الجزء الاول
المغوار عمــاد الـدين زنـكي
وجدي أنور مردان
عندما ادلهمت الخطوب. ولف المشرق الإسلامي ظلام دامس باحتلال الصليبيين لبلاد الشام وفلسطين. سالت شلالات الدماء . احتلت المدن والقرى و دمرت. اغتصبت المقدسات والأرض والعرض وسرقت الثروات ونهبت البيوت.. وفي غمرة هذا التمزق والإحباط كان المسلمون يتطلعون إلى ظهور قائد مغوار يلم شعثهم ويداوي جراحاتهم ويجمعهم على كلمة التوحيد. يسير بهم في طريق الجهاد لتحرير الأرض المغتصبة وينقذهم من طاعون الاحتلال ويضع حدا لبيع الولاة والحكام ضمائرهم للمحتل.
إن الأرحام التي أنجبت الأبطال العظام الذين غيروا حركة التاريخ ومساره، ورفعوا لواء الإسلام، وتقدموا بالمسلمين نحو الأمجاد والبطولات، لم ولن تعقم أبدا عن أن تنجب جيلاً من القادة الأبطال، يستكملون مسيرة الآباء، ويعيدون مجد الأجداد.
بدأت الحملات الصليبية على العالم العربي الإسلامي عام 1098م - 491هـ ، كانت دولة المسلمين في الشام والعراق وغيرها تمزقها الخلافات والصراعات الدموية عشية بدأ الحملة الصليبية على العالم الإسلامي عام 491 للهجرة –1098 للميلاد. أخذت الأنظار في أوروبا تتجه نحو الأرض المقدسة. دعا البابا أوربان الثاني «لاسترداد» الأراضي المقدسة من أيدي المسلمين. وأعلن أن كل من يشترك في هذه الحروب المقدسة تغفر له ذنوبه، كما قرر أن ممتلكات المقاتلين توضع تحت رعاية الكنيسة مدة غيابهم، و طلب أن يخيط كل محارب صليباً من القماش على ردائه الخارجي ومن هنا جاءت تسمية (الصليبيون) والحملات والحروب التي أعقبتها سميت بالحملات والحروب الصليبية.
بعدما احتل الصليبيون عملوا على تجنيد حكام وأمراء الولايات والمناطق التي احتلوها او القريبة منها. وظهرت الخيانات وانكشف التخاذل من إمارات المدن التي حرصت كل منها على نفوذها و«كسب ود» الصليبيين, الذين استطاعوا بمساعدة الخونة والعملاء حصار بيت المقدس واسقاطها ثم احتلالها!!.
وتتابع سقوط مدن فلسطين الأخرى واحدا بعد الآخر, وهكذا تأسست مملكة بيت المقدس الصليبية. استطاع الصليبيون- بعد حملتهم الأولى- أن يستولوا على جزء كبير من بلاد الشام والجزيرة خلال الفترة من [489هـ = 1069م] إلى [498هـ = 1105م]، وأنشئوا فيها إماراتهم الأربع: الرها، وإنطاكية، وطرابلس، وبيت المقدس.
وفي ليل اليأس المطبق وظلام الانكسار الموجع والاستسلام المهين، لاحت بارقة أمل في العيون، ما لبثت أن صارت شعاعًا توهج ليضيء الطريق، فانتبهت النفوس من غفوتها، وأفاقت القلوب من حسرتها، وتلاقت الهمم وتوحدت السواعد، والتف الجميع حول ذلك البطل المرتقب الذي جاء ليحقق الحلم، ويجدد الأمل، ويمحو شبح الهزيمة، ويعيد العزة والكرامة إلى ملايين المسلمين، ليس في عصره فقط، وإنما لجميع المسلمين عبر العصور والأزمان.
فمن هو هذا البطل الذي حمل على أكتافه أمانة التحرير ولواء الجهاد، ووضع أسس تحرير بيت المقدس من دنس الاحتلال؟
هو الملك المنصور البطل التركماني المسلم عماد الدين زنكي .
ولد عماد الدين زنكي بن آق سنقر بن عبد الله آل ترغان" نحو سنة [477هـ = 1084م] في أسرة تنتمي إلى قبائل "الساب يو" التركمانية الشديدة المراس، كان والده "آق سنقر" مملوك السلطان محمد بن ملكشاه بن ألب أرسلان السلجوقي، وكان مقربًا إليه، ذا حظوة ومكانة لديه، اعتمد عليه السلطان في كثير من الأمور فلم يخذله آق سنقر قط، وهو ما جعله ينال ثقته ورضاه، وزاد من منزلته عنده. تولى آق سنقر ولاية الموصل سنة 516 للهجرة بأمر من الخليفة العباسي المسترشد بترشيح من السلطان محمود ابن السلطان محمد بن ملكشاه وفي سنة 521هـ ملك حلب واستولى على (الرحبة) و (الجزيرة) وفتح (الرها) سنة 539هـ, وكان يحتلها الصليبيون بزعامة (جوسلان) .
