التطميناتُ الرّبانيّة النفسيّة (1)
حفلت الآيات القرآنيّة بمفاتيح أبواب الحياة النفسية السعيدة ، التي تورث من نسج منهاجه على منوالها حياة هنيئة رشيدة ، وليحصد جرّاء ذلك ثمرات خيّرة عديدة ، وبذا تكون تلك النصوص قد نصحت للأمة وجلّت لها ما يكشف عنها الغمّة، ويجلب لها النضرة والسرور ، ويعود عليها بالبهجة والحبور ، وتفصيل ذلك على النحو التالي :
*
مشاعرُ العزة والرّفعة إنما تخالج قلوبَ المؤمنين، والظهورُ والغلبة لهم ما تمسّكوا بالدين :
بشّر بذلك قولُ العزيز الرحيم: {ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين} (سورة المنافقون 139 ) أي: ولله الغلبة والقوة ولمن أعزه الله تعالى من رسوله – صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين لا للغير، وفي تقديم الخبر إفادة للحصر (أنظر الألوسي :روح المعاني 28 /116 )
وإعادة اللام في قوله: ولرسوله وقوله: وللمؤمنين ، لتأكيد عزتهم ( إبن عاشور :التحرير والتنوير 28 /250 )
وقال سبحانه:{ وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين } (سورة آل عمران 139 )
قال الضحّاك ـ رحمه الله تعالى ـ (وأنتم الغالبون) (السيوطي :الدر المنثور ،2 /140 ) أي: ( لكم العاقبة والظهور إن كنتم مصدقين نبيي بما جاء به عني) ( الطبري :جامع البيان 4/103 )
قال ابن كثير ـ رحمه الله تعالى ـ : ( العاقبة والنصر لكم أيها المؤمنون ) (ابن كثير : تفسير القرآن العظيم،2/127 )
وبهذا نرى أنّ عزة المؤمنين ليست رهينة صولة وجولة يخوضها أنصارُ الحق مع أرباب الباطل وأشياعه ، فينالون منه أو ينال منهم ، إنما مردّ العزة وباعثها ذخيرة فكريّة نيّرة استقرت في العقول وأشربتها القلوب فنجم عنها مسالك ومواقف خيّرة ! وعليه فالعزّة ملتصقة بهم مضروبة عليهم ما استمسكوا بِعُرى هذا الدين القويم !
* مَنْ توكل على الله كفاه، ومَنْ اتقاه وقاه، ويسّر عليه أمرَ دنياه وأخراه :
أذاع هذه البشائر قوله عز من قائل { ومن يتوكل على الله فهو حسبه } (سورة الطلاق، 3) قال الطبري ـ رحمه الله تعالى ـ: (ومن يتق الله في أموره ويفوضها إليه فهو كافيه) (الطبري:جامع البيان، 28 /156 ) كافيه ما أهمّه ( القرطبي:الجامع لأحكام القرآن،18/156 ) قال الشوكاني ـ رحمه الله تعالى ـ: (مَنْ وثق بالله فيما نابه كفاه ما أهمّه) (الشوكاني: فتح القدير،5 /296) وقال ابن مسعود رضي الله عنه: (إن أكبر آية في القرآن تفوّضاً {ومن يتوكل على الله فهو حسبه} وقال ابن القيم ـ رحمه الله تعالى ـ في صدد هذه الآية: (وجعل لكل عمل من أعمال البر ، ومقام من مقاماته جزاء معلوماً وجعل نفسه جزاء المتوكل عليه وكفايته) (ابن القيم: الضوء المنير على التفسير 6/79)
وفي باب التقوى قال جل وعلا مُجَلياً بعض ثمارها : {ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لايحستب} (سورة الطلاق 2،3) قال ابن كثير ـ رحمه الله تعالى ـ: (ومن يتق الله فيما أمره به ، وتركه ما نهاه عنه ، يجعل له من أمره مخرجاً) (ابن كثير: تفسير القرآن العظيم 8/146) أي (يجعل له مخرجاً ممّا وقع فيه من الشدائد والمحن) (الشوكاني: فتح القدير 5/295) قوله: {ويرزقه من حيث لايحتسب} أي (من جهة لا تخطر بباله) (ابن كثير: تفسير القرآن العظيم 8/146) أي بال العبد المرزوق ، وقال الطبري ـ رحمه الله تعالى ـ : (يسبّب له أسباب الرزق من حيث لايشعر ولا يعلم) (الطبري: جامع البيان 28/137) .
وقال سبحانه: { ومن يتق الله يجعل له من أمره يسراً} (سورة الطلاق 4) قال ابن كثير ـ رحمه الله تعالى ـ : (يسهّل له أمره ، وييسّره عليه، ويجعل له فرجاً قريباً ومخرجاً عاجلاً ) (ابن كثير: تفسير القرآن العظيم 8/152) أي: (ييسر له من أمره ، ويحلل له من عُقدِه، بسبب التقوى) (الزمخشري: الكشاف 6/147 ـ 148)
* ثمراتُ الهدايةِ والخير عائداتٌ على أهلها ، واستحقاقاتُ الغوايةِ والشرّ مُلحِقاتٌ بأشياعِها :
أفاد بذا قول الحق تبارك وتعالى: {من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها}(سورة الإسراء 15).
