الإستعمار اللغــوي ...
اللافتات و أسماء المحال في الشارع المصري تكاد تختفي منها اللغة العربية ..
و حيثما ذهبت بعينيك لا ترى إلا أسماء فرنسية أو إنجليزية أو إيطالية .. على اليمين و على اليسار غزو ثقافي مكتسِح ..
أوتيل كونتيننتال .. روستوران أورينتال .. بوتيك شارك .. بيتزا إيطاليانو .. عصير مادونا .. حلواني داليشس .. كافيه كابوتشينو .. آيس كريم تاون .. كويك فود .. كوافير رومانتيك .. عجلاتي كويك رن .. ميكانيكي ستاندرد .. سراير هاي لايف .. ترزي شيك .. أزياء مودرنا .. إلخ .. إلخ ..
و لا تجد هذا أبداً في المساجد .. و إنما تجد الأسماء العربية و العربية الفصحى .. مسجد الرحمة .. و مسجد الرحمن .. و مسجد التقوى .. و مسجد الرضوان .. و مسجد قِباء .. و مسجد محمود .. و مسجد التوبة .. و مسجد المغفرة .
الإسلام هو الذي حفظ هوية المنطقة .. و هو الذي لا زال يضبط النطق العربي .. و في هذه الفوضى من التفرنج و الإغتراب كان المسجد هو مؤشر الأصالة و الحافظ للطابع و الميراث العربي .
و ما زلت أعتقد أن الدين هو الذي حفظ المنطقة من الضياع و الإنسلاخ و التلون باللون الذي أراده المستعمرون .
و كان من نتيجة هذا العامل الديني الضابط للإيقاع .. أن حدث العكس و رأينا المستعمر هو الذي يتلون باللون العربي و يتشرب الذوق المصري ، و يتعلم اللهجة المصرية و النكتة المصرية و الأكلة المصرية .
و نذكر أن الإسكندر حينما غزا مصر لم يستطع أن ينقل إليها آلهة الأولمب اليونانية ، و إنما على العكس .. ألبسه كهنة سيوة ديانة آمون و خرج من معبد سيوة على اعتقاد أنه ابن الإله المصري الذي حبلت به أمه المقدونية .
و كلها أدلة على سلطان الدين و قوته في مصر .. و أن مصر تصبغ الذي يغزوها برغم ما يبدو في ظاهر الشارع المصري أنها هي التي تصطبغ بلونه .
و الحقيقة أن الغزو الثقافي برغم ضراوته لم يتجاوز القشرة الرقيقة الخارجية التي ما تلبث أن تتمزق أمام أي عارض و تظهر من تحتها الماهية و الهوية الدينية الأصيلة لهذا البلد العريق .
و الحضور الإسلامي يفرض نفسه هذه الأيام .
و نحن نرى الآن الهوية الإسلامية تملأ الساحة بكل درجات الطيف .. من الحضور الإسلامي الواعي و المستنير إلى التشدد و التطرف إلى الهوس إلى الإغراق في الشكليات و التصلب على الشعارات إلى الجنون و الفوبيا الدينية .
و الهوس و التدين الشكلي و النقاب و القفازات و العباءات السود هي في نظري غزو ثقافي آخر مُضاد و هو أجنبي عنا و عن إسلامنا بقدر غُربة و أجنبية العري الفرنسي و الثقافات الأمريكية المنحلة .
و هو سلاح مُسدَد لغزو الإسلام من داخله مثلما أن الثقافات الأمريكية المنحلة سلاح مسدد لهدم الإسلام من خارجه .. و الفرق أنه غزو للبيت من بابه .. غزو يستعمل نفس الأبجدية الإسلامية و يستخدم نفس الرموز الدينية .. و يَدخُل علينا من الشرق و ليس من الغرب .. و يقول بسم الله الرحمن الرحيم .. و لا إله إلا الله .. كما نقول .
و جماعة البِلالِيين في أمريكا ( نسبة إلى بلال ) الذين يركبون البغلة اقتداءً بالرسول عليه الصلاة و السلام و يأكلون بأصابعهم و يقضون الحاجة في الخلاء .. هم نموذج آخر من هذا الهراء الذي يسيء إلى الإسلام ، و يدعو إلى الفهم الخاطئ و المتخلف لمعنى السنّة المحمدية .. فالنبي عليه الصلاة و السلام لم يتميز عن أقرانه بركوب البغال ، فالكل كانوا يركبون الدواب و كانوا يقضون الحاجة في الخلاء و كانوا يأكلون بأصابعهم ..
