تتضمن ٳنجازات الكاتب المبدع المثقف"جهاد غريب".. أعمالا نثرية و شعرية و فلسفية و فكريةمتعددة، منها على سبيل المثال لا الحصر:"أعناق الحروف...حروف منسكبة...ثلاثة أبعاد لغيمتين...عودة الهدهد...نداء الأجنة..أعواد الثقاب"..
كانت كلمة شعر تعرف معنى واحدا لا لبس فيه في العصر الكلاسيكي..ألا و هو الجنس الأدبي.. أي القصيدة التي تتميز بالنظم.. إلى أن بدأ في التغير منذ ظهورالرومانسية عن طريق الانتقال من مصافحة الموضوع إلى استنطاق الذات.. فأصبح الشعريعبر به عن العاطفة.. و من ثم أصبح الحديث عن الانفعال الشعري..
من هذا المنطلق يمكن تحديد ثلاث أنماط من الشعر:
القصيدة النثرية
القصيدة الصوتية
القصيدة الكاملة
و العمل الأدبي الذي أتشرف بوضع دراسة تحليلية متواضعة لأحشائه، هو عبارة عن قصيدة نثرية تحت عنوان:"سطور حائرة".
القصيدة:
كم تبللت الضلوع .. بأمطار الحزن
والدموع .. ما عادت تنفك عن الانسكاب
احتراق وانصهار .. وتفاني يتمرد على البقاء
فقط .. في دائرة الجنون
حتى العطش .. من الهجر .. ارتوى
واللوعة على جمر اللهفة .. تتقلب
والمشاعر في القلب .. تبخرت
وعطر العزلة .. يفسد الأجواء
انكفاء حد الإعاقة
ما عاد في الدنيا .. معنى واضح .. للأمل
وليس هناك وقت .. للمرح
وتبقى السعادة .. سطور حائرة
نسي القلم .. أن يخط لها .. عنوان
:
الأبجدية .. تلك المساحة المستديرة .. في الوجدان
هي شعلة ضوء .. تتنفس الليل .. قبل الأوكسجين
بالحروف فقط ..
ندق جرس الحيرة .. ونستمع إلى همسات الوهم .. مجبرين
ونشاهد نهاية حنين .. لم يبدأ بعد ..
وكأن البداية .. كانت مفطومة .. سلفاً
هو انكسار .. ومحاولة لدفع الأمواج .. إلى الشاطئ
وبعثرة .. توزع الهزيمة .. على سلم موسيقي مؤلم
:
اللهفة وحدها .. تكنس ملامح شاحبة .. لبقايا أنين
وأصابع نحيلة .. تضغط بعفوية .. على القلم
وتُقلب خًُصل الانتظار .. في رأس الزمن
:
ما أصعب مجارات الألم .. في حلبة
يلتفحولها .. جمهور العزلة
وما أصعب سكب الجراح .. في طبق
صُنع من الفخار الأحمر
وفؤاد .. رفيق الحس .. مرهف المشاعر..
أُخذ يحلم بقدوم فرحة ..
كتبت وصيتها الأولى .. على جدران سقطت من الأسفل
فكان حطامها الأخير
سيتقمص الشاعر "جهاد غريب" في هذا العمل شخصية بطل لتجربة بؤس داخلي رهيب.. نتيجة صراع النفس الحية في ظل بحثها الدؤوب عن السعادة..و التي على إثرها سيصاب العمل بعدوى الحزن..و سيتجرع المتلقي كؤوس الوجع حتى الثمالة..يظهرهذا مع أول قراءة لحروف القصيدة.. إلا أن تعذيب الأبجدية في هذا العمل سيفصح عن نفس تواقة للانفتاح على الأمل و الانزلاق نحو البسمة..
هكذا ينساق الشاعر عبر وصف دقيق لكل مظاهر اليأس و العزلة و الإحساس بالوحدة..فالاحتراق و العطش و التبخرأوراق لعب بها المبدع ليجسد قمة الحزن:
"احتراق وانصهار..
حتى العطش من الهجر ارتوى..
و المشاعر في القلب تبخرت".