لم ينس السلطان محمود بن ملكشاه تضحية "آق سنقر" في سبيل عرشهم ووفاءه لهم، فوجه جل اهتمامه وعنايته نحو أبن آق سنقر الوحيد عماد الدين زنكي الذي لم يتجاوز العاشرة من عمره عند وفاة والده.
نشأ عماد الدين في "حلب" في رعاية السلطان محمود السلجوقي، ثم ما لبث أن انتقل عام [489هـ = 1096م] إلى "الموصل" ليحظى برعاية القائد السلجوقي "كربوقا"، فظل ملازمًا له حتى تُوفِّي سنة [495هـ = 1101م]، فخلفه عليها "شمس الدين جكرمش" الذي قرب عماد الدين لما لمس لديه من مقدرة عسكرية ومهارة قتالية عالية ، فأحبه واتخذه ولدًا. ظل عماد الدين ملازمًا له حتى تُوفِّي سنة [500هـ = 1106م]، فتولى "الموصل" من بعده "جاولي سقاو"، وتوطدت علاقة عماد الدين بالوالي الجديد، حتى خرج ذلك الوالي على السلطان، فانفصل عماد الدين عنه، وانضم إلى الوالي الجديد "مودودو بك التونتكين" الذي عينه السلطان محمود على الموصل، وكان ذلك مدعاة إلى إكبار السلطان له، وثقته فيه، وزيادة حظوته ومكانته عنده.
خاض القائد التركماني عماد الدين زنكي إلى جانب القائد "مودود" معارك كثيرة ضد الصليبيين المحتلين في "الشام" و"الجزيرة"، وقد لفت إليه الأنظار بشجاعته الفائقة ومهارته القتالية العالية.
ومع مطلع عام [517هـ = 1123م] استطاع السلاجقة – بفضل الخطة البارعة التي اتبعها عماد الدين – إلحاق هزيمة ساحقة بجيوش "دبيس" الخارج على الخليفة العباسي، وخلّصوا الخلافة من خطر محقق كاد يعصف بها، فانضم "دبيس" إلى الصليبيين بعد هزيمته أمام عماد الدين، وساهم معهم في حصار "حلب" طمعًا في الاستيلاء عليها.
وعندما تدهورت العلاقات بين الخليفة العباسي المسترشد والسلطان السلجوقي "محمود" في عام [519هـ = 1125م] كان لعماد الدين دور كبير في إنهاء الصراع بينهما، وتجاوز الأزمة بأمان قبل أن يتفاقم الموقف، وتحدث مواجهة وخيمة العواقب بين الطرفين.
أن الخاصية التي تميز التركمان كقبائل البدو الرحل، إنهم يعتبرون البقعة التي يستوطنون فيها موطنا لهم، يدافعون عنها ويذودون عن حياضها، هذا وقد شارك التركمان، المعروفين بوفائهم و بفروسيتهم ، في جميع الحروب التي خاضتها القوات الإسلامية لتحرير بيت المقدس ،
سعى الصليبيون إلى بسط نفوذهم وإحكام السيطرة على المزيد من أراضي البلاد وإنشاء إمارات جديدة. والإمعان في السلب والنهب والقتل.
لم يشأ القائد التركماني المغوار عماد الدين زنكي في البداية أن يدخل في حرب مع المحتلين إلى أن يوطد دعائم إمارته الجديدة، ويدعم جيشه، ويعزز إمكاناته العسكرية والاقتصادية قبل أن يقدم على خوض غمار المعركة ضد الصليبيين. فعكف هذا القائد المحنك على وضع استراتيجية محكمة لتوحيد الإمارات والولايات الإسلامية الصغيرة المتناثرة والمتناحرة فيما بينها وجعلها تحت قيادة قوية. ومن ثم العمل على تهيئة الأمة الإسلامية وتوحيدها قبل أن يخوض معركتها المرتقبة. ولتنفيذ هذه الاستراتيجية ، استولى عماد الدين على إمارة "حلب"، كما هاجم عددًا من المواقع المحتلة المحيطة بها، وتمكن من الاستيلاء على خمسة منها، كما تمكن من الاستيلاء على "بعرين" التي وجد الصليبيون في استيلائه عليها خطرًا يهدد أماراتهم في المشرق. وقد حاول الصليبيون إنقاذ "بعرين"، ولكن حملتهم التي قادها الإمبراطور البيزنطي "حنا كومنين" فشلت في ذلك.