و إنما تميَّز و انفرد بالصدق و الأمانة و الشجاعة و الشهامة و التقوى و مكارم الأخلاق .. و في هذا يكون الإقتداء ، و ليس في البِغال و في الأكل بالأصابع و في قضاء الحاجة في الخلاء .. و ليس في ذلك السخَف أي سُنّة و إنما هو غزو ثقافي مضاد يستخِف بالإسلام و يهزأ من السُنّة و يضحك على العقول .
و كل هذه التيارات المتناقضة تموج بها دوامة الشارع هذه و لا يدري بعض دعاة الإسلام أنهم دعاة ضد الإسلام من حيث لا يشعرون .
و يختلط الحابل بالنابِل و تختلط الأوراق على ضعفاء النفوس .
و لا ننسى الغزو الآخر الجهير القادم من الشمال في سينما الجنس و العُنف و مسرح الهزل و الفُحش و غناء الديسكو و موسيقى الزار و الهلوسات التشكيلية التي تدلق الألوان على اللوحات و تسميها جماليات سيريالية ، و تضع كومة من الزلط و تسميها نحتاً ، و تجمع زبالة من الحديد الصدئ و تسميها تمثالاً .
ثم الغزو الثقافي الآخر في الشِعر .. و المذاهب الجديدة في النَظْم بلا نظم .. و الإغراب لمجرد الإغراب .. و الأبيات التي بلا وزن و بلا نحو و بِلا إعراب .. و أنواع اللغة التي فقدت تواصل اللغة و وظائف اللغة .. و قصيدة ج و أمثالها .
ثم الغزو الآخر الفاجِر في رواية سَلمان رشدي " آيات شيطانية " الذي تصور فيها أنه أتى بإبداع جديد في عالَم الرواية و ما أتى إلا بأحقاده الشيطانية و ما عَبّر إلا عن مرضه النفسي .
و مصر بلد مفتوح النوافذ على ثلاث قارات .. أوروبا و آسيا و إفريقيا ..
و هي لا تستطيع أن تغلق أبوابها لأنها جسر عبور و ممر تجاري و ثقافي و حضاري و ملتقى زوابع .
و هي بلد غنية بسواحلها و آثارها و بترولها و معادنها و ناسها و تاريخها .
و هي مطمع الكل .
و فيما مضى كان يغزوها العَسكَر و تفتحها الجيوش .. أما الآن فالغزو إقتصادي و ثقافي و هو يدخل من باب الصحيفة و الكتاب و شاشة السينما و شاشة التليفزيون .. و يحكم من داخل صندوق النقد الدولي .. و يسيطر من خانة القروض و الفوائد .. و يتسلل من ثغرة التكدس السكاني و من الحاجة إلى القمح و الرغيف .
و الجيوش الآن جيوش خفيّة إسمها الموساد .. و الـ C.I.A و الماسونية .. و المخدرات .. و الإرهاب .. و القنابل .. و المتفجرات ..
و التآمر الآن يستعمل نوعاً جديداً من العِمالة الراقية .. هم وجهاء الناس و كبراؤهم و سادتهم و أغنياؤهم .. كما يستعمل نوعاً آخر من العمالة الدون يدربها على القتل و تفجير القنابل و تلغيم العربات .
و في هذه الأجواء العنكبوتية يعيش المواطن المصري .
و في هذا العصر المرعب يعيش العالَم المقبل على فواتح القرن الواحد و العشرين .
و المتابع للأخبار و القارئ للصحف يصاب بضغط الدم و الذبحة و الجلطة و الإكتئاب لكثرة ما يقرأه و يشاهده من الإنفجارات و الثورات و الإنقلابات و عجائب الجرائم و أحداث القسوة و العنف التي تشيب لها الرءوس ، و كأنما اختفى الضمير فجأة و تحول البشر إلى قطيع من الحيوانات .
و تتكلم دول كُبرى عن حقوق الإنسان و هي ذاتها تدوس على عُنُق هذا الإنسان بالحذاء .. و وسط هذا الجنون لا شيء يمسك على الإنسان عقله ، و يعيد بعض الهدوء إلى قلبه المرتاع الملتاع سوى بقية من دين و بصيص من إيمان عميق و إسلام صادق منقاد لقضاء الله و قدره ، واثق بحكمته المستترة الخافية من وراء كل شيء .
..
-- د. مصطفى محمود || تأملات في دنيا الله --