سمات الحوار القصصي بقلم:حسن غريب أحمد

سمات الحوار القصصي

بقلم:حسن غريب أحمد

____________________________

سمات الحوار القصصي

حسن غريب أحمد*



العلاقات بين الناس هي تخاطب أو تحاور

يتصل المدخل المناسب إلى دراسة أسلوب الحوار في بناء القصة القصيرة بالمحادثة التي تجري في الحياة بين الناس، ويبدو من المهم أن تتلمس ملامح حركة الحوار في أداء دوره الوظيفي العام في تحقيق فعل فني بنائي، في ضوء علاقة تقابلية مع حالات المحادثات التي تقع في الحياة. إذ إن التعبير الذي يمارسه الناس كنشاط نطقي في العلاقات فيما بينهم، هو تخاطب أو تحاور، وهذا يعني أن التعبير ليس أحادي المنبت - التعبير ثنائي المنبت بمعنى أنه من (أ) إلى (ب) وفي الوقت نفسه من (ب) إلى (أ)، وكل متكلم هو أيضاً في الوقت نفسه مخاطب، فالكلام مخاطب وتوجه، إصغاء لنطق ونطق. إنه علاقة.

وتحتاج هذه العلاقة إلى رصد دقيق من أجل تفسير ظواهرها المرتبطة بالتصرف السلوكي، والانفعالات الوجدانية الخاصة بالإنسان؛ ففي أحاديث الناس تتجلى سماتهم، وطبائعهم، وأفكارهم، ويكتشفون أحياناً عن جزء من نواياهم. والناس حين يتحدثون فيما بينهم لا يضعون مخططا محدداً يضبط كلماتهم، وعباراتهم ومواضيعهم؛ فقد يدخلون موضوعهم الرئيسي في طيات موضوعات عدة يفتحون صفحاتهم وهم يرومون أمراً آخر، ومن هنا ينشأ وعي خاص لدى الكاتب في اختيار أسلوب الحوار الأدبي الذي يجريه على ألسنة شخصياته. إذ يتطلب من المبدع توجيه الحوار باتجاه التكثيف والاكتناز بغية نقل الحوار من مستوى المحادثة اليومية العادية التي تحدث بين الناس، إلى مستوى جديد يتوافر على انتقائية المفردة، والتركيب، والموضوع والإيحاء؛ انسجاماً مع روح الإيحائية التي تنبع من أي عمل فني، مهما كان واقعياً أو أميناً في تصوير مفردات الواقع، وينبه "تشارلس مورجان" إلى هذه النقطة فيشير إلى "إن الحوار تقطير لا تقرير" وأنه "وسيلة شكلية للنفاذ إلى جوهر الأشياء".

غير أن ذلك لا يعفي الكاتب من خطأ قد يقع فيه، وهو تجاهل المحادثة الحياتية اليومية بين الناس، ذلك أنها المادة الأساس التي تمكن الفنان من اختيار لمحاتها المضيئة في وسط العمل الفني، فالمحادثة في الحياة العادية مرتبطة بالحوار القائم بين الشخصيات المبتكرة في العمل القصصي، ولكنه ارتباط تفاعل، لا ارتباط ارتماء أو اتكاء، فذلك يقود إلى الترهل والملل، والقصة القصيرة هي الجنس الأدبي الأكثر حساسية إزاء هذه المسألة.

وثمة حقيقة عامة يتأسس عليها تحليل الحوار بأنواعه وأنماطه الوظيفية في القصة القصيرة، وهي أن الحوار جزء فني من كيان أدبي تتوافر فيه العناصر الأدبية المتكاملة التي تجعل من ذلك الكيان اللفظي أدباً وليس شيئاً آخر.

فالحوار في ضوء هذه الحقيقة تأسيس فني فيه يحتوي خاصيتي الانفصال والاتحاد معاً، في علاقته مع المحادثات الحياتية اليومية، فعلاقة "الاتحاد" هي علاقة اشتقاق وتناغم واستمداد من معين حياتي يعطى صورة عن حالة فكرية أو نفسية أو طبقية، تكون عليها الشخصية القصصية، وتتضح هذه العلاقة بصورة كبيرة في القصة الواقعية، وتكون عندها في غاية الأهمية لأنها تحقق التواصل مع الحياة في موضوع متناول، على الرغم من المحاذير القائمة، وأهمها التطويل والحشو والسأم والرتابة والسذاجة غير المبررة وأشياء أخرى، لا يمكن نقلها كما هي عليه في الحياة إلى حوار النص الأدبي إلا عبر توظيف إجرائي يقتضي ذلك، إذ لا ينجو المؤلف من إيقاع متلقيه في الملل، حتى إذا أراد عن قصد أن يرسم ملامح شخصيته مملة أصلاً في القصة، حيث يباح للمبدع جعل شخصيته القصصية مملة، ولكن المشكلة هنا أن القارئ سيجدها متعبة؛ لذلك يكون لزاماً على المبدع أن يجعل الحوار مسلياً وهو يسعى إلى إضفاء سمات الملل على السلوك الشخصي لبطله في القصة. وعليه ببساطة أن يعالج موضوع الملل دون أن يكون مملاً، وأن يتجنب إحداث أثر الملل في نفس المتلقي، وأن يقوده إلى الموضوع نفسه عن طريق الإيحاء المستمر لدلالة إشارته إلى الأشياء والأفعال.

