كثيراً ما تساءلت : هل الشعر مجرد تعبيرٍ عن الفرح والترح ؟ أرد على نفسي سريعاً : لا , فلو كان الشعر كذلك لهان وهان إن الشاعر " هو تلك القوة الوجدانية الفكرية التعبيرية القادرة على التأثير في سلوك المجتمع المحيط " وإذا كان الشاعر كذلك فليس من السهل أن يكون المرء شاعراً فالشاعر من خلال هذا التعريف يعد أمَّة , فهو المحرك الرئيس لوجدان الأمة , وهذا التعريف ليس وليد اللحظة أو طرح اليوم فهو خلاصة تجارب البشر عبر تاريخ الأمم .. فالأمم جميعا قدَّست الشاعر وجعلته في طليعة أولوياتها فهناك من الأمم من عبدت الشاعر الحكيم واتخذته إلها فها هي الأمم الصينية تعبد ( بوذا ) ألم يكن حكيما شاعرا ومن الأمم من ذهب بالشاعر مذهب القديسين والأنبياء فهذا (أوميروس ) ومنها من اتخذ منه مرجعا دستوريا فبريطانيا العظمى حين أرادت أن تبني الملكية الدستورية اتخذت من ( وليم شكسبير ) مرجعا لمواد الدستور , وأمة العرب كانت في طليعة الأمم التي اهتمت بالشاعر وجعلته في مصاف الحكماء وكان تكريم الشاعر عند العرب من عند المولى تبارك وتعالى ؛ فحين أرادت ذات الله العلية أن تتحدى اختارت أمة الشعراء - العرب – وحكمة الله تعالى لا تقبل بتحدي ضعيف , فإذا كانت تلك الحكمة قد اختارت فضرورة أن تختار أقوى الخلق وأعلاهم شأنا
ومن ثم وجب علينا أن ندرك نحن – الشعراء – المكانة التي نحن عليها مهما غفَّلتنا الحياة المعاصرة وألقت علينا من غبار الزمان ما يخفي دورنا الأساس في تحريك عجلة المجتمع ,
ولكن علينا أن ندرك أننا لن نبلغ هذا المبلغ في صحوة صبح أو في غفوة ليل , علينا أن نعد أنفسنا بكل ما يؤهلنا لما نحن موكولون به من مكانة وشأن ,
وإذا كان الشاعر موكولا بالإبداع دون أن يشوش على اللحظة الإبداعية باستدعاء المعارف والخبرات التي حصلها في حياته الواعية لتخدم تلك اللحظة الإبداعية فمهمة قارئ الشعر – الناقد – أن يقف على مكامن الإبهار عند الشاعر ويوضح للمتلقي حيثيات الإبهار عند الشاعر التي تم استدعاؤها خلال اللحظة الإبداعية من اللاوعي المعرفي لتصبح جزءا من النسيج الإبداعي عند الشاعر دون قصد منه ,
والصوت الشعري من أهم عناصر الإيحاء والإبهار لدى الشاعر ولكن ما أهم مصادر الصوت في القصيدة ؟ وما أهميتها في الضفيرة الإبداعية للشاعر ؟
للصوت الشعري مصادر عدة أهمها ( الميزان الشعري أو التفعيلة – القافية – أصوات الحروف – الزخرف اللفظي – صوت الحالة )
والشاعر ( عاطف الجندي ) حين قرأت له وأمعنت النظر في شعره أدركت مدى قدرته على التعامل مع الصوت في القصيدة وجعله عنصرا من عناصر السبك الشعري , وهو حقيقة يملك الكثير من عناصر النضج الشعري ولكنني فضلت أن أتحدث عن الصوت في شعره لما لعنصر الصوت من طاقة على إحداث رنين الحالة في أذن وذهن المتلقي ... وبإذن الله لي معه وقفات لنتعرف سويا على مكامن الإبداع في تجربة عاطف الجندي التي أُعدُّها تجربة تستحق الدرس والتدريس
1-الصوت التفعيلي عند عاطف الجندي :
رسخ في ثقافة الكثير من الشعراء أن الميزان الشعري يتجه إلى الاستقامة لمجرد اعتدال التفاعيل دون كسور عروضية وهذا في حقيقة الأمر مفهوم خاطئ ينعكس بالسلب على الشاعر فيحوله إلى إيقاع صاخب أو متبلد لا نتفاعل معه لإدراك عمق التجربة الشعرية , ولكن الأمر على حقيقته أن الميزان الشعري مبنيٌّ على التفعيلة حين يفهم الشاعر فلسفته ومغزى التغييرات التي تطرأ على التفعيلة من زحافات وعلل يصل إلى الوعي بأنه من أهم عناصر الخلق الأدبي فالتفعيلة تتحول إلى عنق عود يعزف الشاعر عليه فيقبض الأوتار ويرخيها ويسرعها ويبطئها ويئن بها ويصرخ على وقعها , هنا نقول : هذا شاعر امتلك الميزان الشعري و (عاطف الجندي ) من أولئك القلائل الذين بلغوا هذا المبلغ فصوت التفعيلة عنده تحول إلى موسيقى تصويرية منسابة تتحرك عليها مشاعره فتنسج من خلالها إيحاءات نفسه الدفينة ...
