ونَعَبَ الخبراء..
قصة – رضا السمين
1
في آخر النّهار بدأت الجثّة بالتعفن، اليد التي تملّكت ومنحت، داعبت وعاقبت، رفضت أو صفّقت، وقد تكون جريئة أو ذلولا... بدأت تتحلّل وتخرج منها قذارة فظيعة. العيون التي أومأت، رأت، سكتت أو حملقت... انطفأت وخرجت منها نتانة تصرّح بتعفنها المحتوم. الأنف والسّيقان والأمعاء والنّخاع الشوكي والدماغ، كذلك الكبد والقلب... كلّها تحلّلت وتقيّأها صمتُ الجيفة.
صرير مزعج تزوّج العتمة، عندما دخل حُسني، وزاد وجهه الشاحب في البلبلة التي أصابت أهل العمارة، إلاّ نزار الذي هاجمه التثاؤب.
- "انتقل إلى جوار ربّه" قالت مريم، وهي تمسح أنفها بمنديلها المعطّر. متنقلة بنظرها بين الجثة الهامدة والستائر المعلّقة بتناسق مع باقي أثاث الغرفة ولون السقف "البلومارين".
- "الإبادة التي تنتظرنا" ذكّر بلال بخشوع، ولم تسمعه إلاّ عائدة ونجاة الواقفتين بجنبه. تنظران إلى الجثمان وتزدادان قناعة بضرورة تخفيف وزنهما. ولعنتا، فيما يشبه الهمس، المجلاّت التي تعطي دائما وصفات لا تنفع.
- "نموت حين لا يعود جسدنا ملكا لنا" أكّدت نصيرة، وهي ترى إلى الدّود يهُمّ في قُوتِه بين الثقوب وعلى جغرافية التعفّن.
عندما وصل إلى الشقّة رقم سبعة وستّون كلّ الذين عندهم أشياء يملكونها، الذين عندهم عمل، والذين لم يكن عندهم؛ قال حُسني، كبير سكّان العمارة، الذي امتنع منذ سنواتٍ طوال عن الابتسامة وآثامها، ولبِس منذئذ قناع الوجه المقطّب: " حسنا فعلتم، لا خير في الصراخ ونشر الخبر, يجب أن لا نسأل عن السّبب ولا عن هويّة الجسد. ولا يجب أن نُعلِم الذين خارج العمارة. فإنّا إن فعلنا ذلك جلبنا على أنفسنا بذور العنف والدّمار وخاصّة قلق الحال".
2
انتحى الجميع بعد ساعة مكانا بعيدا، في الطّابق الأسفل، للاستشارة والكلام.
قال حُسني، ونعّم جميع الذين عندهم أشياء يملكونها والذين كان عندهم عمل:
- لنغيّب الجثّة ونحجب عفونتها عوضا عن إنكار الموت، وتدنيس سكونه. الميّت لا يثير الفوضى. صمتنا النّهائي هو الذي يجنّبنا السّؤال والقلق. نترحّم على الجثمان، ونخفيه في الصّمت النّهائي, فيَسلم ونَسلم. فلا هو ينبشه الطبيب الشرعي أو تكشف أسراره وربّما عِرضَه الصحافة، ولا نحن نتعرّض للمحقق والجاني على السّواء. فالمحقق والجاني يتربّصان بكلّ مستفسر أو محدّث بما لا يعنيه.
- يا جماعة، قالت نصيرة، إنّ كلام الأموات لا محالة يخرج. وهو يشبه ريحا هائجة وهائمة، تظلّ تبحث عن جاني لا يمكنها العثور عليه. وحين تدور حول الأرض ستّين مرّة... ولا تجده، تبحث عندها عن كلّ من شاهد الهزيمة وسكت. وحين تلقاه فإنّها ريح جافة وقاصمة تسبّب الهلاك الأكيد. وبعد أن تنتقم تتبلّل وتغشاها النّداوة فتحلّق وتغادرنا.
- كلامك يا نصيرة، قال حُسني والحاضرون، هو كلام الكراهية. فيه إرهاب وعدوانية يؤدّي بنا إلى العنف والحقد... اعتدلي مرّة على الأقلّ وكوني مع الجميع في السّتر.