أما علاقة "انفصال" الحوار عن المحادثة اليومية بين الناس في الحياة. فهي علاقة بنائية تصب في صياغة التكوين الفني ذاته. وعلى الرغم من "أنه ليس من السهل البرهنة على أن هذه الكلمات بعد أن تدرج في سياق العمل الأدبي تتوقف عن كونها كلمات، وتصبح ظاهرة فنية أخرى. حقاً أن بإمكان هذه الكلمات أن تبدو من وجهة نظر شكلية، نفس تلك الكلمات التي نصادفها في الحديث اليومي". بيد أنه لا يخفى على الدارس المتأمل للعمل الأدبي الفرق بين الحالتين، ويكون "بإمكانه أن يحدد بدقة أن أمامه قطعة من ظاهرة فنية وليس تسجيلاً لحوار حقيقي أو قصة من الحياة المعاشة".

وحين يرصد الدارس تداخلاً غير مبرر، وخلطاً بين فن القول، والحديث اليومي العادي في وعاء واحد، على غير انسجام أو سبب استدعائي من باطن النص، يحيل الأمر إلى ثغرة في العمل الأدبي ذاته. ذلك أن الحوار هو حديث فني للشخصية المبتكرة أصلاً داخل القصة. وأن هذا الحديث الفني كما يراه "أودييفسكي" ينتمي بكليته إلى عالم الفن، وأنه لا يجوز الحكم عليه المقاييس الحديث العادي في الحياة اليومية، ففي عمل فني حقيقي لا يكون الحوار وسيلة اتصال، بل شكل أو بكلمة أدق، أحد جوانب شكل هذا العمل المشارك في تكوين العالم الفني المحدد.

واتصالاً بما تقدم، هل يكفي أن تعبر الشخصيات في القصة القصيرة عن أفكارها عبر حوار موجز وموح؛ لأن الإيجاز والإيحاء عنصران مهمان يؤديان إلى مواءمة حديث الشخصيات مع تكوين القصة من حيث فضائها الزماني والمكاني والحدثي. غير أن ذلك الحوار يظل في حاجة إلى بناء خاص يظهر سمته الفنية وأدبيته المستقلة.

وكي لا تكون القصة ذات أحادي غير مبرر، وينطلق من صوتين أو ثلاثة أصوات تتحاور في حيز من الأفكار التي يتقاذفونها دفعة إثر أخرى، بعيداً عن المرونة أو الالتفاتة أو التوقف أو الاسترسال أو القطع أو الفكاهة أو الإخفاء أو التصريح، تلك الميزات التي تميز أحاديث الناس في الحياة، والتي تخضع إلى انتقائية خاصة منسجمة مع موضوع القصة وتركيب حبكتها، وشخصياتها، واتجاهها الفني عند صياغة حوار الشخصيات فيما بينها.

فلا يتطور الحوار بهذا الشكل التسلسلي المتعاقب، لأن الأحاديث بين الشخصيات في المحادثة الحياتية لا تسير وفق انتظام مرسوم بدقة، وترتيب مرقم. فكيف الحال إذن في حوار الشخصيات في العمل القصصي، وهو أمر خاضع لانتقاء وإيجاز واختيار فكري وابتكار فني يقدم لمحات من الحياة في إطار الإيحاء المؤثر المرتبط بقيمة جمالية، وفكرية معينة. فالحوار في القصة ينمو مع نمو الأفكار والمواقف، إن المبدع "يثير نقطة ثم يتركها، ثم يعود إليها ثانية ثم يتركها ثانية ناقصة، ولكن يعود إليها ثانية، وكل مرة يحفر فيها أعمق، وتتخذ النقاط في الحوار نسباً متباينة من الإضاءة في تقديم القصة، فثمة نقطة خافتة تتبعها نقطة مضيئة فنقطة خافتة، فنقطة أكثر إضاءة". وهكذا يتحول الحوار إلى سلسلة مشعة متوهجة من نقاط تراوح بين إضاءة وخفوت، فيتحقق تناغم في سياق الحوار يشبه التناغم الموسيقى. (والموسيقى مقارنة جيدة هذا إذ يمكن لموضوعه أن تقدم وتكرر ثم تختفي مدة من الوقت لتظهر ثانية في نقطة ذروة بقوة أكثر). ذلك أن النثر كما يعتقد "فلوبير" يمتلك القدرة على أن يكون موسيقياً ومتناغماً، شأن الشعر على الرغم من موضوعيته اللازمة. ويذهب "فلوبير" إلى أن جملة من النثر يجب أن تكون شأن سطر جديد من الشعر، مستحيلة التغيير، نغمية بكل ما في الشعر من موسيقى.