هكذا تحار السعادة أمام الشاعر تائهة لا تدري طريقها.. فالحيرةعمامة تشاؤم لبسها الشاعر و حلف يمينا ألا ينزعها عن رأس همساته.. إلا أنه لا ينفك ينفث عنه غبار الحزن.. ليقف أمامه في أسلوب تقريري يحمل معنى الرغبة في استقراء الأمل و البهجة من جديد..و ذلك عندما يستحضر الأبجدية و كل مصطلحات الإبداع والكلمة و الحرف.. فهي المتنفس و الأوكسيجين الذي يخفف عنه وطأة الاختناق من عتمة الهم..
فٳذا كان توظيف الشاعر لثنائيات و متضادات داخل القصيدة جاء معبرا عن تناقضات تعيش بداخله..العطش /ارتوى.. فان الثنائية الحاضرة داخل هذا المقطع تشعل فتيل الحماسة و الانطلاق نحو البشاشة....ضوء/ليل..
و للأسف لا نلبث نستأنس بومضات الأمل حتى يرجع بنا الشاعر إلى وجعه.. و كيف أنه مضطر لسماع الوهم..فهو يجبرنا أن نسمع قصته مع الحنين كيف وئدت قبل أن تبدأ..و كيف تبخرت قبل أن يتمتع بها..وتبقى لعبة الثنائيات هي المفصح الرسمي الدائم الذي يتوسله الشاعر للإعلاء من حجم الصراع الداخلي الذي يسكن أعماقه..النهاية/بدأ
و البداية لا يعرفها الشاعر فقد فطمت قبل أوانها لأنه أرغم على استئصالها أو منعت عنه و صلب الخير الذي كان من المفروض أن يتمتع به.. و هو يستنكر هذا.. و لا يقف مستسلما عبر أداة الاستنكار"كأن" التي تروم نحو الاستنكار عوض التشبيه..
و رغم انكسار الشاعر فهو يجبر نفسه على المواصلة و المقاومة و الثبات و دفع عجلة الحياة إلى الأمام.. رغم أن آماله تشتت... فنشم عبق الهزيمة.. و موسيقى لحن حزين..
مرة ثانية يهيم الشاعرللاعتراف بصولجان القلم.. و أن فيه يجد السلوى و العزاء و الملاذ الوحيد.. و أن التلقائية مع هذا القلم تعفيه العناء الكثير..
هكذا ينطلق الشاعر نحو اتهام الفراغ و الوحدة و العزلة لأنها المسؤولة دوما عن جراحه..جراح تسكن فؤادا مرهف الإحساس.. اعتراه الحلم فركب غيمة تنبئ بقدوم الانفراج....لكن هيهات فالشاعر يعاوده الحنين إلى الشجن.. فينقض على الأمل و الفرح لإسكاتهما بعبارته:
"إن الفرحة تكتب وصيتها"
. ٳذ تتهيأ للنهاية عندما تجتث من الجذور لتغدو حطاما..و الحزن في هاته القصيدة يأخذ شكلا دائريا لأن الشاعر يفتتح القصيدة و يقفل ستارها على أحزان كانت وهم فرحة...
أما تجليات اللغة الشعرية.. فسطور حائرة تمتح ألفاظها من معين حقول دلالية تتراوح ما بين معجم الطبيعة:"الأمطار ..الليل"،و المعجم الفني: "جرس، موسيقى "و المعجم الوجداني المعانق للروح :"..دموع..الألم.. مرهف ..الجراح"..
أما البنية الصواتية لهذا العمل فإنها تتموج لتخدم الإنزياحات اللغوية التي تركب استعارات و رموزا متميزة.. تتفق لتدق نواقيس الحزن...عبر توظيف رنين النون و السكون الغارق في الآه..
و تبقى على رأس هاته التمفصلات هوية الشاعر/ القلم حاضرة بقوة لإعلان صريح عن أن شريحة الشعراء المرهفي الإحساس معرضون أكثر لهدر دماء المزيد من الدموع على جفون النصوص.. و أن رائحة الإنسانية و الآدمية تفوح من بين السطور الحائرة المتعبة ..من هنا نستجلي رسالة النص و رهانه القائم على فكرة فلسفية تناطح الحزن و البقاء.