- ... أعرف أنّ مخاوفكم العميقة مغروسة منذ زمان طويل في نفوسكم، وهي التي حوّلت أيّامكم إلى خرائب. ولكنّنا أمام جثّة، رغم صمتها المتعفّن تلحّ علينا أن نعرف القاتل... وأن نصرخ في وجه العالم والسّلطة والذين لا يسكنون العمارة. لا أريد أن نكون كالبوم يألف الجيفة والأماكن الخربة.
دقّ الباب، فقامت مريم لتفتح لابنها الذي عاد كما أمرته بمزيد من الكوكاكولا والبسكويت وكانت قد أعدّت الأطباق والحلويات التي تصنعها بنفسها، وساعدتها عائدة ونجاة.
مريم لا تتساهل مع أدب الضيافة.
توقّف الجميع عن النّقاش وكان المضغ وأنصاف الكلمات.
3
عائدة ونجاة لاحظتا أنّ الجميع استطاب حلويات مريم "نرجو أن يرطّب هذا الخير كلامنا ويخفف وزن الحديث فنحن جيران"، وكانتا تنقلان عيونهما بين حُسني ونصيرة والذين يملكون والذين لا عمل لهم. بلال كان يعدّ نرجيلته بعناية. مريم ابتسمت، وقامت لإعداد الشاي.
قال نزار، لماذا لا نتحدّث عمّا يعنيه الموت لكلّ واحد منّا، علّنا نجد مخرجا يرضي حُسني والذين يتّفقون معه ويرضي نصيرة والذين معها. قال ذلك وهو يستمتع بارتخاء أعضائه.
تنهّد حُسني وتنحنح ثمّ قال:
- حكمة الحياة ووصايا الكبار، ساعة الألم المُرّ لا تجد أحدا، ولا من مجيب لحاجتك. "أخطا رأسي واضرب".
وغاب حُسني في حكمة الزوايا. وغاب في صمته المعلّق نزار، مريم، عائدة ونجاة، الذين لهم أشياء يملكونها، والذين عندهم عمل.
بلال ونصيرة كانا قد غرقا معا في الدّخان المتصاعد.. وصوت النرجيلة. نصيرة تحلم بصباح حقيقي.
- أنا أيضا أهيم، زفر بلال، فاستفاق الجميع وكان قد أصابهم بعض الخِدرِ بعد أكل المرطّبات وشرب الشاي الأخضر بالنعناع.
وتابع بلال:
أهيم منذ تلك الليلة، كان ذلك في صيف 82. وكنت قد أنهيت دراستي وبدأت أشتغل وأستعدّ لتعويض أهلي عن مصاريفهم. وإذ صرت أسكن وحدي، إعدادَ بيتي وما يلزمه من حاجات. وصادف نهار تلك الليلة أن كان يوم سبت. ذهبت فيه أنا وبعض مخالطيّ إلى النادي الثقافي لمشاهدة فيلم هناك، وكان الشريط عن تمرّد الشباب في ستّينات القرن الماضي، كان الفيلم بالنسبة لي مرآتي المُكسّرة، رأيت نفسي فيها وهي لا تسكن جسدها.
رأيتُني قلِق النّفس منضبط الخُطوات. قناعاتي مرتبكة وحركة جسمي مستقيمة: المكتبة حيث أشتغل، البيت، مقهى المخالطين. مثلث متساوي الأضلاع لا يشكو تمرّدا أو انحرافا. والنّفسُ منّي في غياهب لا أسماء لها. كان الفيلم تناقضا مرعبا بين نفسي وحركتي معروضا أمامي بوقاحة فجّة.
لاحظ مخالطيّ، بعد خروجنا، وجومي الشاحب. وأرادوا أن يلعبوا دورهم في توفير المرح مهما كان الأمر، فاستغلّوا جهلي بمداخل ومخارج المدينة العتيقة، وقادوا خطواتي إلى متاهة البغاء العمومي، مجموعة من الأنهج الضيقة متداخلة كألسنة الأفاعي، تكشط عن روائح عفونة ودم وقيح وسيالانات تقيّأها الوحل وآثار القرون. وتضاعفت في تضاعيف جسدي "صدمة الحداثة" بصدمة المراحيض الجنسية. حاولتُ الفرار فوجدتني من قيء إلى قيء، من صفوف طويلة إلى صفوف طويلة من الشباب ينتظرون دورهم ليستفرغوا ويُستفرغون. ومن ترهّل ومسكنة إلى ترهّل وتعب. انتبه مخالطيّ إلى عنف تيهي وصخب القيء وغضبي المعلّق، فقادوني إلى خارج المكان، خارج المتاهة، وهُم يضحكون، أنت "عالِم اجتماع" قالوا ! وما نفع معي بعدها تنكيتهم ولا عبارات "هذا هو الواقع الحقيقي"، "المثقف يشمئزّ من الواقع"، وغيرها من بَلاهات لا تنفعني. عدت إلى بيتي والفراغ يسكن أشلائي. بقيَ الصّمت فيّ بلا حراك. وحده القيء والبياض، وكانا هما أوّل الموت.
