لا أعرف عدد المرات التي قلت فيها أن الكتابة في"النت"مثل الكتابة على الماء .. أجد "كُليمة ما"متكررة .. ثم أبحث عنها .. فأجدها قد تبخرت! .. ومن هذا الباب كُليمتي" : ( الفيلسوف طرزان) ..
(( رأيت أنا جونج - دزة مرة في منامي أني فراشة ترفرف بجناحيها في هذا المكان وذاك،وأني فراشة حقا من جميع الوجوه. ولم أكن أدرك شيئا أكثر من تتبعي لخيالاتي التي تشعرني بأني فراشة. أما الإنسانية فلم أكن أدركها قط.ثم استيقظت على حين غفلة وهاأنذا منطرح على الأرض رجلا كما كنت،ولست أعرف الآن هل كنت في ذلك الوقت رجلا يحلم بأنه فراشة،أو أنني فراشة تحلم أنها رجل)) {جونج - دزة فيلسوف صيني ولد سنة 370 ق.م}
الفيلسوف طرزان
لا تقع الفلسفة ضمن دائرة اهتماماتي،لذلك حين قرأت الضجة التي أثيرت حول حوارات الدكتور عبد العزيز قاسم مع الأستاذ إبراهيم البليهي،حين رأيت تلك الضجة بحثت عن (المكاشفات) فلم أعثر عليها،ثم نسيت الموضوع.
نسيت الموضوع،ثم وصلتني رسالة بها مقالة عبارة عن سؤال موجه للأستاذ إبراهيم البليهي،يقول : هل أنت شعوبي؟! فعاد إلى ذهني حديث – أو اللمع التي قرأتها هنا وهنا – الأستاذ البليهي عن علاقة العرب بالفلسفة،وأن العقل العربي ليس عقلا فلسفيا!!!!! وعن تمجيد الغرب للفلاسفة العرب،يقول أن ذلك من باب المجاملة!!!! وهذه (نظرية) جديدة!! إذ كنا نظن أن (المجاملة) خصيصة عربية!!!!!!! كما أن (المجاملة) قد تأتي في نص صغير على استحياء،ولا يمكن أن تكون نصوصا كثيرة. يقول الدكتور محمد حمادة :
(على أن هناك نفرا منهم {من مؤلفي الغرب - محمود} درسوا هذه الحضارة دراسة وافية وأبدوا إعجابهم بها فيقول توماس أرنولد. كانت العلوم الإسلامية وهي في أوج عظمتها تضيء كما يضيء القمر فتبدد غياهب الظلام الذي كان يلف أوربا في القرون الوسطى. ويقول جورج سارتون في كتابه مقدمة في تاريخ العلم : إن الجانب الأكبر من مهام الفكر الإنساني اضطلع به المسلمون،فالفارابي أعظم الفلاسفة .. والمسعودي أعظم الجغرافيين،والطبري أعظم المؤرخين.){ ص 31 (رحلة الكتاب العربي إلى ديار الغرب فكرا ومادة)،للدكتور محمد ماهر حمادة،والكتاب من منشورات مؤسسة الرسالة،في طبعته الأولى الصادرة 1412هـ / 1992م}.
وصلتني أيضا سلسلة مقالات كتبها الدكتور يوسف الصمعان،ردا على مكاشفات الأستاذ البليهي،ومما لفت نظري فيها،قول الدكتور الصمعان :
(والواقع أن البليهي لم يستوعب الدرس الأساسي لفلسفات التأويل المعاصرة التي أجمعت على أن لا عقل إلا من خلال نص سابق مفكر فيه ,وان كل ثقافة مهما بلغت في العمق الفلسفي والرصانة العقلانية إنما تنطلق من قواعد للتعقل ومعايير للحقيقة ليست في ذاتها عقلانية .فلكل نظام معرفي ضوابط معيارية للفصل بين المعقول واللامعقول والحقيقة والخطأ.وليس ثمة علاقة مباشرة بين عقل ثابت مطلق ووجود يتم تعقله , فما بين الواقع والعقل حاجز النص الذي ينتج الدلالة والمعنى.){عندما يتفلسف العم توم : البليهي نموذجا}.
إذا كانت فلسفات التأويل المعاصرة أجمعت على عدم وجود (عقل) إلا من خلال نص سابق مفكر فيه،فهل كان (طرزان) – الذي ربته قردة،وعاش بين الحيوانات – يستطيع أن يكون (فيلسوفا)،دون أن يكون لديه (نص سابق يفكر فيه)؟!!!!
لا أحد ينكر قيمة العقل – فهو قبس من نور الله سبحانه وتعالى – ولكن قيمة (العقل) في قدرته على الاستقراء والاستنتاج والربط بين مختلف المعطيات وناتج التجارب البشرية السابقة.
فمن أين جاء (تأليه) – وما يقرب من التأليه – (العقل) وكأنه قادر على أن ينتج (فلسفة) من تلقاء نفسه؟!
