جثة حب ..!!
جثّةُ زوجي مسجاة أمام ناظريّ .. لا تفارق سبحات خيالي .. وأنا منهارةٌ تماماً .. تارةً أبكي بصمتٍ خجولٍ يلفّهُ الشعور الطاغي بالذَّنب .. وتغلّفه رائحة الجريمة .. وتارةً تردّد صدى صرخاتي الجدران التي أضرب رأسي بها كلما تذكرت ..
أنظر إلى جسده النائم بصمتِ الصحراء الموحشة .. فأرى ملامحه كأنها حيّةً تتحرك .. تتماوج بتماوج الدموع الهابطة جمراً على وجنتيّ .. لم يحبب أحدٌ أحداً كما أحببتُ زوجي .. وأحبَّني .. أتذكّرُ أول قُبلة .. أول لقاء .. أول وآخر جسدٍ ألتحفه .. فيأخذني العبق إلى عالم لا أدري كنهه ..
- نعم لقد قتلتُهُ أيها الضابط .. وليتني قتلتُ نفسي بدلاً منه .. كم أحبه .. ولأني أحبه .. قتلتهُ .. كنا نشتاق بعضنا حتى حين نكون معاً .. حول طاولة هامسة بالياسمين في أحد المطاعم .. أو على سرير الزوجيّة في غرفة نومنا .. حتى أتاني ذلك الهاتف المشئوم .. الذي غيّر مسار الحواس .. فانحرفت بوصلة العشق إلى القلق والشك .. قال لي المتصل على الطرف الآخر بصوته الرجولي الخشن :
- لا أريدك يا أختي أن تكوني مغفلةً ..!!
رددت بشيء من الدهشة سائلةً :
- ومن أنت يا أخي ؟
- أنا مجرد فاعل خير ..!!
- وماذا تريد ؟؟
- أود أن أبوح لكِ بسرٍّ طالما وخز ضميري .. إنَّ زوجَك يا أختي .. متزوج من امرأة أخرى ..!!
لم أدرِ حينها لماذا تحولتُ إلى مجنونة عصبية كأنها أفاقت للتو من تأثير إبرة المخدر .. وصرختُ به :
- إخرس يا فاعل الشر .. إن ظفر زوجي أفضل من عشرين رجلاً من أمثالك .. ثم من أين تعرف زوجي أو تعرفني .. ومن أين أتيت برقم الهاتف خاصتنا ؟؟ إننا غريبان هنا في هذه المدينة الغريبة .. وليس لنا معارف فيها .. وهذا دليل افترائك ..
- أنا يا سيدتي من بلدتكما .. وأعرفكما جيداً .. وأنا أعمل في هذه المدينة كزوجك .. صحيح أنني لست صديقاً له .. لكن هنا نحن أبناء بلدة واحدة .. وإننا أكثر من ثلاثين رجلاً من نفس البلدة تجمعنا الغربة عن بلدتنا .. فواجبي أن أنبّهك .. فقلتُ ساخرةً منه :
- وكيف عرفتَ أنه متزوج يا فاعل الخير ؟؟!!
- إنه يذهب إليها كل يوم جمعة بعد أن يصلي العصر مباشرةً .. ويبقى هناك أكثر من ساعة ونصف .. أثار فضولي حين صدفته أكثر من مرة ذاهباً إلى هناك .. بعد خروجنا من صلاة العصر .. فتستقبله هاشّةً باشّة .. بابتسامة الفرح والرضا .. وإلى جانبها ولداها الذَيْن تحريت عنهما جيداً .. أحدهما طالب جامعي .. شاب صغير فوق شفته العليا شارب خفيف .. والآخر طفل لم يبلغ السادسة من عمره .. يتلقياه بالفرح .. ويبدأ بملاعبة وتقبيل الطفل الذي يبدي سعادته العظيمة بمجيئه فيتناول من يده الحلوى والألعاب التي يكون أحضرها له .. ثم يدخل الجميع البيت .. وإن كنتِ لا تصدقيني – وهذا من حقك – فما عليكِ إلا أن تراقبيه فقط يوم الجمعة بعد صلاة العصر .. !!
