ما لا تعرفه عن الهُكسـوس! (2-4)
الهكسوس نقلوا الحضارة لمصر
ولقد اشتهر الهُكسوس وامتازوا بقوتهم العسكرية وميلهم للحرب واستخدام المركبات الحربية التي تجرها الجياد. إذ لم يكن المصريون يعرفون الخيل ولا المركبات الحربية التي أدخلها الآريون في آسيا منذ قرنين أو ثلاثة واقتبسها الهُكسوس على الفور[1] وقد كان لهذه العربات التي ألقت الرعب في قلب المصريين الدور الأكبر في هزيمتهم. وقد كانت "قادش" عاصمة الهُكسوس في بلاد الشام، وبعد فتح مصر شاد الهُكسوس بلدة "أفاريس" في الدلتا لتكون عاصمة أول اتحاد بين مصر وبلاد الشام، وهي تقع في شمال شرق الدلتا قرب بحيرة المنزلة في مصر وشملت إمبراطوريتهم جزءاً من آسيا الصغرى وشمالي سوريا وشمال العراق وبلاد الشام ومصر[2]. ولم يكن الهُكسوس موجة من البرابرة الذين كانوا يخربون في طريقهم الحضارات السابقة ويهدمون المدن، كما أشاع عنهم وعن الآشوريين الـ(يهود) الذين كان يثير حقدهم استمرار إمكانات المزج التجاري والثقافي عند الأمم التي كانت تحافظ على حضارة السابقين وتتبناها.. فالهُكسوس "لم يكونوا مطلقاً من المخربين البدائيين بل كانوا من الأموريين الذين تلقوا وصايا الدين والثقافة من العراق ومن سورية، ثم نشروا ثروتها على طول ساحل البحر الأبيض المتوسط، ولم تكشف الحفائر التي أجريت على طريق مرورهم في فلسطين في القرن الثامن عشر، أي تخريب لمنجزات الحضارة أو الدين من نوع ما خلفه (الكنعانيون) في القرن السابع عشر ... لقد حمل الأموريون معهم هذا التراث إلى مصر حيث لقي فترة من الازدهار قصيرة ولكنها لامعة وكان ذلك بعد قرنين من رحيلهم من مصر، على عهد (أخناتون) الذي سوف يصطدم بردود فعل تتمثل في رفض مجموعة الكهنة للوحدانية الأمورية"[3]. قد كان الهُكسوس خلافاً لما ادعاه بعض علماء الآثار الذين اعتمدوا على آراء (مانيتون) وآثار مصر الجنوبية، من تجاوز غيرهم في نواحٍ كثيرة؛ يقول الدكتور (سليم حسن) في كتابه "مصر القديمة": "كان الهُكسوس مثقفين ذوي حضارة وعرفان فنهلت مصر من موردهم واستنارت بمدنيتهم التي انتظمت فيها فنون الحرب ونواحي الصناعة، وأخذت عنهم كثيراً من المخترعات التي لم تُعرف قبل في وادي النيل"[4]، ومن الفنون التي نقلها الهكسوس معهم إلى مصر الخيل والمركبات الحربية والدروع، ونقلوا أنواعاً من المزروعات وفنون الإدارة. جاء في كتاب الأُستاذ (مصطفى الدباغ) بلادنا فلسطين: "والهُكسوس هم الذين أدخلوا الخيل إلى القطر المصري أول مرة ودربوا المصريين على استعمال العجلات الحربية التي لم تكن معروفة لديهم، كما علموهم غيرها من الأسلحة الحربية كالدروع التي تلبس فوق الجسم والسيف الحديدي المنحني والقوس، والمركب الذي كان قد عرفه الآكديين في العراق في القرن الثاني والعشرين قبل الميلاد، وذهب البعض إلى أن الهُكسوس هم الذين أدخلوا زراعة الرمان والتمر والكثير من الزهور وغير الزهور إلى مصر"[5]، وقد تبنوا في مصر تطبيق نظام الحكومة المركزية والتي أخذها عنهم المصريين من بعد"[6]. ويقول المؤرخ المصري المعاصر الدكتور (نجيب ميخائيل