هناء سعيد : استبطان العامية والمونولوج د . رمضان الحضرى..
ازدهر أدب اللغة العامية ... فى الأونة الأخيرة.. مكتسبا ازدهاره من تقنيات الشعر العامى ... وكان العكس اوجب ...حيث لازالت المعاناة حقيقية....
فى شعر العامية على وجه التحديد ... وتعود الأسباب للشعراء أنفسهم ... فالمجيدون التزموا منهج بيرم التونسى ...وحداد وجاهين .. والبعض حاول تقليد الأبنودى ... والمجددون يحاولون التجديد فى الموضوعات ... ويهملون التقنية والتشكيل ... وأما البقية الباقية ... فهم أشبه بمتصوفة للشعر العامى .. يمدحون أنفسهم ولايسمعهم غيرهم ... ولاينصتون لاحد..
معاناة شعراء العامية أنهم لم يستفيدوا من تقنيات الدرس الادبى الحديث ....وهذا ماجعل شعر العامية لا يسمعه سوى شعراء العامية .... وذلك يعنى عدم ادراك الشاعر لماهية ما يكتب ... فما يكتب هو لحظة يومية ... يتناول الشاعر فيها لقطة من حياة الناس ... توصيفا ومشاركة وايقاعا وتصويرا .... مع العلم ان شعر العامية هو حياة عامة الشعب... وحياة علمائهم ... وحياة مثقفيهم ... وليس شعر العامية تصويرا لحياة الناس ... بقدر ماهو حياة الناس الحقيقية ... فى قصيدة شعرية عامية ....ولذا فان شعر العامية ضرورة للحياة ... ولايمكن اعتباره من الحاجات الثانوية للمجتمع...
وياتى تعامل الشاعرة الرائدة ... هناء سعيد مع شعر العامية من هذه القاعدة التنظيرية ... حيث انها ترى الكلمة شجرة... لاتظل صاحبها فقط .. بل تدعو غيره ليستظل بها ... انها كلمة للمشاركة... وقد جاء ديوانها الأخير ... مشاعر مجهدة ... ليؤصل لهذه الافكار ... فالحس عندها يبدأ من العنوان..فالمشاعر قد اختارتها الأديبة لتدل على التفاعل بينها وبين غيرها ... وكذا المجهدة ... فهناك قائم بالاجهاد ..والشاعرة من وقع عليها الاجهاد .... وهذا ما حدا بى أن أرى اهتمام الشاعرة بالكلمة على أساس ثنائية المفرد ... مما جعلها تخرج من الغنائية الفردية الى المونولوج الغنائى..الذى يصنع صراعا هو أقرب الاثواب لانشاء دراما خالصة ... تستفيد من امكانيات التنوع الكلامى اليومى ... فهى تكتب عن الهدهدة والترنيمة..والاشارة الحمراء ..وزحمة السير وغيرها... وحينما تتبحث عن قصيدة تتحدث الشاعرة فيها عن ذاتها ... سوف لا تجد قصيدة .. يمكن أن نسميها سيرة ذاتية ...فالذاتية عندها هى انفعالها مع غيرها ... فهى لم تصنع أسوارا أو سدودا أو حدودا .... تفصل بها بين ذاتها وموضوعها ...ولذلك يمكن البحث عنها منصهرة داخل قصيدتها ... وبعبارة أخرى .. هى تدخل فى موضوعها قبل الكتابة ... لترى ماذا يتطلب ويريد هذا الموضوع ... فهى لا تكتب قصيدة او كلمة لتثبت انها شاعرة ... بل تكتب الكلمة والقصيدة لتجعلهما وسيلة اتصالها الخاصة بينها وبين موضوعها اولا ... ثم بينها وبين المتلقى ثانيا...
فالهدهدة حدث من شخص ما ... الا ان الشاعرة تصر على جعله ذا أبعاد رباعية ...فبعدان من الذى يقوم بالهدهدة ... وأخران ممن وقعت عليه الهدهدة .... والبعدان فى الفعل يتساويان مع البعدين فى المساحة ... مما جعل القصيدة تحتوى على اكثر من ضمير بارز .. واكثر من ضمير مستتر..تقول الشاعرة : وبتطبطب على الأشواق .... وتنده لى ... وشوقك جاااااااى يزور سهلى ...... بصوت هاادى .... ح يتدفق لو انده له ....