- يبدو أنّ السّهرة ستطول، قالت مريم، سنحضّر أنا وعائدة ونجاة العَشاء، ارفعوا أصواتكم وسنترك باب المطبخ مفتوحا.. لا أريد أن أضيّع شيئا ممّا تقولون.
همهم الحاضرون بكلمات الشّكر والامتنان لمريم على كرمها ونباهتها ولعائدة ونجاة على لذّة طبخهما التي تضاعف الشّهية.
نزار ينظر كلّ ذلك بتثاقل، خاصّة والجوّ بدأ ينفرج ويزيد في خِدرِ السّهرة.
بتثاقل مدّدت نصيرة أطرافها وهمّت بالكلام حين لاحظت أنّ الجميع يتابع حركتها وكأنّهم ثملوا برؤية النمر يتمطّط. وأحسّت معهم هي أيضا بزيادة في الارتخاء وصفاء الجوّ فتكلّمت بما يشبه الهمس، والكلّ قد أحنى رأسه قليلا، حتى مريم، عائدة ونجاة.
وقالت:
- دعوتُ في أحد الأيّام صديقة للسّمر، وما كان عندي لها كلام ولا خلاصات. لم نكن نريد صحوة الأسئلة, وبقينا ساعة نتبادل الصّمت والحضور. وفي عزّ السّكينة سمعنا صراخا، شتما، أقداما وكلابا. قفزت لأطلّ من شقّ النّافذة، فرأيت أوّل ما رأيت الخوف يهرع في قلوب النّاس فأطفأوا الأنوار.
- هدّ الحاكم؟ سأل نزار بهمهمة خافتة.
- نعم، على جاري. الوحيد الذي كنتُ أراه بابتسامة حقيقية، كنّا نسمّيه في الحيّ "راوي الحقّ"، فحكاياته عن الحقّ في القرآن واللغة العربية لا تنتهي. كلّما لقي أحدا من السكّان يمشي في الشارع يروي له تفسيرا أو حكاية جديدة أو طرفة أو شعرا أو تاريخا عن "الحقّ"، كأنّ هذه الكلمة عندنا وكما يرويها هو لا تنتهي. وأحيانا كثيرة يحدّثنا أيضا عن هذه الكلمة عند شعوب أخرى بعضها نعرفها ومنها مَن لم نسمع بها من قبل. كان يُبشّر أنّ "التّوحيد" عمليّة قضاء على الشّرك في السّلوك العملي والخلُقي للأفراد وللجماعة، أي بناء مجتمعات بلا قهر ولا تسلّط ولا استغلال. "لا إله إلاّ الله" تُحرّر شعور الإنسان وواقعه من كلّ القيود والسّلاسل الاجتماعية والسياسيّة والمادّية.. تُحرّر الفرد من كلّ أسوار القهر. "التّوحيد شهادة... وسبيل المؤمن أن يصبح أسلوب حياة الواحد فينا وتفكيره هو أسلوب القرآن في الحياة والتّفكير.. وتصير نظرته إلى اﻷمور هي نظرة القرآن لها.. وأن يزن اﻷشياء، كلّ اﻷشياء، بالمقاييس التي اختارها القرآن وحدّدها.. وأن يكون هدفه الشخصي والجماعي هو الهدف الذي بيّنه القرآن وأقَرّه.. فيكون شعوره قائما ومتوهّجا بالقرآن وما صحّ من السُّنة في مواجهة كلّ المسائل. فلننتفض جميعُنا –أُسوة بالذين سبقونا من كلّ جيل وفي هذا العصر، ممّن أنعم الله عليهم– ضدّ تحويل التّفسير إلى إسرائيليّات، وضدّ محاكاة المغضوب عليهم.. انتفاضةُ أمّة العمل الصّالح واليقين العملي بالله الوَاحِد الصَّمَد القَادِر المُقْتَدِر وبالقرآن وبالرّسول محمّد صلوات الله وسلامه عليه وبالمؤمنين.. وتحقيق ما في شروط ومقتضيات الإيمان الحقّ { لمن شاء منكم أن يتقدّم أو يتأخّر} (المدثر 37). بدءا