وكي نكون واقعيين تعالوا لنطبق ذلك على شعره :
من قصيدة ( ثالث الحرمين ) :
-بنى الشاعر قصيدته على تفعيلة ( فعلن ) محركة العين مرة وساكنتها مرة أخرى وهذه التفعيلة أسميها ( خطوات الفرس ) والشاعر الذي يستخدمها يشعرنا كم يلهث وجدانه فيصل بنا إلى أن نلهث معه وهي تحقق نجاحا جما في التعبير عن حالة من السخط والغضب كما أنها تتحول إلى وعاء تتدفق من خلاله العاطفة المتقطعة غير المتصلة أو المضطربة غير المستقرة والعاطفة المسيطرة على القصيدة لا تبلغ مبلغها دون المرور في هذا القالب الموسيقي وكأن شاعرنا يحدث لنا وقع أقدام الفرس فنلهج وراء عاطفته الهادرة يقول (هل جاء اليومُ .. لكى نبكى .. ونسامر دمع الوجدان ِ ؟!... أن نرثىَ ماضى عروبتنا .. ونكفن شمس الأكوان ِ... أن نشحذ فيه ... قضيتنا ... ونسير بدرب العُميان ِ)
2-صوت القافية أو التقفية عند عاطف الجندي :
والصوت الشعري عند عاطف الجندي لا يتوقف عند حد التفاعيل بل يمتد أيضاً إلى القافية أو التقفية سواء أكان في الشعر العمودي أم التقفية في الشعر التفعيلي والمخرج الصوتي لحرف القافية أو التقفية إنما هو يمثل المخرج الصوتي لنهاية موسيقى البيت أو السطر الشعري وعاطف الجندي من أولئك الشعراء القلائل القادرين على الخروج الصوتي من قافيته أو تقفيته بما يترك لنا صوتا انطباعيا عن الحالة ونظل عالقين بهذا الصوت الانطباعي حتى يسلمنا هذا البيت أو هذا السطر إلى تاليه فلا ننفصم عن الحالة التي يجتذبنا إليها ومن ذلك قصيدة ( بلا عينيك لن أبحر ) فالقصيدة تفعيلية تتبع نظام التقفية في السطر الشعري وقد اختار عاطف الجندي حرف الراء ليكون الخرجة الصوتية وأصر على تقييدها (أي جعلها ساكنة ) والراء حرف رنين جرسي هادئ يحيلنا إلى الحركة النفسية السريعة التي تعبر عن التعلق بمن أحب وإحساسه بأنه مصدر السعادة كما تحيلنا إلى حالة تشبه تعلق الطفل بأمه الذي يصر على عناده تجاهها رافضا المسير دونها تلك الحركة النفسية جسدتها الموسيقى التصويرية التي أحدثها حرف الراء وتقييد التقفية بالسكون جعل الحركة النفسية أسرع فلو أطلق التقفية بضم أو بكسر أو بفتح لبتر الصوت الموسيقي للراء وهذه براعة شاعر يملك مقدرات الموسيقى الشعرية
3-أصوات الحروف عند عاطف الجندي :
لكل شاعر معجمه الشعري المستحب واتجاهه إلى الاشتقاق اللفظي سواء أكان الاشتقاق المألوف أو المستحدث ويميز شاعر دون آخر بالصوت المعجمي له لدرجة تدفع البعض - ممن يمتلكون القدرة الصادقة على الحكم النقدي - أن يقول لك لو رأيت أبيات فلان في مكان ما دون أن يدون عليها اسمه أستطيع أن أعرفها , وبعضنا يظن في هؤلاء خَبَلاً أو ادعاءا ولكن الصوت المعجمي لهؤلاء الشعراء يشكل بصمة أو حمض نووي يخص الشاعر وحده وبمنتهى البساطة يستطيع الناقد الواقف على أصول ( النقد الصوتي ) أن يتعرف على البصمة الوراثية للشاعر , وعاطف الجندي له بصمة صوتية خاصة تظهر لنا من خلال رافدين مهمين :
*رافد عموم الحالة : فهو بطبيعته هادئ الملمس الوجداني مثالي الطبع لا يملك صوتا زاعقا وكان هذا منبع صوت عموم الحالة فنجد معجمه الشعري غالبا لا يحتوي على الألفاظ ذات المخارج الصوتية الزاعقة بل نجد أن مخارج الحروف في كلماته تميل إلى نعومة الملمس الصوتي مثل ( الفاء – النون – السين – الجيم – الشين – اللام – التاء .... إلخ ) وأعني بكلمة (غالبا) أننا لا نحكم على الكل بل على الغلبة وهذا معيار الحكم في الأمور الوجدانية والفكرية حيث يكون الحكم على الغلبة لا الكل ...