دارت بي الدنيا .. ولم أطق كلام الرجل الغريب .. فأغلقت الهاتف دون أن أسمح له بالتمادي بكلامه السخيف .. فزوجي متدين وعلى جانب من الخلق الكريم .. ثم .. ومع دوران عجَلة الزمن بدأتُ أرى زوجي في صورة امرأة أخرى .. ولا أدري لماذا بدأتُ أنتظر يوم الجمعة وتحديداً موعد صلاة العصر .. لكن المفاجأة التي بدأتُ بسببها لا أنام من الليل إلا دقائق .. هي أنه فعلاً .. يغيب عن البيت في هذا الوقت من يوم الجمعة .. ثم يعود مبتهجاً مستبشراً .. حينها أخذتْ أفاعي الغيرة والشك تتسلل إلى وجداني ومشاعري الملتهبة .. فأنا غيورة إلى درجة الجنون الفعلي .. صحيح أنني عاقر .. لا أُنجب له أطفالاً .. لكنّه كان دوماً يقول لي حين أسأله فيما إذا كان ينوي الزواج بواحدة تنجب له طفلاً :
- يا مريم .. أنت كل شيء بالنسبة لي في هذه الدنيا .. وحين أنوي الزواج لن أُخفي عليكِ ذلك .. فأنا أتعامل معك دائماً بصراحتي المتناهية التي تعرفين .. وببساطتي التي لا تجهلين .. لا أدري لماذا تذكّرتُ الآن تلك الجملة ((وحين انوي الزواج لن أُخفي عليكِ ذلك يا مريم )) .. لكن لم أكن أعرف كيف أفتح معه الموضوع .. وأنا اعرفه مجنوناً حين يغضب وخصوصاً إذا كان في الأمر اتهام .. لكنها حياتنا .. ومستقبلنا .. قلت له مرةً بعد عودته (من عندها) :
- ألاحظ يا ماجد أنك تغيب يوم الجمعة بعد صلاة العصر .. أكثر من ساعة ونصف عني .. بينما في الأيام الباقية فأنت نادراً ما تكون بدوني ..
قال مبتسماً :
- ولم تسأليني ؟؟
- مجرد سؤال يا حبيبي ..
- لا تسألي هذا السؤال مرة أخرى حياتي ..
أحسستُ أنني أجلس على فوهة بركانٍ غيرةً وغضباً .. وشعرت أن قافلةً من القشعريرة تنساب داخل حواسي المختلطة .. ومرارةً ممزوجةً بوحل المشاعر الإنسانية تغتال صوتي .. قلت في نفسي لنفسي : (( إذن حقاً أنه يخفي عني أمراً )) .. ولا يريدني أن أسأل .. امتعضَتْ روحي .. وهرب من كياني النور .. وقررتُ مراقبته بنفسي .. ويا لهول المفاجأة .. أهذا هو زوجي الفاضل الذي لا يخفي عني ؟؟ .. أهذه هو الرجل الذي أباهي به كل رجال الأرض شهامةً ووفاءً ؟؟ نعم لقد رأيته بأم عيني .. أمام بيتها .. تبتسم له .. كما قال فاعل الخير .. تهش له .. يصافح الشاب الصغير ويلاعب الطفل الأصغر .. كما أبلغني الرجل الغريب .. ثم .. يا ويلي .. يدخلون البيت فرحين .. آه يا ربي .. لماذا ؟؟ لماذا ؟؟ كدت أبكي في الشارع أمام المارّة .. لكن شيء من حياء منعني ..
