كيف نفهم آيات القتال في عصر الحلول السياسية؟؟

أحمد أبورتيمة



تحدثت في مقالة سابقة بعنوان المحتوىالموضوعي للقرآن عن ضرورة البحث في الآيات القرآنية عن محتواها الموضوعي الذييتجاوز خصوص سبب نزولها وظرفيتها الزمانية والمكانية حتى نكتشف ما في القرآن منعمق نفسي واجتماعي وحضاري يؤهله ليكون كتاب هداية مطلقة في كل زمان ومكان..

في هذه المقالة أضرب مثالاً لإبرازالمحتوى الموضوعي للقرآن وهو الآيات التي تتحدث عن القتال..

هناك عشرات الآيات في القرآن تتحدثعن القتال أو تأمر به، ولكننا اليوم في عالم ينحسر فيه خيار القوةالعسكرية ويحل بديلاً عنها القوة المعرفية والاقتصادية والسياسية حتى أننا نسمعأصواتاً في الدول المتقدمة تطالب بتفكيك جيوشها أو تقليص ميزانياتها لما يسببهبقاؤها من تكاليف اقتصادية باهظة دون عائد كبير، فسويسرا مثلاً قلصت ثلث جيشها، وهناك دعوات للاستغناء عنه بشكلكامل، مما يعني على الأقل أن دور الجيش صار هامشياً وأن سويسرا لا تعتمد على القوةالعسكرية، ومع ذلك حققت مصارفها شهرةً عالميةً حتى صارت مستقطباً لأموال كل منيرغب في حماية مدخراته ممن يعيشون في بلدان لا تتمتع باستقرار حكومي ولا يملكأماناً مصرفياً.

مثال آخر من اليابان التي لا تمتلك سوى قواتدفاعية، وقد هزمتها أمريكا هزيمةً عسكريةً نكراء في الحرب العالمية الثانية ومعذلك تعد إحدى أهم الدول المتقدمة في العالم وتغزو أمريكا ذاتها اقتصادياً.

في المقابل تنفق دول عربية عشراتالمليارات على شراء الأسلحة وتكديسها دون أن تحقق لها هذه الترسانة الضخمة تقدماًأو احتراماً بين العالمين.

وإذا كان التطور البشري وصل إلى درجةينظر فيها إلى القوة العسكرية بأنها خيار ثانوي، وأن مركز ثقل تقدم الأمم هو فينهضتها الاقتصادية والمعرفية، فربما يتوصل البشر في المستقبل إلى الإلغاء الكليلخيار الحرب فتضع الحرب أوزارها ويتحول الاعتماد الكامل إلى وسائل المواجهة السياسية والاقتصادية كما يحدثالآن بين الدول المتقدمة التي استبعدت خيار الحرب في العلاقات بينها، فلم نعدنتخيل أن تنشب حرب بين فرنسا وبريطانيا، أو بين أمريكا واليابان، وإنما منافسةاقتصادية وسياسية ومعرفية..

في واقع ينحسر فيه خيار القوةالعسكرية ويتحول إلى دور هامشي يصبح تبني خيار العنف أو الدعوة إلى القتال دعوةًنشازاً معزولةً عن السياق الحضاري..

ما هو الموقع الذي ستظل تحتله آياتالقتال في ظل هذا الواقع الجديد؟؟..

هل ستتعطل فاعليتها وتصبح تراثيةًتتناول شأناً تاريخياً منسوخاً، أم أن هذه الآيات ستكبلنا عن اللحاق بركب التقدمالبشري فنبادر إلى اختراع معارك عسكرية بأنفسنا حتى لا نعطل آيات القتال وبذلكنظهر أمام البشر بأننا نحن دعاة العنف وأعداء التقدم البشري مسوغين ذلك بما يفرضهعلينا قرآننا أي نقدم عذراً أقبح من ذنب فنسيء لقرآننا حين نصوره معادياًللتقدم البشري ومتأخراً عن مسار الحضارة..

هل نبادر مثلاً بتسيير الجيوش لفتح أسبانيا وفرنسا حتى ننشر ديننا، مع أن العالم لم يعد يستوعب هذه الطريقة لنشرالأفكار على خلاف الروح التي كانت سائدةً في زمن البعثة والقرون الأولى؟؟

هنا تأتي أهمية البحث عن المحتوىالموضوعي لآيات القرآن، ذلك المحتوى الذي لا يتأثر باختلاف الزمان والمكان والظروف..

لفهم هذا المحتوى الموضوعي لا بد أننطرح سؤالاً: ما هي العلة التي شرع القتال لأجلها في القرآن.

هل العلة هي أن فيه سفكاً للدماءوقتلاً للآخرين؟؟

لا يمكن أن يكون هذا مقصداً قرآنياًوالقرآن ذاته يمتن على المؤمنين بوقف إراقة الدماء ليس دماءهم وحسب بل حتى يمتن عليهم بوقف إراقة دماء أعدائهم"وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم"...

يتعلق معنى القتال في القرآن فيما يظهر بجانبين: جانب يخص المقاتِل، والجانب الآخر يخص بالمقاتَل.