ثم عمل "عماد الدين" على تفتيت التحالف الخطير الذي قام بين الصليبيين في الشام والبيزنطيين، واستطاع بحنكته السياسية، أن يزرع بذور الشك بين الطرفين ليقضي على التعاون بينهما، كما سعى في الوقت نفسه إلى طلب النجدة والإمدادات العسكرية من مختلف أنحاء العالم الإسلامي.
وفي السياق نفسه وجه عماد الدين زنكي جهود إلى توحيد المسلمين. فقد حاول الاستيلاء على دمشق مرتين دون جدوى، كما سيأتي لاحقا، فقد كانت دمشق المفتاح الحقيقي لاسترداد فلسطين من جهة الشام، غير أن القائم بأمر الحكم هناك راسل الصليبيين للتحالف ضد عماد الدين زنكى وهو ما اضطره إلى التراجع عنها. ولكنه استطاع أن يدعم موقفه بالاستيلاء على بعض المواقع وعدد من الحصون الخاضعة لإمارة "الرها" الصليبية، وتمكن بذلك من قطع الاتصال بين أمير "الرها" وبين حلفائه.
وكانت إمارة "الرها" واحدة من أهم الإمارات الصليبية في المشرق، وذلك لقوة تحصينها، وقربها من "العراق" التي تمثل مركز الخلافة الإسلامية، ونظرًا لما تسببه من تهديدات وأخطار للمناطق الإسلامية المجاورة لها.
ومن ثم فقد اتجهت نية "عماد الدين" إلى إسقاطها، وعزم على فتحها، وراح يدرس الموقف بدقة، فأدرك أنه لن يتمكن من فتح "الرها" إلا إذا استدرج "جوسلين"- أمير "الرها"- وقواته خارجها، فوضع خطة بارعة أتاحت له الوصول إلى مأربه؛ إذ تظاهر بالخروج إلى "آمد" لحصارها، وفي الوقت نفسه كان بعض أعوانه يرصدون تحركات أمير "الرها"، الذي ما إن اطمأن إلى انشغال "عماد الدين" عنه بحصار "آمد" حتى خرج بجنوده إلى "تل باشر"- على الضفة الغربية للفرات- ليستجم ويتفرغ لملذاته.
وقد كان هذا ما توقعه "عماد الدين"، فأسرع بالسير إلى "الرها" في جيش كبير، واستنفر كل من يقدر على القتال من المسلمين لجهاد الصليبيين، فاجتمع حوله 20 ألفا من المقاتلين التركمان الأشداء و حشد هائل من المتطوعين العرب والأكراد، فحاصر "الرها" من جميع الجهات، وحاول التفاهم مع أهل "الرها" بالطرق السلمية، وبذل جهدًا كبيرًا لإقناعهم بالاستسلام، متعهدا لهم بالأمان، ولكنهم أبوا، فما كان منه إلا أن شدد الحصار عليهم، واستخدم الآلات التي جلبها معه لتدمير أسوار المدينة قبل أن يتمكن الصليبيون من تجميع جيوشهم لإنقاذ المدينة.
وبعد (28) يومًا من الحصار انهارت بعض أجزاء الحصن، ثم ما لبثت القلعة أن استسلمت لقوات القائد التركماني المنصور" في [28 من جمادي الآخرة 539هـ = 27 من نوفمبر 1144م]، فأصدر "عماد الدين" أوامره إلى الجند بالتوقف عن القتال أو الأسر أو السلب، وأمر بإعادة جميع ما استولوا عليه من غنائم وأسلاب، فأعادوا كل ما أخذوه إلى أصحابه. وضرب بذلك أروع مثال على الشهامة والفروسية والأخلاق الإسلامية الرفيعة. وبدأ من فوره بإعادة أعمار المدينة. فأعاد بناء ما تهدم من أسوارها، وما تهدم من بيوتها أثناء اقتحام المدينة، وسار في أهلها بالعدل وحسن السيرة، حتى عم الأمان وهدأت النفوس وكسب القلوب والعقول. ثم أمر بان يحتفظ النصارى بكنائسهم وصومعهم وسمح لهم بأداء عبادتهم وطقوسهم الدينية بكل حرية وأمان.