لم يعد لي أحاسيس مرهفة .. أكلتني الغيرة والكراهية .. كرهت زوجي أكثر مما كرهت المرأة (الزوجة الثانية) .. بتُّ أمقته أكثر مما أمقت (ضرّتي) .. فهو المسئول الأول والأخير عن هذا الحال الذي آلت إليه حياتنا .. سهرت الليالي أمارس في وجداني موتاً بطيئاً .. وأساءل ذاتي (أهذا هو زوجي الطيب) ؟؟ الخلوق ؟؟ المتديّن ؟؟ .. يبدو أن كل الرجال سواء .. كلهم مخادعون .. منهم من يلبس ثياب التقوى التي تخفي تحتها أجساداً تعج بالخيانة .. ومنهم من يتظاهر بالاستقامة بينما حين تضعه على المحك .. تكتشف أنه إنسانٌ غير الذي تراه في الشارع .. حين أوصلتني ظنوني لهذه القناعة .. قررت أمراً .. يعيد لي كرامتي المهدورة على أعتاب الخدعة الكبرى التي تدعى قدسية الزواج ..!!
استيقظت وكأنّ شيئاً لم يكن .. كان يوم عطلته .. يوم الجمعة التالي .. كم بتُّ أكره يوم الجمعة .. وصنعت فنجانين من القهوة .. أيقظته بدلالٍ ومكرٍ نسائيين .. وناولته فنجانه .. لم يكن يعلم أن هذا هو آخر فنجان من القهوة يحتسيه في حياته .. فقد وضعتُ له كمية جيدة من السم في فنجان قهوته .. شرب الرشفة بعد الأخرى .. وكان يحادثني بكل بساطته المعهودة .. ودماثة خلقه التي أعرفها جيداً .. ثم صمت مبتسماً قبل أن يستأنف قائلاً :
ـ مريم .. أنا لاحظت أنك تضايقتِ يوم الجمعة الفائت .. حين سألتِني عن سر تغيّبي عن البيت بعد صلاة العصر.. ولم أُرِد أن أجيبك .. مريم أنا أحبك أكثر من أي شيء في هذه الدنيا ..
بدأت نار الغيرة تأكلني من جديد رغم محافظتي على ما يشبه الابتسامة المرة .. قلت في نفسي : (لقد فكر "زوجي الحبيب" في خدعة جديدة) .. وها هو يريد أن يبرر غيابه .. قلت له باسمةً (بخبث امرأةٍ جريحة) :
- نعم حبيبي أنا متأكدة أنك تحبني .. وأنا أحبك أكثر والله .. قال :
- اسمعي إذن .. سأبوح لك بسرّ تغيبي ولكن على أن يبقى الأمر سرّاً بيننا .. قلت لنفسي لاهثةً من الغيظ (ويريدني أن أتستر على خدعته الكبرى أيضاً) لكن لا بأس .. سوف لن يكمل يومه هذا على كل حال .. قلت له بسرور :
- وهل تشك أنني حافظة أسرارك حبيبي ؟؟ قال :
- إني أذهب كل يوم جمعة إلى امرأة هنا في هذه المدينة .. لها ولدان .. أحدهما شاب .. والآخر طفل .. هما كل حياتها .. هي أرملة .. مات عنها زوجها ولم يترك لهم أي شيء من حطام الدنيا .. كادوا يتسوّلون اللقمة إن لم يكونوا تسوّلوها فعلاً .. وأنا كما تعلمين .. من فضل الله علينا .. أن جعلني ذا مال وفير .. فقررتُ ..
وهنا بدأ صوته يختنق شيئاً فشيئاً .. وأخذت آلام السموم التي سقيته إياها تتسلل إلى معدته .. قلت بدهشةً وحيرة قاتلة وتشوقٍ كبير :
- نعم أكمل ..
قال بتوجّعً واضح على ملامحه التي بدأت تبهت :
- قررتُ أن أكون لهم عوناً على الزمان ودورة الأيام .. فأنا أعطيهم المال وأرعاهم .. أعطيهم كل ما يطلبون وما لا يطلبون .. لعل الله يعوضني .. حرمان الولد بالأجر .. العظيم .. والثواب الكبير .. وكنت ... لا أريد ... أن ... وبدأ صوته يتقطع .. والألم يشتد أكثر وأكثر .. ثم استأنف : لا أريد أن ... يعلم أح ....دٌ بأمر ... هذه الصدقة .. وغابت روحه في زحمة الغيرة والألم ..