ــــــــــ الشاعر المظلوم محمد البزم ـــــــــــــــــ
تكرمت علي اليوم الثلاثاء 11 / 12 / 2018 صحيفة الوطن بنشر مقالي عن الشاعر الكبير محمد البزم الذي توفي عام 1955 ، والذي بلغ شعره من المتانة والعظمة أن لقبه بعض النقاد ( شاعر جاهلي يعيش في القرن العشرين ) .
وهذا هو المقال مع الرابط لمن يهمه الأمر .
ــــــــــــــــــــــــــ
ــــــــــــــــــ محمد البزم شاعر الشام المظلوم ــــــــــــــــــ
عظيمٌ في شعره وعظيمٌ في شخصه ؛ عظيمٌ في شعره لأنه شاعر متين السبك رائقُ المعاني بهي الصور عميق المشاعر . . . وعظيم في شخصه لأن طموحه الفردي فاق كل تصور وسبق كل خيال . . . فأن نرى شاعراً فحلاً فهذا أمر معتاد وأن نرى أستاذاً للعربية فريداً ونابغا فهذا أمر متوفر في كل زمان . . . أما حين نعرف أن هذا الشاعر الكبير وهذا الأستاذ القدير قد كان منذ خمس سنوات خلت وهو في العشرين من العمر أمياَّ لا يعرف إلا قراءة بعض آيات من القرآن الكريم لماماً . . . وأن نعرف أنه قد صنع بنفسه لنفسه ما لا تتمكن أحيانا أسمى الجامعات من تحقيقه مع بعض الطلاب فهذا أمر أعظم من العظمة ذاتها .
إنه الشاعر الكبير محمد البزم ، ( 1887 ـــ 1955 ) . . . ذاك الرجل الأمي الذي آل عليه ألا يدع تلك الموهبة الشعرية الفذة الكامنة في صدره تذهب هباءً ؛ ولم يأته الشعر هينا سهلا مفروشا على البساط . . . ولم يهن عليه أن يتجاهل ذلك الميل العميق الهائل إلى اللغة العربية وأسرارها . . . فما إن وصل إلى العشرين من العمر حتى انكب على المكتبة الظاهرية ينهل من فرائد كتبها وبتهافت على دواوين شعرائها . . . وما زال يقرأ ويقرأ حتى تفجرت قريحته شعرا ونثرا في ينبوع غزير يضاهي أعظم منابع اللغة العربية الثرة ؛ ووجد نفسه يجالس فقهاء العربية وينافس أعرق أساتذتها ، بل لقد غدا أستاذا متميزا جدا في علوم النحو والصرف ، وانساقت للسانه تقطيرات البلاغة وخضعت لبيانه تقطيعات العروض ، وراح يضاهي أولائك القدماء الذين تتبعوا هذا العلم وأنشؤوا فيه مدارس في القرون الخالية حتى كاد أن ينشئ مدرسة خاصة به .
هو أحد الشعراء الأربعة الذين يُلقَّبون بـ ( شاعر الشام ) شفيق جيري وخير الدين الخليل الزركلي وخليل مردم بك ومحمد البزم . . . لكنه يتميز عن هؤلاء جميعاً بمتانة السبك وجزالة اللفظ وبراعة انتقاء المعاني العميقة من معجم لغوي معبر جدا . . . حتى أطلق عليه بعض النقاد لقب ( شاعر جاهلي يعيش في القرن العشرين ) . . ومن الأمثلة الواضحة على ذلك اللقب قصيدة له يناجي فيها دمشق كتبها في مائة وستين بيتاً ، منها هذه الأبيات :
رفعتْ على حرمِ الخلودِ بنودا
ومضتْ تحلِّق في الإباءِ صُعودا
بنت العصورِ الحاليات نحورُها
بالزَّهر تسطعُ ما عرفنَ جمودا
ريحانةُ الدنيا وظلُّ نعيمها
من قبلِ مولدِ يعربٍ وثمودا
اعتلى الشاعر محمد البزم منابر التعليم لمدة خمس وعشرين سنة ، كان جلُّها في مدرسة التجهيز ، وقد غدت التجهيز بفضله وبفضل باقي العلماء والذين كان يتحاور معهم من أمثال عبد القادر المبارك وسليم الجندي وعز الدين التنوخي غدت كأنها كلية للآداب ، ومازال إلى اليوم بعض من طلبته يترنمون بأساليبه البديعة في التدريس العظيم والفن الموصل المبدع ؛ ويروون بعضا من كلماته العريقة التي تشهد على عشقه الشديد للغة العربية . . . قال مرة لأحد الطلاب المشاغبين الذي كان يدبَّ بقدمه على الأرض فيصدر صوتاً مزعجاً :
أنت يا جارَ النافذة ، أما لعقلك من سلطان على قدميك .