أن ظهور وبروز القائد التركماني البطل عماد الدين زنكي بن أقسنقر وبدء عهد الدولة الزنكية في الموصل وحلب، قد وضع الأسس العسكرية والسياسية الجدية وفتحت صفحة جديدة لتحرير الأراضي الإسلامية المغتصبة، وقد أكمل المسيرة ابنه البطل نور الدين زنكي وأكمله القائد الكردي المغوار صلاح الدين الأيوبي وحرر بيت المقدس.
تولى عماد الدين زنكي ولاية الموصل وأعمالها سنة 521هـ بعد أن ظهرت كفاءته في حكم البصرة وواسط. ، وفي محرم سنة 522هـ تمت له السيطرة على حلب. وأخذ عماد الدين يخوض المعارك تلو المعارك ويحقق الانتصارات على الصليبيين .
استمر جهود زنكي في توحيد قوى المسلمين واستنهاض عوامل القوة الكامنة فيهم. فملك عماد الدين زنكي مدن: حماة وحمص وبعلبك، وسرجي، ودارا، والمعرة، وكفر طاب، وقلعة الصور في ديار بكر، وقلاع الأكراد الحميدية، وقلعة بعرين، وشهرزور، والحديثة، وقلعة أشب وغيرها. وفي سنة 534هـ حاول عماد الدين زنكي الاستيلاء على دمشق مرتين دون جدوى، فقد كانت دمشق المفتاح الحقيقي لاسترداد فلسطين من جهة الشام، غير أن القائم بأمر الحكم هناك" معين الدين أنز" راسل الصليبيين وتحالف معهم ضد عماد الدين زنكي ووعدهم بأن يحاصر بانياس ويسلمها لهم ووافقوا، ولكن عماد الدين زنكي فاجئهم قبل قدومهم لدمشق فلما سمعوا ذلك لم يخرجوا. ومع ذلك فإن معين الدين حاصر بانياس بمساعدة جماعة من الفرنج ثم استولى عليها وسلمها للفرنج. لم يخلوا زمان من العملاء وبائعي الأوطان والمتحالفين مع المحتلين، وهذه سنة الحياة ودورة التاريخ!!
غير أن أشهر ما يذكر من الفتوح لهذا القائد والحاكم السياسي التركماني هو فتحه للرها وإسقاطه للمملكة الصليبية التي قامت بها، فقد حاصرها لمدة أربعة أسابيع وفتحها عنوة في 6 جمادى الآخرة 539هـ، وفتح ما يتبع هذه المملكة من أعمال في منطقة الجزيرة، وفتح سروج وسائر الأماكن التي كانت للفرنج شرقي الفرات ما عدا البيرة.
كان فتح "الرها" هو أجلّ وأعظم أعمال "عماد الدين"، ولم يمض عامان على ذلك النصر العظيم، حتى تم اغتياله في [6 من ربيع الآخرة 541هـ = 15 من سبتمبر 1146م] خلال حصاره لقلعة "جعبر" على يد "يرنقش"- كبير حرسه- الذي تسلل إلى مخدعه فذبحه وهو نائم.
ويرى عدد من المؤرخين أن اغتيال "عماد الدين زنكي" جاء لأسباب سياسية ، فقد كان في أوج انتصاره على الصليبيين المحتلين، كما حقق انتصارًا آخر على المستوى الإسلامي بعد أن نجح في توحيد الصفوف وتكوين جبهة إسلامية قوية، وتأسيس جيش قوى عماده 50 ألف مقاتل تركماني ومتطوعين عرب وأكراد، ومن ناحية أخرى فقد كانت قلعة "جعبر" على وشك السقوط بعد أن بلغ حصاره لها مداه، فضلاً عن أن قاتله "يرنقش" كان من الباطنية، وقد استطاع التستر والانتظار طويلاً- على عادة الباطنية- حتى حانت اللحظة المناسبة لتنفيذ جريمته، فاغتال "عماد الدين" ذبحا، وهو في قمة مجده وانتصاره وكان عمره قد زاد عن ستين سنة. تغمده الله بواسع رحمته.
وعن شخصية هذا التركماني المسلم الغيور قال ابن الأثير: فقد كان عماد الدين زنكي شديد الهيبة في عسكره ورعيته، عظيم السياسة، لا يقدر القوي على ظلم الضعيف، وكانت البلاد قبل أن يملكها خراباً من الظلم وتنقل الولاة ومجاورة الفرنج، فعمّرها وامتلأت أهلاً وسكاناً وكان زنكي من خيار الملوك وأحسنهم سيرة وشكلاً، وكان شجاعاً مقداماً حازماً، خضعت له ملوك الأطراف، وكان من أشد الناس غيرة على نساء الرعية، وأجود الملوك معاملة، وأرفقهم بالعامة.. واشتهر عماد الدين بعد مقتله بلقب" الشهيد"". ودفن بصفين, وخلفه ابنه سيف الدين غازي في الموصل وخلفه ابنه نور الدين محمود في حلب .