بالصّدق ضدّ الكذب، والأمانة ضدّ الخيانة، والبصيرة ضدّ الجهل، والعلم والذّكاء ضدّ التّهوّر أو البلادة، والتّبليغ ضدّ الكتمان". وكان يقول "الإسلام أمران، الأوّل معرفة الله تعالى ومعرفة رسله، والإقرار بما جاء من عند الله جُملةً، وتحريم دماء المسلمين وغصب أموالهم وانتهاك أعراضهم وحقوقهم أو ظلم الناس. والثاني هو ما تقوم عليه الحُجّة في الحلال والحرام. وهذان الأمران تجب معرفتهما على كل مُكلّف، وقد ربط القرآن الإيمان بالعمل الصالح في كل آياته. الإيمان شهادة الحقّ ضد السّكوت والكفر والإكراه، والعمل الصالح ضد الجهل والظلم. فعالم اليوم.. المليء بالظالمين والقتلة، سفّاكي الدماء المظلومة.. وناهبي خيرات الناس وأموال اليتامى ظلماً وبُهتاناً.. وفَعَلةُ التعذيب وانتهاك الحرمات والأعراض.. والاحتلال لكثير من ديار الإسلام.. عالم كهذا لا تنفع فيه "ذرّة" إيمان في القلب لخلاص الفرد بل الجهاد بالمال وبالنفس.. (والله هو العليم الحكيم)، ولا تكفي شهادة الميلاد أو "قول الشهادة" لتبرئة الذّمة وضمان الجنة.. فذلك تعطيل للشريعة والوحي.. وفسادٌ في الأرض.
هذا الطريق موحش لقلة سالكيه. أمّا الأكثرية فقد طال بها القعود والظلم (منذ مئات السنين) وانتشرت بينهم الإسرائيليات والأهواء.. وثقافة الخوف التي زُرعت في أرض الجهل والظلم، وتحريف الكلم عن مواضعه في معاني الغفران والشفاعة ودخول الجنّة بالوراثة.. وتعويض الجهاد بالدعاء على الأعداء!! إنّي أخاف أن لا تصل إلى الكعبة أيّها الأعرابي!! فإنّ الطريق الذي سلكته يُفضي بك إلى يهودستان..."
... جرّوه ليلتها وهو في لباس بيته، وكانوا يُنازعون الكلاب نهشهُ، وضاع الإنسان الحرام... شاهدتُه وهو يموت، سمعه يموت كلّ من أطفأوا أنوار بيوتهم. وعندما جاءني يقين وفاته بعد أيام، كنت أنا في الحداد عليه منذ تلك الليلة الخبيثة. وانغلقت عليّ الدائرة. ليلتها مات الجار الحقيقي لكلّ السكان. وحين افترسه كلابُ الإنس والحيوان في الظلام أمام البيوت المطفأة انفلت منهم وسكن فيّ. وظلّ السّؤال كالمطرقة تدقّ رأسي: لماذا أطفأ السكان الأنوار؟؟ ليلتها قُتِل جاري ومات فيّ شيء ما. وتكسّر الفجر دون رجعة عن صباح غير حقيقي.
سكبت نصيرة دمعة حارقة وهي تقول كلماتها الأخيرة، ثم شاركت حُسني، مريم ونزار، عائدة ونجاة، بلال، الذين لهم أشياء يملكونها، الذين كان عندهم عمل والذين لم يكن عندهم، شاركتهم في نومهم العميق، كُلٌّ قد غطّاه النوم في مكانه.
بعد يومين اكتشف الناس أنّ كلّ سكان العمارة قد ماتوا بالتسمّم، دون أن يشعروا، كما علّقت المذيعة. وسبب الموت أنه في الشقة 67 وجدت الشرطة جثة عربي قُتل بمادة كيماوية، وظلّت المادة الغازية والمكروبات تتسرّب...
وفي التلفزة أكّد خبراء الدّولة أنّ التسمّم الخبيث لم ولن يتسرّب إلى خارج العمارة.