الحمقى والمهابيل ومؤجري الطابق الفوقاني (1)
خطيب بدلة
--------------------------------------------------------------------------------
أخبار الحمقى والمهابيل ومؤجري الطابق الفوقاني (1)
خطيب بدلة
الديك:
يعيش في مدينة معرتمصرين التابعة لمحافظة إدلب، شاب اسمه "سين"، ويلقب بـ "الديك"، وبالطبع فإن لقبه لم يأت من فراغ، فجسمه طويل، ونحيل، ورأسه صغير، وعيناه مستديرتان وزرقاوان، وشعره الأشقر (متقنزع) فوق رأسه مثل عُرف الديك، وفوق هذا صوته أجش، حينما يتكلم فكأنما يقوقىء كالديك. وإضافة لهذا الخلل البيولوجي، الوراثي، ثمة خلل دماغي أدى إلى أن يؤجر "الديك" الطابق الفوقاني، والمستأجر امتنع عن إخلاء المأجور، والقانون- كما هو معروف- يقف مع المستأجر، ضد صاحب الملك!
ذات مرة، كان "الديك" جائعاً، وهو ليس متزوجاً حتى يأخذَ اللقمة من فم (منقار) زوجته، كما تفعل ديوك أهل (مَرو)- على حد زعم أستاذنا الجاحظ- لذلك خرج من البيت (البيت أم الخُم؟)، وشرع يبحث بعينيه الديكيتين عن فريسة، سرعان ما وجدها على هيئة فتى مدلل ابن عائلة غنية، يحمل بيده سندويشة (أسماها المجمع اللغوي ذات مرة: الشاطر والمشطور والكامخ بينهما!!) محشوة بالشاورما، فأمسك الديك بتلابيبه وقال له:
-أنت يا ولد، لا تحبني، وفي العام الماضي، مثل هذه الأيام، حَشَّكـت لي (كلمة معرتمصرينية تعني بالعربية: سَبَبْـتَني).
دهش الفتى وقال مرعوباً:
-ما هذا الكلام يا ديك؟ أنا حَشَّكت لك؟ قسماً بالله هذا الشيء ما حصل.
فقال الديك: صحيح، لم يحصل، ولكنك كنت تريد أن تُحَشِّك لي!
وبعد أخذ ورد، ولكز ورفس وتهديد.. تخلى الفتى عن السندويشة العامرة بالشاورما للديك، مقابل أن يعفو عنه، لأنه (كان) من المحتمل أن يسبه!
ردود فعل ديكية:
بينما أنا أعيد قراءة كتب "أخبار الحمقى والمغفلين" لابن الجوزي، مرة ثانية، إذ خطر لي الخاطر التالي:
إن التعامل مع كتب التراث، بصيغتها الراهنة، أمر صعب، بل عويص، وذلك لكثرة الحواشي فيها، والإشارات المرجعية، والكلمات المهجورة التي تحتاج معرفة معناها لمراجعة المعاجم، والإحالات إلى تواريخ، وأسماء مشاهير، لعل معظم القراء المعاصرين لم يسمعوا بها.
وتساءلت مع نفسي:
- لماذا نضيع متعة قراءة بعض الكتب التراثية العظيمة، ككتا "أخبار الحمقى والمغفلين"، ولا نقدمه لقارئنا بطريقة ميسرة، ومفهومة؟
وفي معرض الجواب عن هذا السؤال أقول: إن الأغلبية الغالبة من قرائنا، وأخص الأدباء والباحثين ذوي العقول المنفتحة، سيرحبون بالفكرة، وأما السادة البحاثة والدارسون، المتحمسون للتراث إلى درجة إضفاء طابع القدسية عليه، فيسهبّون للاعتراض على هذه الفكرة، قائلين لي، على طريقة الديك المعرتمصريني:
-لقد أسأت إلى تراثنا.
فأقول: أبداً، والله لم أسىءْ إليه.
فيقولون: كنت تريد أن تسيء إليه!
وذلك لكي أتخلى لهم عن "شاطري ومشطوري والكامخ بينهما" العامرة بالشاورما، التي أحملها بيدي!
تيسير، وليس تبسيطاً:
ولأجل طرح المزيد من الأفكار لمناقشة هذه المسألة، أقول:
حينما أراد أجدادنا أن يعرِّفوا البلاغة قالوا: (هي أن تقول فلا تبطىء ولا تخطىء)، ثم وجدوا هذا التعريف طويلاً، وخالياً من البلاغة، فقالوا: (البلاغة هي الإيجاز). ثم حذفوا كلمة (هي) التي تبدو ضمن هذا السياق نافلة، واستقر رأيهم على القول: (البلاغةُ الإيجاز!).
ومع ذلك فأنت ترى محققي الكتب التراثية يسهبون ويطنبون ويسترسلون في شرح الحواشي والمتون، ويحكون لنا- بطريقهم- بعض الحكايات المعنعنة، ويستشهدون ببعض الأشعار التي تؤيد صحة مزاعمهم وتدحض مزاعم خصومهم، وكأن الواحد منهن قد بلع راديو رُكزت قناته على إحدى المحطات العربية التي يستبسل مذيعوها في سبيل إقناع الناس بما هو عكس الحقيقة أو عكس قناعاتهم!
فمع أن البلاغة تقضي بأن يكتبوا على غلاف الكتاب: "أخبار الحمقى والمغفلين" لابن الجوزي،.. كتبوا أنه من تأليف (الشيخ- الإمام- العالم- العامل- الورع- الزاهد- الفاضل- وحيد دهره- وفريد عصره- شيخ الإسلام والمسلمين- بقية السلف الصالحين- أبي الفرج- جمال الدين- عبد الرحمن- بن علي- بن محمد- بن علي- بن عبيد الله- ابن الجوزي- القرشي- التيمي- البكري- البغدادي).