أكثر من فاعل فى هذه القطعة الصغيرة جدا ... وأكثر من صوت ناطق .. أو أذن مستمعة ... واكثر من رد فعل مهتز ومنتظم ...فصورة الاشواق التى يهدهدها الحبيب ... يد تهدهد.. ولسان يناغى ... تلك روعة العامية حين تستثمر ... فقد فقدت كلمة الحب كثيرا من معانيها ... لسوء الاستخدام ... وهذا ما ننادى به ... ان الفعل دليل وبرهان ...فالحب باللفظ هو أبهت الانواع... ولذا قال الرسول .. : تهادوا تحابوا ... والطبطبة نوع من مد اليد بالعون ... والاخبار بالتضامن المتلازم والمتلاحم .. وجاء النداء للتنبيه ... ليتمكن الكلام من الأذن ... كما تمكن الجسد من الفعل ... ولذا فقد كان يكفيها أن تقول : هو يحبنى ... وعندئذ لن نصدق ... ربما الاطفال تصدق ... ولكنها استخدمت البراهين والدلائل .. وشرحت المقدمات ... وتركت المتلقى والمستقبل ليربط بين المقدمات والنتائج.... وهذا الربط بينهما يجعل الفكرة أكثر ثباتا وثبوتا فى عقل وشعور المنفعل بالقصيدة ...
حينما تتناول الشاعرة هناء سعيد موضوعها ... فانها لا تفرض الموضوع على نفسها ... ولا الموضوع يفرض نفسه عليها ... العلاقة بينها وبين موضوعاتها ... علاقة الحاح كل منهما على حياته .... فالشعر يأتيها محبا ... وهى فى انتظار هذا الحبيب... فالعلاقة بينهما شوق وانتظار .. ويمكن أن نلاحظ ذلك من خلال التركيز على مفردات بعينها ... الدفء _ اكتمال القصيدة _ الأشواق _ السير ... وغيرها ... كل هذه المفردات تتعلق بالشوق والانتظار...
ويمكننى أن أشرح كيف تستقبل الشاعرة قصيدتها أثناء وبعد الكتابة...
فالشاعرة متيمة بكلامها .. تقبله مرة وتمسك باذنه الاخرى ... ولكنها فى كل الحالات مستغرقة فيه ... ثملة منه... لا تتهرب منه .... حتى بعد أن ينفصل عنها.... تقول الشاعرة :
وفجأة .... لقيته بقولى ..... ولا يهمك ياعصفورى .... يا طااااااااااايرة فى براح قلبى ...مخبيكى... ما بين الضلع.... والتانى .. وبأغزل ودك الساحر ... حصان شاطر ... راهنت عليه ....
ان درجة الحس بالكلمة والخطاب الشعرى الذى تمتلكه هناء سعيد ... حينما تكتب العامية يجعلها شاعرة نادرة ... لأنها تملك التجربة التامة...وأدواتها وموهبتها تعملان بكافة الطاقة الابداعية ... وهى تملك أحدث التقنيات... باستخدامها مفردات تصل الى درجة المعاجم الطفولية ... وتقدم بها ثوبا شفيفا ... ومتينا فى ذات الوقت من الشعر العامى....وحينما تبدا القصيدة... فانما تبداها من قمة الجبل ... انها لحظة التشويق الى المجهول....لحظة الوخز بالأشواق....فالتعانق بينها وبين قصيدتها يمكنها من تفجير طاقات الكلمات ... ويمكن ان يصبح المقطع السابق أغنية ملحنة .... تضرم النيران فى كثير من الأغانى ... العلبة التى نسامع اليها صباح مساء .... دون مبنى ولا معنى...أغان مفصلة ولذا فهى منفصلة....وهذا سبب ادخال الرقص فى الغناء... والكليبات ليغطى سوء الصوت وسوء الحرف وسوء الكلمات فى الاغانى المطروحة.....وحينما تغنى كلمات هناء سعيد سيكون صداها طاردا لكثير من هذه الكلمات البومية ...فى الكليبات الهستيرية ...
حينما قرأت الديوان وجدته يستحق دراسة لا مقدمة ... أو برلوجا ... أدعو الله أن يوفقنى لأكتبها بعد طباعته...
تلكم شاعرة اراهن عليها ... تحتاج الى نشر أعمالها اعلاميا.... مشاهدة .... صوتا .... واخيرا ديوان شعر ...تقبلى تحيات والدك...د. رمضان الحضرى.