ألم اعد مهماً لديك؟!
كان مقعده كغيره بجوار أحد الأصحاب القدامى، لم يره منذ مدة ليست بالقصيرة. وبعد السلام والتحية والاطمئنان على الأهل والأنجال، وخلال توزيع الأكل والمشروبات على الحضور. أخذهما النقاش كعادة المجتمعين في هكذا مواقف، من موضوع إلى آخر. كأنهما داخل بستان، ينتقلان من زهرة إلى أخرى، ومن فاكهة إلى أخرى، حتى تنتهي فترة أداء الواجب ويحين الرحيل ويأزف الفراق. من مواضيع شخصية جداً، إلى أخرى عامة، القصد منها التسلية وتمضية الوقت. لان لا ينقطع حبل الحوار، ويلفهما السكوت والوجوم، ويبقى الوصال، وتستمر المسامرة والمفاكهة. ولكنه ليس كغيره من الناس، بل تهمه التغيرات التي تطرأ على المجتمع، ويخاف من تأثيرها السلبي على أفراده. ولفرط حساسيته يتنبه إلى ذلك قبل غيره، فتراه يجتهد في التنبيه إلى مغبة ما يؤول إليه الحال. يوجه الأنظار لأخذ الاحتياطات اللازمة، قبل مداهمة الموج العاتي، فلا تنفع عندها المسكنات ولا المهدءات.
كانا مدعوين لحضور حفل عقد قرآن أحد الأقارب، فوجدها مناسبة ليكلم صاحبه ومحاوره، عن ما يجري في المجتمع من تغيرات وتحولات. فبما إنهما في حفل زواج، فهذه فرصة ليتكلما عن محاسن وسلبيات ما يجري فيها وحولها. فبدأ كلامه عن الدعوة التي قدمت لهما، فجعلتهما يلتقيان على غير ميعاد، فقال: رغم المساويْ التي تلف مثل هذه الاحتفالات، فإن أفضل محاسنها هو رؤيتك ومقابلتك، بعد فراقنا الذي مضى عليه زمناً طويل. فتبسم جليسه لحسن لباقته وظرفه وأدبه، مع ما كان يتوقعه منه من هجوم، بسبب القطيعة التي كانت بينهما في الفترة السابقة. ولكن ماذا يستطيع أن يجيبه، غير انشغاله بأمور الحياة، كما يدعي كل فرد منا. وعاد إلى حديثه وهو يقول كان لزاما علينا الاستعداد، لا بالملابس والحلي والحلل، بل لمعرفة كيفية الوصول إلى موقع الحفل. لقد تغيرت عادات وتقاليد المجتمع، بسبب تأثرنا بالعادات والممارسات المكتسبة من المجتمعات والحضارات الأخرى. وعادات وتقاليد جديدة امتصصناها عبر الفضائيات، أو وردت إلينا مع العمالة الأجنبية التي غزتنا ثقافيا وفكرياً، بدل من تأثرها بنا واكتسابها لفكرنا وثقافتنا. فقال له صاحبه وهو يحاوره: أليست هذه حال الدنيا، تؤثر وتتأثر؟! فقال وهو يعض إصبع الندم والغيظ: نحن لا نؤثر بل نتأثر دائماً! وواصل حديثه: ولعدة أسباب واعتبارات عديدة منها - صغر مجالس وبيوت هذه الأيام – أو متابعة للموضة والتقاليع الجديدة، لم يتم حفل الزواج في بيت صاحب الدعوة. ومع ذلك - وشكرا لله - أقيم في أحد القاعات الموجودة داخل قريتنا، والتي لم تكن بعيدة بعداً يتوجب لذلك شد الرحال وتكلف المتاعب.
جاء دور انتقاد التناقضات المتعلقة بالحفل الواضحة الجليةً، فقال: ألا ترى البذخ والفخامة الظاهرية والعامة للقاعة، والتي لا تتناسب مع الأكل البسيطً، الخفيف في النفقة، والخفيف على المعدة، المقدم للضيوف. فقال صاحبه محاولا تبرير موقف أصحاب الدعوة، لإحساسه بتحامل صاحبه عليهم: يتوجب عليك أعذارهم، فأنت تعرف صعوبة الحجز هذه الأيام رغم كثرة القاعات، أما لبعد المسافة، أو لكثرة المصاريف! ولكن ألا ترى معي حسنات مثل هذه التجمعات، فهانت ترى اجتماع الناس من كل حدب وصوب، هذا قريب بالنسب، وهذا جار لصيق، وذاك صديق ومعرفة قديمة. فيهم من لم تره منذ فترة طويلة، وغاب عنك اسمه، ولم يبقى له في الذاكرة إلا صورة قديمة، عفى عليها الدهر وتكاد تندثر. وأضاف مبتهجاً فرحاً لوجوده في ذلك المكان، وسط ذلك الحشد من الناس: هكذا تجمعات تشحذ الذاكرة، تعيد الروابط إلى سابق عهدها، وتصلك بما كان قد انقطع.