إن اعتراضنا الأساسي ليس منصباً فقط على الإسهاب، بل إن وضع صفات المديح وأحكام القيمة من مثل (الورع- الزاهد- الفاضل- وحيد دهره- وفريد عصره- شيخ الإسلام والمسلمين- بقية السلف الصالحين) تتعارض مع التأليف الموضوعي الذي نتفق عليه في العصر الحديث.
وبدلاً من هاتيك الصفات الخطابية الإنشائية تعالوا نذكر صفاته الحقيقية، فقد كان ابن الجوزي: واحداً من مثقفي القرن الثاني عشر الميلادي، ( 1114- 1201 م)، عالماً في التاريخ والحديث والجدل والكلام، وكان لطيفاً، فكهاً (صاحب نكتة وتعليق ظريف). ألا يكفي هذا سادتي؟
دوافع التأليف:
يعتقد الرجل ذو الأسماء والألقاب العديدة الذي اختصرنا اسمه فأصبح "ابن الجوزي" أن قراءة أخبار الشجعان، على سبيل المثال، تعلم الناس الشجاعة، وقراءة أخبار الأذكياء تعادل- على سبيل الافتراض- بلعَ بعض حبات "فيلمون وهبي" الخاصة بالذكاء، التي كان ينادي عليها مغنياً:
عندي دوا للذكا- ومعبا بظروف- حبة بياخدها الـ ما بيفهم- بيصير فيلسوف!
لهذا فقد ألف كتاباً رائعاً وضع له عنوان "الأذكياء"، بقصد أن ينعدي القراء بالفطور النافعة الخاصة بالذكاء.. وأما كتاب "أخبار الحمقى والمغفلين" فقد ألفه لأسباب ثلاثة، هي:
الأول: أن يقرأ العاقلُ أخبارَهم، فيبوس يده ويضعها على رأسه شكراً لله وامتناناً لأنه لم يخلقه مثلهم! ودليل ذلك أن رجلاً تكلم في مجلس ابن عباس كلاماً عامراً باللحن والتأتأة و(التزحيط بقشر البطيخ) والوقوع على طوله أمام الحاضرين، فحمد ابن عباس ربه، ولما سأله المتكلم التأتاء عن السبب قال له: أحمده لأنه لم يخلقني مثلك!
الثاني: أن أخبار الحمقى والمغفلين تحث الإنسان على تلافي الحُمق والغفلة، هذا إذا كانت من العادات المكتسبة، فإذا كانت من أصل الطباع فهي لاتقبل التغيير.
الثالث: أن يروِّح الإنسان قلبه بالنظر في أخبار هؤلاء المتعيس، المناحيس، خائبي الرجاء،.. يسمعها من أناس يمتلكون مهارة القص وركوب صهوة الحديث، فيضحكون حتى ينقلبوا على أقفيتهم، وقد كان "عطاء بن سيار" من هؤلاء المتحدثين المهرة، فكان يحدث جُلاسه حتى يبكيهم، ثم يحدثهم حتى يضحكهم، ويقول: مرة هكذا ومرة هكذا.
وقد أنشد الأصمعي مخاطباً القاضي محمد بن عمران التميمي:
يا أيها السائل عن منـزلي
نزلتُ في الخانِ على نفسي
يغدو علي الخبزُ من خابـزٍ
لا يقبلُ الرهنَ ولا يُنـسـي
آكل من كيسي ومن كسوتي
حتى لقد أوجعني ضرسـي
وأوضح له أن هذا الشعر يصلح للأحداث، وعامة الناس، ولكن القاضي طرب لها، وسجلها في دفتره، وقال للأصمعي:
-الأشراف تعجبهم الملاحة!
تعريف الحماقة:
كلمة الحماقة مأخوذة من (حَمُقَت السوقُ)، إذا كسدت، فكأن الأحمق إنسان كاسدُ العقـل والرأي، فلا يُشاوَرُ في سلم ولا في حرب. وقد سميت البقلة (الحمقاء) لأنها تنبت في طريق الماء وطريق الإبل.
والحُمق هو الغلط في الوسيلة، وفي الطريق إلى المطلوب، مع صحة المقصود، بعكس الجنون الذي ينطوي على خلل في الوسيلة والمقصود كليهما، وإذا شئت مثالاً يعبر عن الحماقة على نحو لا يجارى فإليك هذا المثال:
طار طائر من أمير، فأمر بأن يغلق بابُ المدينة!
--------------------------------------------------------------------------------
الأخوة الأفاضل
لاأعلم لماذا يراودني شعور بأن الأخ أبا المرداس قد قدم مداخلته هذه كنعبيير عن رأيه بمعركة داحس والغبراء التي تجري من خلال مداخلة بيروت .. الله .. إسرائيل، للأخ طرفة بن العبد بين الأخوة أعضاء هذا الموقع والتي ممكن متابعتها من خلال الرابط:
http://www.edleb.net/modules.php?nam...256&highlight=
أبا مرداس ومن خلال تعريفك المعتمد للحماقة "والحُمق هو الغلط في الوسيلة، وفي الطريق إلى المطلوب، مع صحة المقصود، بعكس الجنون الذي ينطوي على خلل في الوسيلة والمقصود كليهما" فمايجري هل هو حماقة أم جنون، أبعدنا الله وإياكم عن (طاريهم)؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟ !!!!!!!!!!
تحياتي
أخيكم
_________________
أبن إدلب <br />سعيد هاشم غزاَل
Ghazal M. Said