لقد عمل عماد الدين زنكي في أجواء صعبة. من استشراء الفساد والنزاع بين أمراء والولاة والتناحر والتشرذم والمؤامرات بين أمراء وزعماء السلاجقة أنفسهم، وبينهم وبين الخليفة العباسي في أحيان أخرى، ومع ذلك فقد استطاع أن يضع الأسس لقاعدة انطلاق جهادية كبيرة وقوية تمتد من شمال الشام إلى شمال العراق، كما كسر شوكة المحتلين الغزاة في مواقع كثيرة، ويسر سبل الجهاد والعمل الجاد لتحرير الأرض، وقدم نموذجاً للحاكم المجاهد تحت راية الإسلام، وقوى الأمل باسترجاع المقدسات. غير أن أفضل أثر تركه حسب ما يذهب إليه المؤرخون هو ابنه نور الدين محمود زنكي.
بعد استشهاد عماد الدين زنكي، وحسب الأعراف الوراثية في ذلك الزمان، انقسمت دولته بين نجليه: نور الدين محمود الذي تولى حلب وما يتبعها وسيف الدين غازي الذي تولى الموصل وما يتبعها.
ولد نور الدين محمود -بعد حوالي عشرين عاماً من سقوط القدس في أيدي الصليبيين- في 17 شوال 511هـ -فبراير 1118م . وبحكم نور الدين دشنت صفحة جديدة رائعة من صفحات التحرير في بلاد الشام، وطوال 28 عاماً من وضع نور الدين زنكي ًفي ذهنه هدفه الأساسي في تحرير واسترداد بلاد المسلمين، وتوحيدها تحت راية الإسلام واستكمال ما بدأه والده الشهيد..
ومنذ تلك اللحظة أخذ يخطط ويأخذ بالأسباب ويعد العدة والعتاد ويوحد الجهود المسلمين ويرتقي بهم في جوانب الحياة المختلفة وذلك وفق تصور إسلامي متكامل لإعادة أمجاد المسلمين وطرد المحتلين من بلادهم..
الزنكيون، بنو زنكي:
سلالة تركمانية من قبيلة (الساب يو) استوطنت شمال سوريا و العراق حكمت مابين 1127-1174 م وفي الموصل حتى 1262 م.
مؤسس السلالة آق سنقر بن عبد الله آل ترغان ، والذي كان من الجنود المماليك للسلاجقة، أصبح أتابكا (قائد عسكري) على حلب من قبل القائد السلجوقي تطـش. ثم تولى ابنه عماد الدين زنكــي (1127-1146 م) الإمارة على البصرة وواسط في العراق، تمكن بعدها من غزو الموصل عام (1127 م)، ثم حلب عام (1128 م) و مدن أخرى في الشام. بفضل سياسته الحكيمة و حملاته الناجحة ضد الإمارات الصليبية في الشام، استطاع أن يحكم قبضته على كامل شمال العراق و أجزاء مهمة من الشام. خلفه ابنه نور الدين (1146-1174 م) في بلاد الشام، تمكن الأخير من الاستيلاء على دمشق عام (1154 م). بعد وفاة أخيه سيف الدين (1146-1149 م). ضم نور الدين شمال العراق إلى دولته ثم اتخذ من الموصل عاصمة له. استمر هذا الفرع في الحكم حتى العام 1262 م.
بعد استشهاد القائد المغوار عماد الدين رحمه الله، قاد نجله نور الدين زنكي دولة بني زنكي إلى أوجها، تميز عهده بتطور حركة العمران و ازدهار الاقتصاد وتوسع رقعة إمارته. تمكن من أن يمد حدوده حتى مصر، حيث قضى قائد جيشه صلاح الدين على الخلافة الفاطمية فيها سنة 1174 م. ثم استولى صلاح الدين و الأيوبيون على الحكم من إسماعيل بن نور الدين زنكي (في حلب)، معلنا ظهور نجم الأيوبيين بعد أن كان هؤلاء في خدمة الزنكيين لسنوات طويلة.