ومما يصب في هذا الباب،مقالة كتبها الأستاذ عبد الله بن عبد العزيز الهدلق،ومما جاء فيها :
("يذكّرني هؤلاء الفلاسفة بصاحب الدكان الذي سألته مرّةً عن أقصر الطرق إلى ونشستر يوم تهت وأنا ذاهب إليها على متن دراجة.. فنادى على رجل بالركن الخلفي قائلاً:
أحد السادة يريد معرفة أقصر الطرق لونشستر.
أجاب صوتُ شخص غير مرئي : ونشستر؟ نعم.
الطريق لونشستر؟ نعم.
أقصر الطرق؟ نعم.
لا أعرف!
أراد معرفة طبيعة السؤال بوضوح، ولكنه لم يهتم بالإجابة عليه، هذا بالضبط ما تفعله الفلسفة الحديثة للباحث الجادّ عن الحقيقة، فهل يكون غريباً أن يتحول الشباب إلى دراسات أخرى؟".
برتراند رسل (ت 1970م).. "مختارات من أفضل ما كتب"، ترجمة محمد قدري عمارة، ص49. "الفلسفة وقضايا الحياة" سلسلة حوارات مع برتراند رسل، ترجمة علي مصباح، ص19.(..) قال كارل بوبر (1902-1994م): "بدأ عملي في فلسفة العلم منذ خريف 1919 حينما كان أول صراع لي مع المشكلة: متى تصّنف النظرية على أنها نظرية علمية؟ أو هل هناك معيار يحدّد الطبيعة أو المنزلة العلمية لنظرية ما؟
لم تكن المسألة التي أقلقتني: متى تكون النظرية صادقة؟ ولا متى تكون النظرية مقبولة؟ كانت مشكلتي شيئاً مخالفاً.. إذْ أردت أن أميز بين العلم والعلم الزائف، وأنا على تمام الإدراك بأن العلم يخطئ كثيراً، وأن العلم الزائف قد يحدث أن تزلّ قدمه فوق الحقيقة". عن كتاب "فلسفة كارل بوبر" ليمنى الخولي، ص7.
قال كارل بوبر: "وأنا على تمام الإدراك بأن العلم يخطئ كثيراً"، هذا ما قاله أكبر فلاسفة العلم في النصف الثاني من القرن العشرين، فلا حاجة بنا إذن لتأليه هذا الذي يخطئ كثيراً "ذلك بأن الله هو الحق".){مجلة الإسلام اليوم / عدد (49) ، ذو القعدة 1429هـ}.
وبعد .. لم أكتب هذه الأسطر لأحدثكم عن موضوع خارج اهتماماتي ولكنني توقفت عند نص رسالة جاليليو جاليلي (1564 – 1642) التي بعث بها إلى دوقة تسكانيا الكبرى سنة 1615 – قبل محاكمته – ومما قال فيها :
(بالنسبة لترتيب أجزاء الكون،أعتقد أن الشمس قائمة دون حركة في مركز دوران الأجرام السماوية)،فيعلق ديورانت بالقول :
(من سخرية التاريخ أن هذه القضية لا يؤمن بها اليوم أي فلكي،وربما كان الفلك بأسره،مثل التاريخ برمته،يجب أن يؤخذ على أنه فرضية){جــ 3 مجلد 7 ص 274 )قصة الحضارة )، دول ديورانت/ ترجمة: محمد أبو درة / طبعة جامعة الدول العربية}.
ليت الأمر توقف عند (نظرية ) أو (فرضية) تبين خطؤها، ولكن الرجل دفع حياته ثمنا لقناعته تلك!! في زمن طغيان الكنسية،وهذه (لقطة) مما فُعل بجوليو سيزار فانيني،الذي قبض عليه في 2/8/1618م :
(صدر الحكم عليه بأن يسلم إلى الجلاد،الذي يجره إلى سياج نقال،وهو في قميصه،وحبل المشنقة حول عنقه،حاملا فوق كتفيه إعلانا يقول : "ملحد دنس رسم الله" وعلى هذه الحالة يقوده أمام المدخل الرئيسي ثانية القديس ستيفن،وهناك يجثو على ركبتيه ليطلب الغفران من الله ومن الملك ومن العدالة،عن تجديفه وإلحاده،ثم يسوقه إلى ميدان سالين،ويشده إلى خازوق مقام هناك،ويقطع لسانه،ويشنقه،ثم يحرق جسمه ثم يترك الرماد لتذروه الرياح ){ السابق ص 301}.
فهل يتعجب أحد من عداء الغربيين للدين (المحرف)؟!! وهل يقدس أحد (العقل) الذي لا يستنير بمشكاة الخالق سبحانه وتعالى؟!!
أبو أشرف : محمود المختار الشنقيطي – المدينة المنورة في 10/5/1431هـ