قِرَى الضَّيْفِ
... وحذار أن تفصح لهم عما أفضت فيه الساعة نزيفا جموحا، وأفضيت به إلي بعد شديد عناء قلبا مجروحا، فيختارون لك من جراب مكائدهم سما ناقعا وفحيحا، ومن أعتق دسائسهم يصطفون لك لؤما قاتم السواد ومقتا معتما عندهم ممدوحا، ثم ينتقون لك من محكم مصائدهم خسة نكراء دفينة وشماتة منكرة خفية ومكرا مفضوحا، وغدرا كامنا له على الوجوه سمة تنطق قبيحا، ومن أوثق حبائلهم يخصونك بسطو خفي لا يحتاج شرحا ولا تشريحا، وبطش غادر مباغت للجبال مزيحا...
إسترق السمع أحدهم متجسسا مشيحا، فغدا بالذي قصد إلى سمعه فصيحا، ولم يعد ما دار بينهما من حديث سرا مكتوما ولا قولا كسيحا، إذ أصبح مجال عدوه بعدما كان ضيقا فسيحا، وأضحى فحواه سيلا مسفوحا، وفي ناديهم سقط مكنونه بينهم طريحا...
أجمعوا أمرهم بعدما اغتابوه وانهالوا على سيرته تجريحا، وتجاذبوا أطراف التآمر عليه تصريحا وتلميحا، وبيتوا الكيد له متوقدا قذيحا، وتخيله كل واحد منهم في الغد من الوريد إلى الوريد مذبوحا، بعدما صار هدر دمه معلوما لديهم لا يستحق حقنا ولا مديحا، وسفكه ليس في حاجة إلى إذن مهموس أو أمر يصدر بصوت جهوري وضوحا، وحتى صدره لا بد أن يحرم الأوسمة والتوشيحا، وأن الخلاص منه سريعا قد أيقنوه حلا مريحا، وأن الذي حكموا به ضده باسم أهوائهم هو الصواب وعين العقل وهاجا صريحا، وأن ما قرروه في شأنه هو منتهى العدل وغاية الإنصاف ترجيحا، وكفى بهم مصدرا ومرجعا إذ سنوه قانونا مُبيحا...
ثم إنهم سخروا منه إذ قالوا: قد أجزلنا له العطاء ومنحناه كنزا مليحا، وبما جدنا عليه مكناه من جني فخر مستفيض عز نظيره وتاريخا مرجوحا، وفوق هذا وذاك كنا السبب في ما قطف من رثاء يانع ندر مثيله صبوحا، وما حصد من مديح فُقد شبيهه في يوم الناس هذا يقفو مديحا، ويكفيه شرفا أننا عجلنا له كرمنا مرسلا ريحا، ولم نبخل عليه بجودنا إذ سرحنا له غيثنا تسريحا، وهيهات أن نجد بيننا من بهذا العطاء الغزير يضن شحيحا، فنحن قوم نعتز بأيادينا البيضاء التي لم نمنها يوما عليه وعلى أمثاله، وكان نصحنا له لسانا نصوحا، ولنا في أفضالنا عليه سلوة وعزاء وترويحا...
... ثم إن الضيف لم يمهلهم حتى الصباح ليصير بينهم مقتولا وجسدا بلا روح مطروحا، بل اجتاحهم في عتمة الليل فردا فردا كالسيل الجارف مقتلعا مطيحا، واجتث أركان غدرهم فغدت هباء منثورا وأثرا كريها بعد عين منكرة مشبوحا، وداهمهم من عل بمنقاره الحاد وبأظافره النافذة كالطير الجارح سبيحا، فهوى بناء كيدهم سرابا مكسور الجناح جريحا، ثم جعل لكل واحد منهم أثرا بليغا في ذهنه يلازمه كظله نزيحا، ويذيقه طعم الجور علقما مقبوحا، ويذكره بظلمه لنفسه قبل الآخرين إشارة وتلويحا، وبأيام عاشها في الدنيا معافى غير معتل صحيحا ...
د. عبد الفتاح أفكوح - أبو شامة المغربي
aghanime@hotmail.com