وفي الحلقة القادمة انشاء الله نتحدث عن بطل تركماني آخر كان له القدح المعلى في سوح الجهاد والتحرير والدفاع عن ارض العرب والمسلمين في بلاد الشام وفلسطين والعراق
يتبع
عماد الدين الزنكي
الجزء الثاني
((إني لأستحي من الله تعالى أن يراني مبتسماً والمسلمون محاصرون بالفرنج))
مؤمن صادق الإيمان. جلس على ظهر فرسه أكثر مما جلس على عرشه. رقد في الخيم والتحف السماء مع مقاتليه أكثر مما نام بجوار أهله. تجول في الفيافي في قر البرد ولحيف الحر أكثر ما تمتع بالتنزه في بساتين وحدائقها الغناءة. زخرف طعنات السيوف والرماح جسمه بدلا من التزين بالحلى والجواهر والأوسمة. فارس زاهد لم يتكرر. زخ عرقا في سوح القتال أكثر من التزين بعطر العود والمسك أو القيلولة في أحواض الحليب. مجاهد عظيم. زاهد متصوف لم يغمض له الجفن الا منتصف الليل لينهض في الثلث الأخير من الهزيع ليتهجد. يقبل على الصلاة والدعاء والاستغفار كأنه يحمل على عاتقه خطايا الناس أجمعين. يتلوا ما تيسر من القرآن الكريم حتى ينبلج الفجر ليوقظ أهله ان كان بينهم او قواده وجنوده ان كان في ساحة الوغى والجهاد ليؤم فيهم صلاة الفجر ثم يجلس لتمشية شؤون دولته واستقبال ابناء رعيته لقضاء احتياجاتهم.
قال أبن الأثير في بيان فضله: "قد طالعت تواريخ الملوك المتقدمين قبل الإسلام وفيه إلى يومنا هذا، فلم أر بعد الخلفاء الراشدين وعمر بن عبد العزيز أحسن سيرة من الملك العادل نور الدين، ولا أكثر تحرياً للعدل والإنصاف منه، قد قصر ليله ونهاره على عدل ينشره، وجهاد يتجهز له، ومظلمة يزيلها، وعبادة يقوم بها، وإحسان يوليه، وإنعام يسديه".
لم يأبه بأبهة الحكم والسلطان ولم يتقاضى راتبا من بيت المال المسلمين وإنما كان يأكل ويلبس هو وأهله من ماله الخاص ولم يكن له بيت يسكنه، وإنما كان مقامه في غرفة في قلعة قد اشتراه من ماله، يحل فيها عندما يعود من ساحة الجهاد.
كان رحمه الله لايبتسم ، وروى أبو شامة قائلاً: أنه قرئ عليه جزء من حديث كان له به رواية، فجاء في جملة تلك الأحاديث حديث مسلسل بالتبسم فطلب منه بعض طلبة الحديث أن يبتسم لتتم السلسلة على ما عرف من عادة أهل الحديث، فغضب من ذلك وقال: إني لأستحي من الله تعالى أن يراني مبتسماً والمسلمون محاصرون بالفرنج"
ذلكم هو البطل التركماني الشهم نور الدين محمود بن عماد الدين بن آق سنقر زنكي. فكان هذا الشبل من ذاك الاسد
قبل ان نسافر معا في رحلة الى بطون التاريخ لنقتطف الازهار ونزيل الاشواك عن سيرة هذا البطل التركماني العظيم، نود ان نوضح باننا لا نبغي اعتماد التفسير الأحادي للتاريخ في سيرة الأبطال والقادة الذين كتبنا وسنكتب عنهم. ولاننظر الى سيرتهم من منظار عرقي ضيق او الدافع الاقتصادي أو المذهبي او محاولة طمس حقوق الآخرين ... الخ. إنما هدفنا هو البحث عن تلاحم القائد البطل مع المبادىء الإسلامية التي كانت محور حركته وتفسيره للوقائع ونظرته الى المحتلين الغزاة، ودور القائد او البطل في استنهاض الهمم و وضع كل القوى المؤمنة الفاعلة في المنظور الاسلامي للتوحد واحداث التغيير في النفوس وتهيأتها لتحرير الارض والمقدسات. أن اتباعنا للمنهج التأريخ الفردي الذي يركز على شخص القائد وجهوده في مواجهة التشرذم والتناحر من جهة و التحدّي الصليبي الاحتلالي من جهة اخرى هو ليس تمجيد الفرد، حتى وان كان يستحق ذلك بجدارة وامتياز، لأننا نؤمن ما من امة تنهض ويكون لها مكان تحت الشمس ما لم يظهر قائد يأخذ على عاتقه تجيير المرحلة التاريخية لصالح الأمة ونهوضها ورفعتها. ولا يخفى على القارىء الكريم أهمية وضرورة القائد المحرك للهمم والذي يضع الأسس الصحيحة لنهضة الأمة وأعدادها للنضال والجهاد من اجل الوحدة والتحرير. وكما يقول المؤرخون ان التاريخ يبقى يدور في فلك "الأشخاص" العباقرة لا في فلك "الأفكار الصحيحة. وكيف اذا كانت العباقرة يدورون في فلك الأفكار الصحيحة، فعند ذلك تحدث المعجزة كما حدثت عند تحرير بيت المقدس. ولهذا تعمدنا البدء بالكتابة عن المغوار عماد الدين زنكي وابنه الشهيد نور الدين محمود زنكي لاتهما هما اللذان وضعا استراتيجية تحرير بيت المقدس . وسار على نهجهم القائد الكردي البطل صلاح الدين الأيوبي الذي تعلم وتهذب واحترف العسكرية في مدرسة نور الدين محمود. وان معظم قواد جيش صلاح الدين ومقاتليه عند فتح بيت المقدس كانوا من الفرسان التركمان الصناديد الذين صقلتهم مبادىء الإسلام الحنيف وهذبت شجاعتهم وفروسيتهم المتجذرة فيهم، فاندفعوا للجهاد تحت راية الاسلام لتحرير ارض العرب والمسلمين المقدسة دون أي التفات إلى العرق او القومية او المذهب اذ كان يضم جيش نور الدين المسلمين السنة والشيعة التركمان والعرب والأكراد. فمن هنا تنبع أهمية القائد المحنك الذي يجمع ولا يفرق.