وخلال حديثهما لفت نظرهما استمرار توافد المهنأين من مختلف الأعمار والطبقات الاجتماعية، مما جعلهما يتوقفان عن الحديث، لينظرا إلى تصرفات المدعوين. فكل يجلس بعد أن يسلم على العريس وذويه، في مقعد يناسبه، وإلى شخص ترتاح له نفسه، ويتوق له قلبه. ويتراوح جلوسهم كذلك بعداً وقرباً من العريس وأهله، حسب قوة العلاقة التي بينهم. عندها علق قائلا محاولاً عدم تبرئة نفسه من التهمةً: أنا لا ألومهم، فهي عادتي أنا أيضاً، لا أتطرق في الحديث مع أي شخص واسأل عن أهله وذويه، إلا إذا كنت اعرفهم حق المعرفة، ولي علاقة سابقة به وبهم. وهذا ما أوقع صاحبه في حرج جعله يبوح له بخباياه. عندما سأله عن أخوته، فلم يستطع أن يجيب، أو يعطي أي عذر، أو يحاول التهرب من السؤال، مخافة أن يوصله كلامه للكذب، أو أن يتأول ما ليس بحق، فيقع في ما لا يحمد عقباه. قال وعينية تقطران أسفاً وندماً: لم أر اخوتي منذ فترة طويلة. فأجبه جليسه دون إخفاء شيء مما يجول بخاطره، لست الأول ولست الأخير، فكلنا في نفس موقفك، وما أنا بأفضل منك حالاً. كأنه فتح له المجال ليدلي بدلوه، ويخرج ما في جعبته، دون مراء ودون زيف، فقال وهو يترحم على والده الراحل ويتذكر طيب تلك الأيام التي قضاها معه: في الماضي كنا (أنا واخوتي) - أولاد – وبنات، نجتمع كل ليلة جمعة حول والدي ووالدتي، نبثهما همومنا ونتجاذب معهما أطراف الحديث. يفضي كل منا للآخر همومه و لواعجه، فكنا نقضي أوقاتاً حلوة جميلة، يتمنى المرء عودتها ليعيشها من جديد. ولكن هيهات للغائب أن يعود، وللماضي أن يستقبل.
أراد أن يخرج صاحبه من حزنه ويخفف عليه لوعته وهمه فأردف قائلاً: لم هذه ليست مشكلتك يا صاحبي وحدك، بل مشكلتي ومشكلة أكثرنا في هذا الزمن. خاصة إذا كان ذلك التجمع، وتلك الألفة الظاهرية، مبنية على غير أساس متين من المحبة والقربة النفسية، وكان محورها شخص بعينه. فإذا ذهب أو تغيب، انتهى ما كان يحوطه ويحميه. اكمل حديثه وقلبه ينزف حسرة وألما، كأنما جرحاً قديم أزيل ما عليه من أوساخ وبثور، وأخذ يقذف ما بداخله. كل منا كان يعتقد ويتندر بتلك الرابطة وتلك اللحمة، ويستبعد احتمال انقطاعها بتاتاً، مهما طرأ على أصحابها من تغيرات. في صغرنا كانت علاقتنا الأخوية قوية، بحيث إن كل منا على الاستعداد للتضحية بنفسه من أجل أخيه وأخته. كأننا لم نكن نرى أقوى من هذه العقدة، ولكن الزمن لا يبقي شيء على حاله، وهو في تغير مستمر، يخرج لنا ما لم يكن في الحسبان. تغيرت قناعاتنا وتقديرنا للأمور، طبقا لما استجد. ومع رحيل الوالد وغيابه عن الدنيا، تغير وجودنا الأسري، وانقطع ذلك الحبل الأسري، الذي كان يوصلنا مع بعضنا. وضعك يا صاحبي جيداً إذ كان افتراقك عن اخوتك، بدأ بعد رحيل أبوكم عن الدنيا والتحاقه بالرفيق الأعلى. ماذا تقول لو بدئت مع زواج أحدكم وحصول كل منكم على بيت الزوجية. فتنقطع رجله ليس عن زيارة اخوته، فحسب بل عن رؤية حتى والديه. ويزيد تأزم الحالة بتشريف الأطفال إلي الوجود الدنيوي، فتكون مصلحة الأولاد والحياة الزوجية مقدمة على كل الاعتبارات. عندها تأخذ الحياة الزوجية مساحة كبيرة من حياة الفرد، مما يدعوه إلي فصم أي علاقة أخرى، ولو كانت لها اعتبارات اجتماعية وأسرية ودينية عالية الأهمية.
أخذت الوفود تنتقل بين الضيوف، للسلام والتهاني، متمنين للحضور دوام الأفراح والمسرات. فمر بهم أخ أحدهما، أخذ يتطلع أليه بعيون لائمة كأنها سهام لا تخطأ هدفها وهو يقول: لم تتصل بي كما وعدت، هل نسيت أم لم اعد مهماً لديك. لم يستطع أن يجيبه أو يعتذر له، فلقد تعثرت الكلمات بين شفتيه، فتوجه إلى صاحبه يذكره بكلامه الذي لم يبرح ذاكرته: ألم أسرد لك عن تأثير الوالد وأهميته في الحياة العائلية، وبانتقاله تنسف كل الروابط، وتنتهي كل العلائق. حتى تصبح علاقة الصحبة، أقوى من أي رابطة أخرى ومقدمة عليها، حتى في أحلك الظروف.
بقلم: حسين نوح مشامع