بسم الله الرحمان الرحيم
أمة بين نارين
سأهجم بكلماتي! على تلك الفئة من المجتمع، المتفشية فيها ظاهرة البطن الضخم وبعدة أحجام، بينما تنظر إلى الفئة المعدومة الأخرى من المجتمع دون اكتراث. وهذا التكرش ليس بسبب مرض ما، وإنما بسبب تنوع القصاع والصحون.. إلي أن نلنا بتفوق لقب ألبسنا إياه كتاب الغرب في صحفهم ومقالاتهم وهو "أمة الكروش". وسأضرب بمشرط الكلمات لعلّ وعسى أحدهم يقف وقفة مع نفسه، ويراجع حساباته ويتخذ قرارا بحمل راية الحرب على الكرش والجوع اللعين معا..
فمن خرافات الصوفية، أنهم كانوا في ماكانوا يعتبرونه مديح للنبي صلى الله عليه وسلم، يختارون من بين الحاضرين في شطحاتهم وحضراتهم كبار البطون لتضرب بالسيوف والعصي، مع دق الدفوف.. اليوم أزيحت السيوف وأصبحت كفوف الغانيات هي التي تطبطب على بطون الذكور.. لسحب الوريقات النقدية عندما يغزون شارع الهرم أو شارع الحمراء لإحياء الأفراح والليالي الملاح.. متفرجون فيمن يتقن فنون هز البطون والخصور والأرداف بصعوبتها وتعقيداتها..
رأيتُ الـكـروشَ تُـشيـبُ الـرجـالا *** وتَـجعـلُ حُـسْـنَ الـنـساءِ سَـرابا
تَـراهمْ جمـيعا إذا ما مـشَـوا *** أنابـيبَ غـازٍ تَـدُكُّ التـرابا
وعنـدَ الـتَّـرَبُّـعِ في مَـجـلسٍ *** تَـرى لـلكـروشِ شُـؤوناً عِـجابا
تَـراها تَـدلـدَلُ بينَ الـفُـخـوذِ *** ونحـوَ البـِساطِ تَـرُومُ اقـتـرابا
وتَـزحفُ نـحـوَ الأعـالي بِـلؤمٍ *** فـتَـكـسو الصـدورَ وتُـخـفي الـرقابا
اليوم تجد كثيرا من الرجال كروشهم تدخل قبلهم إلى المنازل أو إلى أي فضاء آخر.. فكيف ذلك كله في أمة يقول رسولها صلى الله عليه وسلم: " نحن قوم لا نأكل حتى نجوع وإذا أكلنا فلا نشبع"؟
أحيانا يستحي الإنسان بأن يمشي مع هؤلاء، أو يرافقهم.
مجتمعنا العربي أصبح يعيش بين نارين: نار التخمة وما لها من عواقب على الصحة وعلى المال العام: ونار الجوع وماله من كوارث على أفراد المجتمع.. لقد انتفخت البطون وماتت العقول عند البعض، فالشيء الأكثر الذي تتحرك فيه برامج الفضائيات بمجتمعنا العربي على أحسن حال.. هو كيف تملأ بطونها.. لذا نشطت لدينا هذه الثقافة وأصبحت متعددة في مختلف وأصناف الأكلات وتباينها حسب بلدانها وتوابلها.. وطرق إعدادها. أصبحنا في سباق رهان لواقع رقي فقط محصور في ثقافة الأطعمة.. وليتهم قرنوها بثقافة صحتهم، حتى غدا تشوه الأجسام وتورم الكروش، وتنامي أرداف وضياع القروش في بنائها علامة، وتثاقل الخطوات وانسداد الشرايين عنوان حالة، وكثرة الجلطات والسكتات القلبية عادة.. وصرنا نتميز بشخير، وضيق التنفس في ليل نتقلب فيه على الوسادة.. وتزاد اندهاشا حين تسمع وترى بأن الكروش سموها في الخليج وجاهة..
النفط.. الصحراء.. الحروب.. الموائد التي لا تنتهي والزواج بأربع هي أكثر الأمور حضورا في الوجدان الغربي حول العرب..
لقد ولدت هاته المشكلة منذ بداية الثمانينات أو ما سماه أحد المثقفين "عصر الحلوى والكنافة".. ثم تفاقمت وكبرت حتى تحولت إلى سبة عند الغرب، وبذلك أصبحنا بين أمتين مدمرتين "الكروش والجوع".
أمة تأكل وتطحن ليل نهار.. امتلأت بطونها بخبزها ومرقها وعيشها وختمت يومها بنومها، حتى انتفخت الكروش وتكسرت الضروس، وأصبحت مظاهر أصحابها دعاة للسخرية ولفت الأنظار.. وأمة فقراء، في أحياء قصديرية وبين أزقة مرشوقة بالحفر.. وكأنهم زحفوا من بلاد وديعة مجهدة، لا شيء فيها سوى الريح الزاعقة، وكلمات متناثرة تذوب في الهواء لحديث المسؤولين الكاذب عن الإهتمام بـ"محدودي الدخل"..