*رافد خصوص الحالة : ويتصل هذا فيما يخص حالة التجربة المنفردة فعلى سبيل المثال قصيدة ( قاتل ) القصيدة هنا تمثل " خصوص الحالة " وقد أجبرت الحالة عاطف الجندي على الخروج من " عموم الحالة " التي تمثل الهدوء والاتزان الانفعالي إلى الثورة والغضب وهذا أمر طبيعي فالوديع لحظات الغضب يظهر أشرس ما يظهر عليه الشرس المعتاد الشراسة وهنا تغير مسار الصوت اللفظي عند عاطف الجندي يقول ( كل صوت غير صوت الحق باطل ... يا صغيري قم وقاتل ... يا صديقي قم وقاتل ... طالما القواد ناموا ... طالما الحكام هاموا ... ) هنا غلبت الحروف ذات الحدة الصوتية على عاطف الجندي مثل( القاف – الصاد - الطاء ) بل تكررت ( القاف ) سبع مرات في سبع سطور شعرية و ( الصاد ) أربع مرات في نفس الأسطر و ( الطاء ) ثلاث مرات فلو جمعنا هذا الأصوات الصارخة الغاضبة الصوت لوجدنا أربعة عشر صوتا حادا في سبعة أبيات فظهرت قدرة الشاعر العالية في الخروج من عموم الحالة إلى خصوص الحالة والتفاعل معها وإحداث أصوات لفظية تعطي لنا انطباعا عن مدى استجابة نفس الشاعر للمثير
4-صوت الزخرف اللفظي :
وهو عنصر صوتي لا ينكره منكر حتى الحداثيون أنفسهم يرتكنون عليه كعنصر من العناصر التعويضية عن موسيقى الوزن ويستمد هذا العنصر أصواته من المحسنات اللفظية مثل الجناس وحسن التقسيم والتصريع البلاغي لا العروضي وهذا الصوت عند عاطف الجندي غير بارز بقوة فهو ليس مولعا بالزخرفة اللفظية على عكس الشعراء السكندريين الذين فتنوا على غالبيتهم بهذا النوع من الأصوات الشعرية حتى أصبح هذا الصوت واحدا من أهم عناصر تمييز الشعر السكندري لذلك حين قرأت الشاعرة ( هناء سعيد ) لأول وهلة تملكتني الدهشة وأحسست كأنني أمام شاعر سكندري متمرس في الشعر منذ زمن طويل لأنها تتقن حرفية استخدام هذا الصوت ... ولكي لا أبعد عن المحور فعاطف الجندي ليس مولعا بهذا اللون من الأصوات وإن ورد فإنه يرد ناعم الملمس عفوي الورود كما ظهر مثلا في قصيدة ( قاتل ) في مثل ( ناموا – هاموا )
5-صوت الحالة :
وهو واحد من أقوى جوانب الصوت الشعري التي يعتمد عليها عاطف الجندي ومصدر هذا الصوت يأتي من تراكيب الشاعر ذات الدلالة الموحية ومن ذلك مثلا :
*اعتماد الشاعر على "علم المعاني البلاغي" من أسلوب خبري أو إنشائي أو القصر البلاغي أو الإيجاز أو الإطناب وما لهذه الاستخدامات من وقع دلالي قوي التأثر على المتلقي لما له من صوت خفي يسري من خلال الإيحاء ومراعاة مقتضى الحال ومن أمثلة ذلك : في قصيدة ( قاتل ) { يا صغيري .. قم وقاتل } النداء هنا جاء ليحدث لنا أيقاعا تصويريا برغبة الشاعر في الاستنهاض وشحذ الهمم { لاتماطل } النهي التحذيري وما يوقعه في نفوسنا من إيقاع تصويري برجفة الشاعر التحذيرية التي يوجهها للمخاطب , { أيها الدفء الذي يمتد حتى أغنيات المجد في أحضان بابل } وما فيها من نداء استنهاضي ومضارع " يمتد " يعطي دلالة الاستمرار و { حتى } التي تمثل صوت الحركة الدالة على بلوغ منتهى الغاية ...
أخوتي رواد المنتدى كان لابد لنا من وقفة كهذه حتى نتعرف على أصوات مبدعينا الشعرية وكيف بلغ هؤلاء المبدعون تلك القامات الشعرية فهذه القامات لم تأت من فراغ وإنما أتت نتيجة بناء يوغل في التاريخ والخبرة الشعرية ومازال يبني حتى آخر عمره ... وعلى شبابنا أن يحبوا من ينصحهم فنحن نرغب في إيصالهم إلى تلك الدرجة من الإبداع والاختلاق طالنا جاء ذلك النصح في عباءة المحب المتواضع الأمين على المنصوح...
بقلم عبد الله جمعة
أبو القوافي