( بيّن سبحانه أن ثواب العمل الصالح وعقاب ضده يختصان بفاعلهما لا يتعدّيان منه إلى غيره، فمن اهتدى بفعل ما أمره الله به وترك ما نهاه الله عنه ، فإنما تعود منفعة ذلك إلى نفسه ) (الشوكاني: فتح القدير ،3 /268 ) (ومن ضلّ )(عن الحق، وزاغ عن سبيل الرشاد، فإنما يجني على نفسه، وإنما يعود وبال ذلك عليه) (ابن كثير: تفسير القرآن العظيم،5 /52 ) أي (وبال ضلاله واقع على نفسه لا يجاوزها، فكلّ أحد محاسب عن نفسه مَجزيّ بطاعته معاقب بمعصيته ) (الشوكاني: فتح القدير، 3 /268 )
قال الطبري ـ رحمه الله تعالى ـ : ( فليس يضرّ بضلاله وجوره عن الهدى غير نفسه لأنه يوجب لها بذلك غضب الله وأليم عذابه) (الطبري:جامع البيان،15 /54 )
ونظير هذه الآية قوله تعالى: {من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها} (سورة فصلت: 46 ) قال ابن كثير ـ رحمه الله تعالى ـ في تفسيره لهذه الآيه: ( من عمل صالحا فلنفسه ) أي: (إنما يعود نفع ذلك على نفسه ( ومن أساء فعليها ) أي: ( إنما يرجع وبال ذلك عليه) (ابن كثير:تفسير القرآن العظيم،7 /185)
* الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور مجلبة لشرح الصدور وآنفساحها بالنور:
أشاع ذلك قول الحليم الشكور: { فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام} (سورة الأنعام، آيه 125 ) أخرج عبد الرزاق عن أبي جعفر قال : ( سُئل النبي – صلى الله عليه وسلم - عن هذه الأية (فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ) وقالوا: كيف يشرح صدره يارسول الله ؟ قال: نور يُقذف فيه فينشرح له وينفسح، قالوا: فهل لذلك من أمارة يعرف بها ؟ قال: الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والإستعداد للموت قبل لقاء الموت) (أخرجه الطبري في جامع البيان ،8 /27 ،وابن كثير في تفسير القرآن العظيم 3 /335 ،والسيوطي في الدر المنثور،4 /83 ،وآبن أبي حاتم في تفسير القرآن العظيم4 /1384 ،والقرطبي في الجامع لأحكام القرآن 7/82 ، والشوكاني في فتح القدير 2 /202 )
* مَنْ أقبل على الله تعالى بالايمان وعمل الصالحات ، أقبل الله بقلوب عباده إليه بالمودّات :
سطّر هذه البشارة قوله جل شأنه: { إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن وُدّا}(سورة مريم 96 )
قوله : ( سيجعل لهم الرحمن وُدّا ) قال ابن عباس - رضي الله عنهما - : ( محبة في قلوب المؤمنين ) ، وقال مجاهد عنه: ( محبة في الناس في الدنيا )، وقال سعيد بن جبير: (يحبّهم ويحبّبهم ) يعني إلى خلقه المؤمنين، وكذا قال مجاهد والضحاك وغيرهم،
وقال قتادة : ( إي والله في قلوب أهل الإيمان، ذكر لنا أن حرم بن حيان كان يقول: ما أقبل عبد بقلبه إلى الله إلا أقبل الله بقلوب المؤمنين إليه حتى يرزقه مودتهم ورحمتهم انظر ما نقل عن أئمة التفسير في هذه الآية ( الطبري جامع البيان 16 /132 ،133 وابن كثير: تفسير القرآن العظيم 5/269 ، والسيوطي: الدر المنثور،4 /511 )
إذن في هذه الآية ( يخبر تعالى أنه يغرس لعباده المؤمنين الذين يعملون الصالحات، وهي الأعمال الصالحة، التي ترضي الله عز وجل ـ لمتابعتها الشريعة المحمدية ـ يغرس لهم في قلوب عباده الصالحين مودة، وهذا أمر لابد منه، ولا محيد عنه، وقد ورد بذلك الأحاديث الصحيحة عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم - ) (ابن كثير: تفسير القرآن العظيم5/267) منها:
قوله عليه الصلاة والسلام : (إذا أحب الله العبد نادى جبريل: إن الله يحب فلانا فأحبه، فيحبه جبريل، فينادي جبريل في أهل السماء: إن الله يحبّ فلانا فأحبّوه فيحبه أهل السماء ثم( يوضع له القبول): محبة العباد له وميلهم إليه ورضاهم عنه،( أنظر: البغا، شرح صحيح البخاري 5/2246) في أهل الأرض ) (أخرجه البخاري في صحيحه 5/2246، كتاب الأدب، باب المقة من الله( أي المحبة) رقمه5694)، وفي كتاب بدء الخلق، باب: ذكر الملائكة 3/1175، رقمه (3037) واللفظ له ومسلم في صحيحه 16/145، كتاب البر والصلة والأدب، باب إذا أحب الله عبدا حببه إلى عباده، (2637) )