إنني إذ أجيء على مرتكزات أساسية في الجدل القائم بين الحوار الأدبي، والمحادثة الحياتية، فإنما أسعى إلى جعل ذلك تأسيساً أنطلق منه في تحديد أنماط الحوار ووظائفه، لاسيما على صعيد الحوار الخارجي، لأنه النوع الشائع والمتوافر على عناصر بينة في قيام ذلك الجدل. فالحوار في القصة القصيرة يلقى عناية مضاعفة من المبدع قياساً بعنايته بحوار الرواية على أهميته، ذلك لأن مجال الزلل والترهل والاضطراب لا يمكن إخفاؤه، أو التقليل من شأنه، لأن القصة القصيرة المتوافرة على حوار، تلجأ إليه لحاجة أساس في بنائها إلى التكوين المشهدي الذي يسعى إلى تسليط الضوء والأهمية على جزء زمني من حركة الشخصية، وفعلها الحدثي، فيكون الحوار في القصة القصيرة نافذة لمرونة يحتاجها البناء السردي، ولعلها رئة أخرى تتنفس القصة من خلالها هواء جديداً يضخ في أجزائها.

أما الحوار الداخلي في القصة القصيرة، فهو ذو تنوع وغني في أساليبه وأنماطه الوظائفية التي تحقق له غايته الفنية، ولا يمكن أن يتم تحليله إلا استرشاداً بمعطيات الذاكرة وقدرتها على الاسترجاع والكشف عن أحداث الزمن الماضي، وارتباطها بالمحفزات في الزمن الحاضر في سياق تطور الحدث والشخصيات، فضلاً عن العلاقة المهمة بين حوار الذات مع نفسها، والمخيلة بوصفها مولداً مستمراً لحالات وصور ورغبات، تقيم فعل التواصل مع النفس البشرية في موقف مسبب، وقد دعا هذا الأمر إلى تبين علائـق التشابك بين الذاكرة المسترجعة للصور، والمخيلة المؤسسة لها والمبتكرة لما ليس له وجود في وعي الإنسان.

وذلك كله ينشط في ضوء فلسفة اتجاه أدبي مهم، هو تيار الوعي الذي يقود القصة في سياق خطابها العام في ضوء المعطى الجوهري للوعي، وإمكانات التوليد الذهني، ولأن القصة القصيرة ذات ارتباط وثيق بالنزعة الذاتية، وبالحديث المفرد فإن الحوار الداخلي يرتبط غالباً بكلية حدث القصة، مؤديَّا إلى جعل هذا الأسلوب عنصر انتماء وانبثاق في داخل النص على نحو شمولي، في الوقت الذي يمكن أن نجد حواراً داخليَّا جزئياً يرتبط بحدث طارئ ليس له تأثير جوهري وعارم في سياق النص كله. فضلاً عن أن علاقة ممكنة وواضحة من الممكن تشخصيها بين الحوار الخارجي الظاهر، والحوار الداخلي المرتبط بالعالم الداخلي للشخصية، وهنا تبرز علاقة الداخل بالخارج جلية من خلال التعبير المشهدي في جزء زمني وحركي للشخصية داخل النص.



*عضو اتحاد كتاب مصر

رئيس مجلس إدارة نادي الأدب بالعريش

hassanghrib1364@yahoo.com



الهوامش:

(1) الكاتب وعالمه (ترجمة د. شكري محمد عياد) الألف كتاب، العدد 500 القاهرة 1964 م، ص 284.

(2) دايانا داوبنفاير (الرواية وصنعة كتابة الرواية) ترجمة سامي محمد، سلسلة الموسوعة الصغيرة، 99، بغداد، 1981، ص 61.

(3) مجلة المسرح القاهرة العدد (45) سبتمبر 1967 م ص (95).

(4) قمم في الأدب العالمي، تأليف الدكتور بديع حقي، منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق 1973.

(5) المغامرة الشعرية في القصة القصيرة الحديثة (د. محمد عثمان الملا) ص 15، 14، 13، 6، 5 - دار الكتاب العربي ـ بيروت.


نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

منتداه الجديد

http://alkatebhassan.ahlamontada.com/
وبالتوفيق