إبراهيم) مؤكداً على ما سبق: "ولقد كانت حضارة سورية مماثلة للحضارة المصرية إن لم تكن أسمى منها في بعض النواحي. ودليلنا على ذلك أنه لم يظهر من قبل زي عسكري ولكننا نرى بعد مجدو دروعاً تتمثل صورها على جدران المقابر، ولم تكن هناك عجلات مذهبة في مصر إذ أنها لم تظهر إلا متأخرة، وحين ظهرت كان ذلك مع الملوك فقط، بينما نجد في قوائم غنائم مجدو ذكر عجلتين مصفحتين بالذهب وعشرة عجلات مصفحة بالذهب والفضة وتسع عشرة مصفحة بالفضة، وكذلك عجلات محلاة بالذهب والفضة وملونة، ولقد كان ذلك ثراء فوق مستوى الثراء الذي عرفه المصريون وكان فناً جديداً عليهم، بل إننا نستطيع أن نلمس في الكؤوس والأواني من الذهب والفضة حضارة شعوب في مستوى الشعب المصري إن لم تكن ترتفع عنه"[7]. ويضيف قائلاً في موضع آخر: كان لهذا الاتصال المباشر بين السوريين صناعاً وسبايا وبين المصريين أثره في الحياة العامة في مصر، فقد غير من الذوق المصري والحياة المصرية وكان له تأثيره الذي لم يسبق لنا أن أحسسنا به منذ تأسيس الملكية. وامتد هذا الأثر إلى كل ألوان الحياة المصرية بل شمل الكتابة فرقت الهيراطيقية بعد أن كانت غليظة وأينعت بعد أن كادت تجف ... أما التماثيل فظهرت عليها مسحة جديدة من الرقة وقوة التعبير، وأما نقوش الحوائط فقد مثل بها كثير من القص الساحر[8]. وعن فكرة التوحيد يقول ص174: "أخذت الدلتا تتأثر بفكرة التوحيد التي كانت منتشرة في سورية والتي أدخلها الهُكسوس معهم في هيئة معبودهم الجديد الذي قرنه المصريون بإلههم (ست)". وهناك عدة أمارات تدل على أن الهُكسوس كانوا يعيشون في مصر حياة منظمة بالمعنى الاجتماعي الصحيح ولم يبقوا في نطاق الحياة القبلية، فهم قد خططوا البلدان التي راجت فيها التجارة، وأن صناعة الفخار والحدادة والمجوهرات كانت متفوقة في عهدهم مما لم يكن ميسوراً قبل، تقدم عمل السبائك والتفنن فيها وهو ما ظهر على أيدي الهُكسوس. وأن ما تم في عهدهم من الأعمال الجليلة لا يمكن أن يتم في جو كله حروب مستديمة، بل يجب أن يعزى إلى قوم على جانب عظيم من المهارة وطرائق الحياة المتمدنة التي اعتنقوها بعد أن حطوا رحالهم واستقر بهم المكان[9]. واشتهر الهُكسوس بإحاطة مدنهم بأسوار مستطيلة أو مربعة يحيطونها بالخنادق لتحصينها في وجه الغزاة، ومن أهم المدن التي بنوها أو ازدهرت في عهدهم مدينة (تل العجول) في جنوبي غزة ومدينة (شكيم) و(حاصور) و(أري)"[10]. وفي زمن الهكسوس حدثت قصة نبي الله يوسف مع إخوته وفي زمنهم أيضاً أتى بأبيه يعقوب وأخوته ليستقروا في مصر.
[1] دريوتون، فاندييه،مرجع سابق، ص324.
[2] يوسف هيكل، مرجع سابق، ص26.
[3] رجاء جارودي، مرجع سابق، يراجع من ص158-162.
[4] المرجع السابق، ص163، الموسوعة الفلسطينية، م1، مرجع سابق، ص267.
[5] الموسوعة الفلسطينية، م1، مرجع سابق، ص267.
[6] عبد الوهاب الكيالي، مرجع سابق، ص17.
[7] نجيب ميخائيل إبراهيم، مصر والشرق الأدنى، مصر ج2، مرجع سابق، ص170.
[8] المرجع السابق، ص172.
[9] محمد عزة دروزة، ج2، مرجع سابق، ص126.
[10] عبد الرحمن المزين، مرجع سابق، ص71.