ومن أمثلته البهية في أسلوب التدريس أنه كان يصنع تعاريف للقواعد النحوية تقرَّب الفكرة من النفس وتسهِّل حفظها فقد كان يعرَّف ( الحال ) بأنه : صفةٌ خالفتِ الموصوف فعوقبت بالنصب .
لقد كلِف محمد البزم باللغة العربية كلفا شديدا جدا جعلها تدخل في صميم حياته ، فكان لا يتحدث إلا بها في كل مكان وحتى في بيته مما جعل أعداءه ممن لم يعوا مقصده يسمونه بـ ( المتفاصح ) ، لكن المقربين منه كانوا يفهمونه تماما .
ومما يُذكر أنه دخل مرة المطعم مع نفر من أصدقائه ولما قدِم النادل وسأل البزم عن مراده أجابه :
ائتني بقصعة من الحمص ، وإياكَ إياكَ أن تذَرَ عليه شيئاً من التوابل والأفاوية ، وجنِّبني ما استطعت الحامضَ والزيت .
نظر النادل إلى أصدقاء الشاعر فوجدهم جادين لم يبتسموا فعرف أنه أمام رجل غريب عن عصره ومجتمعه .
كان محمد البزم عاشقا لوطنه أيما عشق فدخلت القومية العربية في صلب حياته ؛ لذلك فقد حفل ديوانه بالأشعار الوطنية الصادقة ، ومن ذلك يقول :
أشرقُ وانتبه واربأ بنفسك وانتهج
طريقاً به تلغي الأماني دوانيا
أشرق انتبه ، وانبذ خمولاً عشقته
وصِح في دعاة الجهل أن لا تلاقيا
أشرقُ انتبه ، لا ترتد العجز لاهياً
فليس ينالُ السؤالَ من كان لاهيا
ينالُ العلى من كان بالعلم هائماً
وللجهل نباذاً ، وللضيمِ آبيا
ألَّف البزم عدة كتب فضلاً عن ديواني شعر ، منها : ( مقدمة في صنعة الشعر ونقده ) ، ( كتاب اللحن ) ، وقد تتبع فيه اللحن في كلام العرب ودرس أسبابه وأنواعه ، كتاب ( النحو الواقع ) ؛ وهو قواعد للغة العربية ، كتاب ( الجحيم ) وفيه يؤكد سهولة العربية في فنونها عامة ويقيم الحجة الدامغة على أن اشتقاقات اللغة العربية الغزيرة تهبها المقدرة الدائمة على التكيف ومجاراة كل العصور العلمية المتطورة ، كتاب ( الجواب المسكت ) وهو مجموعة كبيرة لكل جواب مسكت قالته العرب . . . كتاب ( من وحي المرأة ) .
وحين جاوز البزم الستين تعب جسمه وتزايدت أمراضه وأحيل إلى التقاعد ، وضاق صدره بالعيش ، فتكرم عليه أحد طلابه الضباط وهو الطبيب الشاعر عزة الطباع فجعل له إقامة بالمشفى العسكري الذي بقي فيه ثلاث سنوات ؛ ثم وفي المشفى كُفَّ بصره ، وأصيب بالشلل ، وما زال يفقد صحته رويدا رويدا إلى أن فقد الحياة ، فأسلم الروح بارئها يوم الاثنين في 12 / 9 / 1955 .
وبعد : أليس حريَّاً بنا اليوم أن نكتب سيرة البزم ونقرأها لنتعرف إلى رجل بلغ العشرين وهو أمي ثم انطلق فوصل إلى مصاف الأساتذة العظماء والشعراء العباقرة .
ألا يستحق محمد البزم أن تقام ندوات حول شعره ونتاجه من الأدباء والنقاد .
ألا يستحق أن يُعدّ عنه فيلم تلفزيوني وثائقي ، لا سيما وأن بعض من عاصروه لا يزالون على قيد الحياة .
لكنه لم يجر له أي تكريم حتى اليوم .
رحم الله أساتذتنا القدماء الذين صنعونا وكان لهم علينا الفضل الكبير .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أنس تللو