الطائر الصغير يقود السرب
(1)
شعر (علوان) كأنه حصان وُضع في زريبة، وفُرشت تحته قِطعٌ صغيرة من أوراق كُتب التاريخ القديم، ووُضِع في (مِذْوَدِه) تبنٌ مكونٌ من فتافيت قصائد الحماسة والتغني بالأمجاد، ورُبِط بسلسلة من عنقه وأخرى من نقطة حساسة. عليه أن يفكر ويتحرك بقدر ما يَسمح به طول السلسلة. الوقت المتطاول يسمح له أن يقرأ كل كلمة على أي قطعة من الأوراق، ولم يعتنِ قط بترتيب تواريخ أحداثها، وأخذ العبرة، فكَوَّن تاريخاً خاصاً بنفسه من خلال مطالعته المستمرة ومضغه للتبن.
أغمض عينيه ليريحهما من مهمة متابعة الأحرف التي كانت تشبه النمل المتحرك باتجاهات مختلفة، ولأن الحصان لا يجتر، فكان يكتفي باستعادة الصور التي رُتبت على غير دراية في رفوف ذاكرته.
(2)
لم تمنعه قبضة أبيه أن يلتفت يميناً، في حين كان يساره محجوباً بجسم أبيه الضخم، والذي كان يمسك بيده بقوة حتى لا يفلت منه، ويتوه بين أزقة المدينة وأسواقها..
كان يتبعه بفعل قوانين الجذب الميكانيكية، ولأن خطوات أبيه السريعة أوسع من خطواته، كان عليه أن يخطو خمس خطوات مقابل ثلاث خطوات من أبيه، ولأن انتظام ذلك لم يكن سهلاً، كان أحياناً يرتطم بأسفل جسم أبيه الأيمن، ولكنه لا يتوقف عن السير...
هاله ما رأى من اختلافٍ بين أبنية تلك المدينة، وأبنية قريته التي لم يسبق أن غادرها. كان يَعُد طوابق العمارات، ولا ينجز عدها، لأن انتباهه كان يتوقف لمراقبة ما تعرضه واجهات المحال التجارية، وما يعتلي تلك الواجهات من قِطعٍ تعلن أسماء المحال.
راقته مسألة الأسماء، فأخذ يصعد ببصره ليتتبع ما أُلصِق على العمارات من قطعٍ تعلن عن أسماء محامين وأطباء اختصاص ومستشارين ومستوردين ومصدرين ومعالجين للسمنة والنمش وغيره..
ـ أبي، أبي .. هل يعرف فخامة الرئيس كل أسماء هؤلاء وأسماء من في الشقق والبيوت وأسعار ما يبيعون ويشترون؟
ـ امشِ، دعك من هذا السؤال..
ـ هل تعرف الجواب يا أبي، أم أنك لا تعرفه..
أحكم الوالد قبضته على يد ابن الثلاث عشرة سنة، وكأنه أجابه..
(3)
بعد ستة أعوام، وعندما كان يجلس مع من يُشاركه السكن في الجامعة، تذكر (علوان) تلك القصة وسردها لزملائه، فضحك الجميع إلا (واثق)، فنظر إليه زملاؤه متوقعين منه تعقيباً كعادته...
بعد أن ارتشف قليلاً من الشاي علق واثق بقوله: إن خبرة أبيك وآباءنا جميعاً، قد ورثوها عن آبائهم وأجدادهم، فهم يعلمون أن الخوض في مثل تلك المسائل سيأتي لهم بوجع الرأس ويسبب لهم المعاناة ويُعطلهم عن مزاولة أعمالهم، التي بالكاد ينجزونها دون تأخير..
تدخل أحد الزملاء واسمه (نضال): وهل نحن نعيش كما يعيش الآخرون في بلاد أخرى؟ نسكن ونعمل ونتداوى ونتعلم دون معاناة؟ أو دون أن نبيع مدخرات أجدادنا لننجز بعض ما نحلم به دون حساب لما سنترك لأبنائنا بعدنا؟
ـ احمد الله على نعمة الأمن والأمان، فغيرنا قد حُرِم منها، فلا تشفع لهم مدخراتهم ولا أرزاقهم ولا اختراعاتهم لينعموا بها كما ننعم.
ـ بل قُل أمن النظام، وليس أمننا، فمعظم واردات البلاد، تذهب لدعم مثل ذلك الأمن، ومن الطبيعي أن يحس أمثالك أن الأمن قد صُنع لهم!
ـ لا فرق، بين أمن النظام وأمننا..
ـ بل هناك فرقٌ كبير، فالأمن بمفهومه الواسع، يشمل الأمن الغذائي والصحي والأمن المائي والأمن الثقافي وأخيراً الأمن، كما تفهمه حضرتك... وإن تحققت شروط الأمن الأولى فلا حاجة للأعداد الغفيرة من جيوش المستخدمين في الأمن. يُقال أنه من ذهب الى هولندا لن يصادف رجل أمنٍ في الشارع، ولن يلحظ أسواراً عالية للمنازل، ولا شبك حماية على النوافذ، لأن الناس يقومون بما تقوم به الحكومة لالتصاق مصالحهم بمصالحها واندماج مفاهيمهم مع مفاهيمها.
يتدخل زميلهم (عادل) ممازحاً: هولندا مرة واحدة؟ نحن أو غيرنا ممن يمارسون هواية التطوع للدفاع عن النظام، يختارون دولة متواضعة مثل (سيراليون) أو دولة مجاورة ليفحموا غيرهم بأن دولتنا أفضل من تلك الدولة! قوموا الى دروسكم حتى نجعل من بلادنا كهولندا..