الباحث عن هوية
كانت تلك الثواني تمر كالسنين ... وأنا أقطع المسافة بدءاً من ضابط الجوازات مروراً بقاعة الاستقبال ، وحتى سيارة الأجرة مروراً بالفندق .
كنت أقرأ همسات النساء من نظرات الاستغراب المتفحصة وهنّ يحدقنّ في هيئتي بتساؤلات تصعب عليّ الإجابة عنها في تلك اللحظة ... بل وحتى نظرات الرجال بدءاً من الابتسامة الساخرة لضابط الجواز مروراً بمن في قاعة الاستقبال.
وحتى المرأة البدينة جداً بدأت تغلق فمها الفاغر المتهرئ " على غير عادتها " بيدها الاسطوانية، استدارت محاولة إخفاء ضحكاتها عني ... كل ذلك جعلني أتخبط ... أغمض عيني متصوراً أن كل العيون ستغمض في تلك اللحظة ... دقات قلبي بدأت تعزف مسرعة محاولة إخراجه من بين الأضلاع عبر الغشاء الخارجي للجسم، وهو يضخ الدماء إلى وجهي كشلال هادر في ساعة هيجان شديدة ... يا للداهية ... أنفاسي تتقطع، وما أن وصلت إلى استعلامات الفندق حتى استقبلني موظف الاستعلامات بابتسامة لا تخلو من سخرية مُرحباً بي ببعض المفردات الترحيب باللغة الانكليزية وفي نفس الوقت تكلم مع نفسه بالعربية بلهجته الشامية " لك شو أنت زلمة ولة صبية "
شعرت بالحرج والعصبية في نفس الوقت فأجبته : لا داعي لأن تكلمني بالانكليزية فأنا عربي وأتقن العربية وأنا مقيم منذ سبع سنين في هولندا.
شعرت بحرج الموظف وبسرعة البرق أعطاني مفتاح الغرفة لينهي هذا الفصل من هذا الإرباك .
وما أن دخلت إلى غرفتي حتى اتجهت إلى المرآة ...
نيران أحرقت جسدي تصاعد لهيبها ليخرج على شكل قطرات تندى من جبينها ... حاولت أن أتمرد على واقعي، ضحكت بشدة أمام المرآة ... فيها شخصُ آخر بملامحي نفسها يرتدي ثياباً غير مألوفة، ما هذه الملابس؟! وما هذه التسريحة الغجرية ؟! ... أي وسواس ذلك الذي جعلني اخرج عن هيأتي كما يفعل البعض وهم يقلدون المتسكعين من أبناء الغرب ...؟! ثم ما الذي جعلني أتصاغر وأنا أحدق في أجساد الفتيات اللواتي أخذن يرتدين ملابس كملابس شاكيرا أو حتى إيماءاتها، لا بل حتى تنهدات مارلين مونرو ... ؟! أجابتني صورتي في المرآة : ألست من أختار هذه الحياة
- نعم أنا من أختار، أردت الحرية
- ونسيت التقاليد ونسيت أنك عربي الدم
- يكفي سأحطمك ... لا تعظني فأنت من أراد لي أن أكون بهذه الهيئة ... سأحطمك....
آه ...ما الذي جعلني أخرج عن هيأتي تلك لأدخل في هيئة أخرى بعيدة كل البعد عن عالمي، آه كيف كنت ذلك الشاب المملوء رجولة ونخوة وكيف أصبحت منزوع الرجولة، هل هذا ما كنت أبحث عنه، وأي متاهة هذه التي وضعت نفسي فيها.
سأحرق كل الملابس التي تدل على انتمائي لذلك العالم السفلي حيث لا تستطيع أن تميز بين هيئة الرجل والمرأة وملابس الرجل من المرأة، وفجأة وبدون وعي وجدت نفسي أمزق جواز السفر الهولندي الذي طالما حلمت في الحصول عليه، وأحلق شعري للآخر محاولاً استعادة انتمائي لأخرج مرة أخرى لموظف الاستعلامات لأجد الابتسامة الساخرة ما زالت لا تفارقه ....