أكرم الله نور الدين بذكر مجيد وسيرة عطرة ولم يقطف من هذه الدنيا سوى ثمانية وخمسين عاماً، فقد ولد الفارس التركماني الزاهد وقت طلوع الشمس من يوم الأحد 17 من شهر شوال سنة 511 للهجرة، الموافق 11 شباط، فبراير 1118 للميلاد ومات يوم الأربعاء 11 من شوال سنة 569 للهجرة. مكث منها في الملك 28 عاماً. وهو ثاني أولاد عماد الدين زنكي بعد سيف الدين غازي. وبعد وفاة عماد الدين زنكي اقتسم ولداه حسب تقاليد ذلك الزمان ملك أبيهم: فاستقر سيف الدين غازي على ولاية الموصل وتولى نور الدين محمود حكم حلب. وقد كان نهر الخابور هو الحد الفاصل بين أملاك الأخوين.
اشتهر سيف الدين غازي بالسياسة والأناة، على حين كان نور الدين الذي ذاع صيته محاربا فارسا مجاهدا جياش العاطفة صادق الإيمان، ميالا إلى جمع كلمة المسلمين وإخراج الأعداء من ديارهم ، مفطورا على الرقة ورهافة الشعور؛ وهو ما جذب الناس إليه والتفوا حوله، وحبب القلوب فيه. وواصل سياسة أبيه الجهادية.
ظهر نور الدين محمود زنكي في وقت كان عصيبا على المسلمين والناس في أشد الحاجة إلى مثله ليأخذ بيدهم في حلكة الظلام الدامس الذي اكتنف بلاد المسلمين في بلاد الشام، منذ أن وطئتها أقدام الغزاة الافرنج الصليبيون، واحتلوا القدس الشريف. وقد استطاع أباه المرحوم عماد الدين ان يباشر في توحيد المسلمين ويهيء لهم ما استطاع من قوة ورباط الخيل وتضييق فجوة الخلاف والتناحر بين امراء المسلمين. نجح المغوار بقدرته وكفاءته العسكرية والادارية العالية من فتح مدينة الرها سنة (538هـ = 1144م) الذي كان بمثابة ضربة قوية للكيان الصليبي المحتل؛ لأن الرها كانت أولى الإمارات الصليبية التي تأسست في الشرق إبان الحملة الصليبية الأولى، ولم يمهل القدر عماد الدين لكي يواصل تحرير الأراضي المحتلة، حيث اغتالته يد الغدر في (6 من ربيع الثاني 541هـ = 14 من أيلول، سبتمبر 1147م) وكما تحدثنا بالتفصيل عندما تحدثنا عن عماد الدين زنكي. لم تسقط الراية الجهادية، بل حملها يد مؤمنة جبل على حب الجهاد وسار سيرة ابيه بل رفع رأس ابيه وقومه عاليا وتبوءة بامتياز مكانة مرموقة في سجل التاريخ وأحتضن نور الدين محمود زنكي التركماني ومنحه اشرف صفحاته وخلده كأعظم القادة المسلمين الأبطال وكاد ان يسمى الخليفة الراشد السادس لورعه وزهده وعدله وفروسيته وشجاعته.
