الليلة التي لم تجد متعة
2
الشمس تشرق باتجاه الأطفال، أخذتْ اتجاه طفلة تقلـّدت قلادة من حجر أبيض اللون، حين ابتسمتُ لها اقتربت وناولتني قرصاً من الخبز لـُفّ بخيط مربوط بقفل.
شعرتُ بحركة جوع في أمعائي، تفحَّصتُ الرغيف، استغربت.
- لماذا رُبطَ الخيط بالقفل يا صغيرتي؟ سألتها وأجابت:
- هذا كي لا تتحسس دفئه، كي لا يتسرب السم إلى جسدك كله.
- لكنه غير ساخن.
من باب المجاملة تحسست قرص الخبز وعلى فمها ابتسامة استهزاء:
- أعرف، لذلك سيصبح سـمّا.
- وأين مفتاح القفل؟
تأبطت طفولتها وتركتني محموما بالأسئلة، يبدو أنها رغبت تركي لكنها التفتت لي ثانية:
- ألا ترجع معي؟
رميتُ القفل في النهر، اتكأتُ على سياج الجسر متلذذا ًبأول قضمة، أحرق اللعاب فمي بحموضته ، لكني بلعتها وحدثتُ نفسي:
- جميلة مبادلة المعدة جوعها باللعاب وطعم الخبز.
تذكرتُ أصلي الطيني، أنا أول مرة أتمتع بإحساسِ إنسان.
بلعتُ اللقمة والتهمت الأخرى، تذكرتُ لعنتها لي، ليتها تدرك المسمار وتدرك معنى الجلوس على مسمار.
بللتُ أعماقي بقولها المريب مستغرباً لغزها. في اللحظة ذاتها ، شاهدتُ عن بعد امرأة تتلفت إلى الجهات كلها، تداري خجلها وبكاءها عن عثرات الطريق كمن يتلوى بسلاسل، مسكت الطفلة من يدها واحتضنتها خائفة، تحشرج صوتها باحثاً عن بياض لم تجده في عيون المارّة، عيون جحظ بياضها وجمد، داعبت شعر الطفلة زاجرة لها بدلال:
- ألم أقل لا تغيبي عن ناظري؟..كدت أفقدك.
يدٌ صغيرة بيد مكسوّة بالغبار، تعانقتا وواصلتا السير، رعشت الطفولة متراقصة اليدين.
باي.. باي.. باي.
أشرتُ إليها بحركتها نفسها وانشغلتُ بكلمتها "باي" حتى بدت الطفلة ظلا،وأنا في أحضان الظل أتساءل: هل ال(باي) لي أم للحياة؟
آلمني تمزق أحشائي، رغم محاولاتي بالتجلـّد، أفلت الصبر منّي، خنقت صوتي كي لا يصرخ وفي أعماقي أسئلة مشبوهة:
- هل راجعٌ وإلى أين؟
- هي قريبةّ وأنا منها بعيد؟
- هل أنا في الشارع وحدي أم هي معي؟
- أهذا لغز؟
- هل عثرت علي؟
هربت من أمها بحثا عني، إذاً نحن عائدون، وأنا استرجع التفاصيل، لا أعرف ستأخذني إلى أين، لكن سأكمل حكايتي.
- أهذه الحياة التي بحثت عنها زمناً وتمنيتها؟
- رغيف تتلكـّأ بسببه أحشائي ؟
- ألمٌ تغلغلَ في أمعائي بسبب طفلة ؟
- أهذه لعنة من يبحث عن لونه في قرصنة السواد؟
- هل قصدت توديعي الوداع الأخير بكلمة ( باي )؟
- لماذا هي بالذات؟ أين ذلك الملعون؟ هل خاف من أهله؟
- هل هي مخلوقة في ساعة مسمومة بفحولتها؟
ملامح مسطـّحة لوجوه صفر تركن الشارع، عيون جحظ بياضها لسواد قلوب أصحابها، صمٌّ بكمٌ، خبز مربوط إلى قفل بلا مفتاح، أشباح تمشي واهنة السير، مجرد أشباح ظننتُها حياة لي.
لم يخطر ببالي ارتياب الفم من طعم لعابه، من خبز مربوط إلى قفل، من وجوه فسدت ملامحها وتعفـّنت.
لم أر لساناً على شكل مـُدية، لم أسمع من قبل عن يد بشكل مسحاة، أو عن قدم مَطرقة،وضفيرة ثعبان، عن دهاء صامت، شوك أخرس، خُرس، عُمي والجسر واحد.
- لماذا لا يتهدم الجسر ويبحث عن عابرين قلوبهم سليمة؟
جُلّ طموحي، هو أن أرى وأسمع، إن تحقق أقول أنا إنسان، يرى بعينه، يسمع بقلبه ويفهم في روحه.
أنا متخم بدخان السجائر، دخان كثيف دمعت له عيناي، من أين هذه الكثافة، هل الدنيا مولعة بالتدخين؟ هل الجسر منفضتها؟هل أنا أشبه أحد العابرين؟ أنا من ثلجي تحركتُ وهم بحركتهم تجمدوا،هل من تفسير؟
مَرّ الوقت لئيماً وقرصاناً أيضا،ً بلهجة من امتطى راحلة صبر وقرصان،عاهدت نفسي أن أبتلع باقي القضمات وأصرخ ، أقلها أصرخ.
لينتعش الجسر،همهمتُ، استفحل الألم، خبأته، حاولت الهروب منه باستذكار وجه الطفلة، تطلعتُ صوب الجسر الذي ترنح هو الآخر مع المترنحين، سُمُّ السكر أثلجهم جميعا.
تذكرت الخبّازين وتراجعت عن تذكّري:
- ما الفائدة من خبز مربوط بقفل؟
شممتُ رائحة الصلصال الأول، تنفـّسته، أحسست بتكسر كائن في جسدي، ترنحتُ، رغم هيئتي الحجرية تحاملت على وجعي وقررت العودة لخشبتي، ربما صحا حارس المتحف وبحث عني كثيراً وخشية أن يـُتهم بالسرقة عليّ إنقاذه، مسكين لا يدري شيئاً عن منغولي دخل مع أسرته المتحف وسرق تمثالا من الفخار مربوطاً إلى خشبة بمسمار،أهداه لأول طفلة شاهدها في باب المتحف.
وأنا بيدها الصغيرة تفقدتُ تكويني، لم أجد عرقاً على جسدي، حمدتُ صانعي فهو لم ينحتني لأعيش بين هؤلاء الأغبياء، شعرت بشيء يشبه المعدن في باطن كفي، كان له شكل مفتاح، تحسستُه، لهوتُ، رميته أرضاً وتجمّدتُ ، بينما طفلة جميلة تلهو بتمثال مربوط إلى خشبة قديمة،شربتُ ندمي وتمنيتُ لو أني لم أفكِّر بتجربة الخريطة.
بهذه الأمنية نصّب نفسه زعيماً على نفسه.
- لكنه مجرد تمثال.
قلت له بدلال:
- دع قلبك يرتاح واترك لي أمل التلذذ بصورة جديدة تلهو بذاكرة طفلة علّها تسعفني ليلة الغد وتتركني أتحسس رقبتي، مَن يدري، ربما سيصبح هذا التمثال قدوة لكل التماثيل.
-------
تمت