعنوان // الجراح البيضاء
    بواسطة شوقي الصليعي في المنتدى فرسان القصة القصيرة
    مشاركات: 6
    آخر مشاركة: 10-19-2010, 06:30 PM
  5. قصة قصيرة بعنوان // عرس في قاع البحر.
    بواسطة شوقي الصليعي في المنتدى فرسان القصة القصيرة
    مشاركات: 6
    آخر مشاركة: 10-09-2010, 07:34 PM

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •