لم يكن الأمر كذلك.!
كان ينزف بغزارة قريباً من نقطة التقاء النهرين العظيمين، ولا يعبأ به أحد.!
يتسلل الدم النازف منه بطيئاً، يشق مسلكاً صغيراً بين طراوة النجيل، متقدماً ببطء لكن بثبات واستقامة إلى الماء..
تتجمع دفقات الدم على حد صخرة صغيرة حتى تطفح، ثم تقفز قطرة فقطرة إلى النهر فتلونه بسحابة من الأحمر القاني.
كان ينزف بغزارة.. لكنه لم يمت.!
ـ أما زلت ترى الحلم نفسه.؟
بل كان الحلم يكتب مع رطوبة المكان المسكون بروائح العفن حكاية ما على صفحة ذاكرته، بدأ منذ وقت لم يعد يذكره، وذلك الشاب المكفّن ببياض الحلم يركض بلا ذراعين كأن به مسّ، ينظر إلى الماء بذعر، ثم يسقط على بساط النجيل المفروش على مرتفع قريب من ضفتيّ النهرين العظيمين.
من هو ذلك الشاب المدهش الذي يطرق أحاسيسه في كل ليلة.؟
والحلم يقرع نواقيسه الضبابية ويداهمه كل ليلة، مستوياً قابضاً على ناصية الحكاية ذاتها، لا يبتعد عنها ولا يبدلها، كان ينزف، الدماء تتساقط كحبيبات ندى من أطرافه على النجيل، فترسل بريقاً كلما مسحتها أشعة الشمس ذات فجأة، فيرتعش بللاً.
ـ رؤية الدماء في الحلم تفسخه.!
ينظر إليهما "جون" الضخم بوجهه الطافح بالحمرة، وعينيه الزرقاوين الصغيرتين، من كوّة في أعلى الباب المصفّح، يبتسم بشماتة، ويهزّ رأسه ساخراً.. وما إن تبتعد وقع خطواته قليلاً عن باب الزنزانة، حتى يقفز الرجلان لمراقبته من الكوّة الصغيرة وهو يجلس سانداً كرشه على حافة المقعد البلاستيكي الأحمر الوطيء، يعتني أن يضعه بين صفيّ الزنازين كي يراقب أبوابها جميعاً في وقت واحد. يتبادلان نظرات سريعة مبللة بابتسامتين ساخرتين أيضاً، وهما يدركان أن شخيره سيصل إلى مسامعهما بعد دقائق.
لم يكن "كاظم" كما رفيقه في الزنزانة "محروس" بحاجة للخضوع إلى صنوف التحقيقات، فالجريمة التي ارتكبها واضحة وبيّنة، وأوراقه أمام لجنة التحقيق تشير دون لبس بأنه قام بقتل ثلاثة جنود بدم بارد، وبوحشية، أثناء تأديتهم خدماتهم الإنسانية بدافع سرقتهم، والاستيلاء على أسلحتهم، دون الدخول في أي تفاصيل.!
ولم يكن الأمر كذلك..!
أما محروس، "وهو الأقدم في الزنزانة التي كانت قبل أن يحشر معه فيها "كاظم" زنزانةً منفردة تكاد تتسع لحركته البسيطة" فقد كان يساق للتحقيق بين فترة وفترة، وكان بطبيعة الحال يتعرّض لأنواع وأشكال من ضغوط التعذيب كي يعترف.
ـ لقد ألقوا القبض عليّ وأنا في بيتي.. ويطلبون مني أن أعترف وأكشف أمر الخليّة الإرهابية التي أنتمي إليها.! كيف أعترف بأمور لا أعرف عنها...؟!
ولم يكن الأمر كذلك أيضاً.!
في جزيرة موحشة، على الطرف القصيّ من عالم الأحياء، وفي معتقل يصلح لإيواء البهائم اقتيدا، "كاظم ومحروس" كلّ من مكان، وكل في وقت مختلف، وجمعتهما المصادفة، أو ترتيبات خفيّة في زنزانة واحدة.
ـ لقد سمحوا لي أن أتقدم بطلب كي أمثل أمام لجنة حقوق الإنسان، أو لجان الصليب الأحمر، أو لجنة تقصي الحقائق التي يتحدثون عنها، حتى ولو أي من وسائل الإعلام..
يبتسم محروس بسخرية:
ـ إنها شعائر ديموقراطية.!
يتابع كاظم وهو يلف كوفيته المنقّطة بالأحمر على رأسه:
ـ سأطلب التحقيق معي.. وسأحكي وأكشف حقيقة ما حدث..!
في بيت فقير مركون على شاطئ قريبٍ من نقطة التقاء نهرين عظيمين، ملحق بزريبة فيها عدد من الخراف، وحمار عجوز، هو كل ما ورثاه "كاظم وأخته حسنية"، فأقاما فيه يعملان بصمت ورضا في تربية وتسمين الأغنام، والانتفاع بحليبها وصوفها..
بيت ريفيّ بعيد عن زخرف المدن، كل ما فيه ينضح بالفقر، تزيّنه عزيمة "كاظم"، وتفانيه في الحرص عليه، وعلى أخته الصبيّة "حسنية"..
لم يكن الأمر يحتاج إلى تحقيق، فالحدث كان يدلل على نفسه دون البحث عن دلائل، ودون الخوض في تحقيقات قد تقود إلى الكشف عن حقائق أخرى.
ثلاثة جنود مدججين يقتحمون الزريبة وحسنية تنظفها، تجمع روث الخراف في ركن منها تهيئةً لبيعه سماداً للفلاحين.
كان الموقف مرعباً.. حسنية تنظر إليهم برهبة، لسانها ملتصق بحلقها، وجسدها يرتعش، وعيناها تنبضان دهشة لم يكن لها أي معنى..
تبادل الجنود الثلاثة نظرات سريعة، انقض بعدها اثنان يلقيان بحسنية على الأرض بينما يتخلى الثالث -الأعلى رتبة- عن أثقاله ليباشرها.
جرى كل شيء بسرعة غريبة، فقد أفلتت صرخة استغاثة مدويّة من حسنية، عجّلت بانقضاض الجندي عليها يطبق على فمها، تعضّه.. فيصرخ هو الآخر، ويسقط عليها لتتمكن في تلك اللحظة وهي تتلوى بين أيدي الجنديين من غرز أسنانها بقوّة في حنجرته، وتقضمها، إلى أن سقط ميتاً فوقها، عاجلتها رصاصات كثيرة أجهزت عليها.
كاظم يقتحم الزريبة، ينقضّ كشهاب يحمل بين يديه فأس التحطيب، ينهال عليهما تقطيعاً، ليساق مع الفأس إلى ذلك المعتقل "السياسي.!"
ذكروا في لائحة اتهامه: إرهابي..!
محروس الملتحي -بعد أن تباطأ عن حلاقة شعر ذقنه- يقيم مع أسرته الصغيرة في بيت إلى جانب ساقية تقترب من الانصباب في البحر.. كان مع أسرته وسكان القرية التي ينتمي إليها يقيمون الاستعدادات لاستقبال بعض ذويهم الأسرى بعد أن أعلنت السلطات الآسرة أنها ستفرج عنهم كبادرة "حسن نوايا" عندما داهمتهم دورية، وقامت باعتقاله بعد أن عثرت في غرفته على بندقية صيد ومصحف، وصورة معلّقة على الحائط لرجل يشبه عبد القادر الحسيني، يحمل بندقية وعلى صدره جنادان من الرصاص. وعثروا أيضاً على خطوط مكتوبة بالفحم على حائط الدار الخلفي "وأعدوا لهم ما استطعتم من قوّة.....".
ـ اعتقلوا من قريتنا عشرة شباب، قبل أن يفرجوا عن خمسة من المعتقلين السابقين.
كان ينزف بغزارة بين شاطئين لنهرين عظيمين ولا يعبأ به أحد.
ـ هو الحلم نفسه أليس كذلك.؟
يفتح محروس عينيه بفزع:
ـ لقد رأيت وجهه..!
ـ هل رأيت الدماء.؟
ـ كان ينزف بغزارة، لكنني رأيت وجهه..
يلتقط أنفاسه المتواترة:
ـ إنه وجهي.. وجهي.!
كان الصباح دافئاً عندما اقترب جون من باب الزنزانة:
ـ بعد أيام ستحضر لجنة "تقصي الحقائق" بناء على طلبك..
يضحك بسخرية رقيعة:
ـ ربما تستطيع أن تبرئ نفسك..!
بعد ساعات نقلوا "كاظم" إلى زنزانة منفردة، قريبة من زنزانة محروس.
في ذلك المساء، يسمع محروس جلبة خافتة غير عادية وراء باب زنزانته، يستكشف بالنظر من شقوق الكوّة الصغيرة في أعلى الباب المصفّح.. باب زنزانة كاظم مفتوح.. بعد لحظات يخرج "جون" والعرق يتصبب من وجهه، ورجع أنفاسه يصل متواتراً إلى مسامع محروس، يتناول بارتباك المقعد البلاستيكي الأحمر الوطيء، ويدخل إلى الزنزانة.. قليلاً، ويخرج منها رجل آخر ضخم الجثة ويخرج "جون" وراءه يحمل المقعد الأحمر، يركنه في المكان المعهود، ويغلق باب الزنزانة، بينما يجفف العرق المتفصد من جبينه..
كان الأمر غريباً.!
في الصباح الباكر، أعلنت سلطات المعتقل أن كاظم انتحر شنقاً بكوفيته المنقّطة بالأحمر..!
ولم يكن الأمر كذلك.!
يكاد محروس أن يطلق صرخة، لكن الدماء التي بدأت تنزف بغزارة غصّ بها حلقه، تسرب الدم النازف سريعاً إلى النهرين العظيمين، فصبغهما بالأحمر القاني..
كل شيء حوله أحمر..
كل شيء حوله ينزف..
ولا يزال يعيش في دائرة الحلم نفسه..!
ـ ـ ـ