الجانب المتعلق بالمقاتل –الفاعل- هوأن يتحقق في هذا الفرد أو الجماعة الحالة القصوى من الاستعداد النفسي لبذل الجهدوللمخاطرة في سبيل الله. القتال في معناه العميق هو أن تكون مستعداً للموت في سبيلإحقاق الحق، أما الجانب الذي يتعلق بالمقاتل –المفعول- فهو تحقيق الردع وكسر شوكته..

استحضار هذا المعنى الذي يحققهالقتال ضمانة بألا نخلط بين الغاية والوسيلة، فالقتال ليس مقصوداً لأجل القتل وسفكالدماء ومن المحال أن يكون هذا هدفاً شرعياً، إنما شرع القتال من أجل كسر شوكةالظالمين، وأمر المؤمنون به من أجل اختبار صدق إيمانهم وإلى أي مدى هم مستعدونللمخاطرة بحياتهم في سبيل الحق الذي يؤمنون به..

في سورة محمد وهي التي تسمى أيضاًسورة القتال يقول الله تعالى "فإذا أنزلت سورة وذكر فيها القتال رأيت الذينفي قلوبهم مرض تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت"..

إن ذكر القتال يجلب الرعب للذين فيقلوبهم مرض، وهنا تبرز علة القتال وحقيقته فالذي يرعب هؤلاء المنافقين بالتأكيد لنيكون حرصهم على حياة الآخرين، بل إن مصدر رعبهم هو خشيتهم على أنفسهم لأن هذهالآيات تضعهم في اختبار قاس فتفضح كذبهم في ادعاء الإيمان لأنهم يؤثرون السلامةالفردية على التضحية في سبيل الحق..

يبرز هذه العلة من القتال في آيات أخرى منها قوله تعالى على لسان الجبناء المترددين "ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إلى أجل مسمى"، وقوله: "قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتبعليهم القتل إلى مضاجعهم وليبتلي الله ما في صدوركم وليمحص ما في قلوبكم واللهعليم بذات الصدور"..فالقتال يهدف إلى ابتلاء ما في الصدور واختبار الصدق..

إذاً حين يقول لنا القرآن"قاتلوا" فإن هذا الأمر لا يقتضي أن نمسك سيوفنا أو مدافعنا وننطلقللقتال العشوائي دون اعتبار للواقع والمآلات، بل إن علة هذا الأمرهو أن يتحقق فينا الاستعداد النفسي الكامل للتضحية في سبيل الحق والاشتباك معأعدائه بكل قوة لتحقيق الإثخان فيهم وكسر شوكتهم غير مبالين بالخطر، والحالة النموذجية لهذاالاشتباك تتمثل في المعنى الحرفي للقتال حين تدعو الظروف الاضطرارية لذلك، لكن دونهذه الحالة القصوى درجات قد تتمثل بالمواجهة السياسية والإعلامية والحضارية، وهذهالحالات وإن لم يكن فيها الشكل التقليدي للقتال إلا أن فيها حقيقته ومعناه وعلته،وهو استنتاج ليس متكلفاً فالمعنى اللغوي لكلمة القتال يحتمل صرفها إلى معنى مجازي،فنحن نستعمل في لغتنا تعبير "إنني أقاتل في سبيل ما أؤمن به" دون أنيعني ذلك أن تمسك سلاحاً بالضرورة، بل إن المعنى الذي يفهمه الناس من هذا التعبيرهو أنك مستعد للذهاب إلى آخر مدى في الدفاع عما تؤمن به .

إذاً لا تناقض بين وجود آيات القتالوبين مواكبة التطور البشري، فالأمر بالقتال في القرآن لا يعني إقحامه في أي زمان ومكان، بل يعني تحقيق غاية نفسيةواجتماعية وحضارية، والقتال بمعناه الحرفي لا يكون إلا حين تلجئنا الظروفالاضطرارية إليه ونحن كارهون "كتب عليكم القتال وهو كره لكم".

أما حين يتواضع البشر في زمان ما على وسائل أخرىأكثر سلميةً لإدارة العلاقات بينهم كما يحدث في زماننا هذا بشكل نسبي فإننا أولالمرحبين بهذه الوسائل الجديدة، بل ينبغي أن نكون نحن المبادرين للدعوة إليهامتأثرين بالروح السلامية التي يبثها القرآن فينا "وما أرسلناك إلارحمةً للعالمين"، هذه الروح الزاهدة في القتال عبر عنها عمر بن الخطاب رضيالله عنه حين قال معبراً عن ضيقه من الاضطرار للفتوحات العسكرية " وددتأن بيننا وبين فارس جبلا من نار ، لا يصلون إلينا منه ، ولا نصل إليهم".

القبول بصيغ جديدة لإدارة العلاقات البشرية لنتعني تعطيلاً لآيات القتال، فمحتواها الموضوعي يظل قائماًَ متجاوزاً لتبدل الظروفوهو بذل الحالة القصوى من الاستعداد النفسي التي يكون المرء فيها مستعداً للموت فيسبيل الحق، أما غاية كسر شوكة الظالمين فيمكن أن تتحقق اليوم بالقوة السياسيةوالإعلامية والتفوق الاقتصادي، دون الاضطرار إلى خيار لم يعد العالم ينظر إليهنظرة بطولة وإعجاب كما كان الحال في أزمان عابرة، بل صارت الدعوة إليه فيهذه الأيام نشازاً..

والله أعلم