إن نسبة انتشار السمنة في بلاد "الكبسة واللبن" قد وصلت إلى 35.6%، وهي تطال 44% من النساء، و 26.4% من الرجال، و 72.4% فوق سن 45 سنة من الجنسين! هم يأكلون الأرز ويشربون اللبن والمياه الغازية والسكريات يوميا، والعشاء عند منتصف الليل، ولا يبرحون أماكنهم أمام سمرة المكسرات والشاي وورق العنب..
قال لي صديقي الصعيدي بعد جولته الأخيرة في بعض البلاد العربية: ياأخي في تنقلاتي هذه في وطننا العربي رأيت المتناقضين، بل رأيت أمتنا بين نارين.. بعد حضوري حفل طهور ابن أحد أصدقائي، حيث بقينا ننتظر موائد العشاء حتى حضر الشيوخ أصحاب البطون الكبيرة، والذين أكلوا فيها ما شاءوا.. وقالوا ما شاءوا.. فهم أنفسهم من في خطبة الجمعة، يحدثك عن الإيثار والقناعة ويتحمس لكلامه فتراه يفعل الأعاجيب من صراخ وحركات غريبة يضيع معها خشوع المصلين..
وأنا راجع من ذلك الحفل أردت أن أعرف حال الناس فنزلت على الأقدام جهة سكني، ومرقت من بعض الشوارع التي كنت أعرفها، وخلّيت ظهري للبنايات الشاهقة، وسرت وأنا مفتح العينين.. لقد رأيت جهنم انتقلت إلى الأرض، تحرق أحلام التائهين فى الأحياء العشوائية، والأكواخ القصديرية التى تتقاطر عليها مياه المخلفات.. وأحزمة البيوت المتداعية المتآكلة الآيلة للفناء، راقدة فيها أجساد أنهكها اليأس.. تدوسها أقدام الخارجين من القصور التي تفوح من نوافذها رائحة الفساد المعتق.
ففى الأحياء العشوائية، التى مررت بها متمهلا، لأختبر ما سمعت وقرأت، وجدت الحقيقة أكثر مرارة من الخيال، وآمنت بأن من رأى ليس كمن سمع، وأن ساعة واحدة مع سكان أولاد مولاهم، وخير الله، وأبو رجيلة.. ستنبئك بما لم تحط به خبرا من قراءة دراسات علم الإجتماع، ونصوص الروايات، ومشاهدة الأفلام التي تصف حياة المهمشين والمعدمين، والتي لا تستطيع مهما احتشدت سطورها بالمعاني ومشاهدها بالتصورات أن ترسم ملامح ذاك العذاب المتوحش الذي يقتل في بطء ملايين الناس.. ممن ولدتهم أمهاتهم أحرارا.. وجعلهم الله شركاء في الماء والكلإ والنار، وقال الفقهاء الثقات: إن لهم على الحاكم حد الكفاية من غذاء وماء ودواء وكساء وإيواء وترويح.
فترى تليفزيونات وإذاعات تتحدث عن أنواع السيارات، وآخر "الموديلات".. وشيوخ بطونها أمامها تسكن "الفيلات"، تتحدث عن نعمة الفقر التي تمهد الطريق إلى جنة الخلد، وتطلب من المعدومين ألا يفعلوا سوى انتظار الموت، والنعيم الذي يأتي بعده.
لماذا لا يقول هؤلاء الشيوخ: إن ما استمتع غني إلا بما أخذ من فقير، وأن المهزلة التي تقع على أطراف المدينة المتوحشة ستحرق الجميع، وأن الجنة ليست في أيديهم هم، ولا على أطراف ألسنتهم، وأن الإنسان الذي كرمه خالق الكون على العالمين يجب أن يعيش في الدنيا حياة كريمة، تليق بكونه خليفة الله في أرضه..
إن دوركم يا شيوخ الفضائيات هو الإنتصار للناس، فالدين ثورة على الظلم والإستغلال والإستغفال، وخروج على عبادة أي شيء وأي شخص من دون الله تعالى.
لماذا أولائك الشيوخ لا يعلّمون أولائك السادرون في غيهم، المتغافلون عن واجبهم، الموجهون عيونهم إلى منتجعات شرم الشيخ أو العين الساخنة.. أن كل شيء فى بلادنا العربية بات قابلا للإشتعال. فجهنم التي تستعر في المسارب الخلفية، والأزقة العشوائية، لا يوجد ما يمنعها من أن تمد ألسنة اللهب إليهم.