يقول الإمام ابن عساكر: "بلغني أنه ( نور الدين محمود) في الحرب رابط الجأش، ثابت القدم، شديد الانكماش، حسن الرمي بالسهام، صليب الضرب عند ضيق المقام، يقدُم أصحابه عند الكرة، ويحمي منهزمهم عند الفرة، ويتعرض بجهده للشهادة لما يرجو بها من كمال السعادة".
وعن شجاعته وأقدامه قال ابن الأثير: "وأما شجاعته وحسن رأيه فقد كانت النهاية إليه فيهما، فإنه كان أصبر الناس في الحرب، وأحسنهم مكيدة ورأياً، وأجودهم معرفة بأمور الأجناد وأحوالهم، وبه كان يضرب المثل في ذلك، سمعت جمعاً كثيراً من الناس لا أحصيهم يقولون: إنهم لم يروا على ظهر الفرس أحسن منه، كأنه خلق منه لا يتحرك و لا يتزلزل" .
كان نور الدين رحمه الله إذا حضر الحرب أخذ قوسين وجعبتين، وباشر القتال بنفسه، وينادي بأعلى صوته الله أكبر حي على الجهاد ويندفع نحو العدو كالغضنفر الهصور.
وعن زهده يقول سبط ابن الجوزي: "كان إذا أقام الولائم العظيمة لا يمد يده إليها إنما يأكل من طبق خاص فيه طعام بسيط" .
استهل نور الدين حكمه بالقيام ببعض الهجمات على إمارة إنطاكية الصليبية، واستولى على عدة قلاع في شمال الشام، ثم قضى على محاولة "جوسلين الثاني" لاستعادة الرها التي فتحها ابوه عماد الدين زنكي وكانت هزيمة الصليبيين في الرها أشد من هزيمتهم الأولى.
وكان نور الدين دائم السعي إلى استمالة القوى الإسلامية المتعددة في شمال العراق والشام وكسب ودها وصداقتها لمواجهة العدو الصليبي، فعقد معاهدة مع "معين الدين أنر" حاكم دمشق سنة (541هـ = 1147م) وتزوج ابنته، فلما تعرض أنر لخطر الصليبيين وكانت تربطه بهم معاهدة وحلف لم يجد غير نور الدين يستجير به، فخرج إليه، وسارا معا واستوليا على بصرى وصرخند قبل أن يقعا في يد الصليبيين، ثم غادر نور الدين دمشق؛ حتى يبعث في قلب حاكمها الأمان، وأنه لا يفكر إلا في القضاء على الصليبيين؛ فتوجه إلى حصون إمارة إنطاكية، واستولى على أرتاح وكفر لاثا وبصرفوت.
وعلى أثر ذلك ملك الرعب قلوب الغزاة من نور الدين، وأدركوا أنهم أمام رجل لا يقل كفاءة وقدرة عن أبيه عماد الدين، وكانوا قد ظنوا أنهم قد استراحوا بموته، لكن أملهم تبدد أمام حماسة ابنه وشجاعته، وكانت سنه إذ ذاك تسعا وعشرين سنة، لكنه أوتي من الحكمة والتدبير خيرا كثيرا.
وفي سنة (542هـ = 1147م) وصلت الحملة الصليبية الثانية على الشام بقيادة لويس السابع وكونراد الثالث، لكنها فشلت في تحقيق أهدافها وتعرضت لخسائر هائلة، وعجزت عن احتلال دمشق، ويرجع الفضل في ذلك لصبر المجاهدين واجتماع كلمة جيش المسلمين ووحدة صفهم، وكان للقوات التي جاءت مع سيف الدين غازي وأخيه نور الدين أكبر الأثر في فشل تلك الحملة. استغل نور الدين هذه النكبة التي حلّت بالصليبيين وضياع هيبتهم، للهجوم على إنطاكية بعد أن ازداد نفوذه في الشام، فهاجمها في سنة (544هـ=1149م) الإقليم المحيط بقلعة حارم الواقعة على الضفة الشرقية لنهر العاصي، ثم حاصر قلعة إنب، فنهض "ريموند دي بواتيه" صاحب إنطاكية لنجدتها، والتقى الفريقان في (21 من صفر 544هـ= آخر حزيران يونيو 1149م) ونجح المسلمون في تحقيق النصر وأبادوا الصليبيين عن آخرهم، وكان من جملة القتلى صاحب إنطاكية وغيره من قادة الفرنج وكان فرح المسلمون بهذا النصر عظيما.
نجح نور الدين في ضم دمشق إلى دولته في سنة (549هـ = 1154م) وكانت هذه الخطوة حاسمة في تاريخ الحروب الصليبية؛ حيث توحدت بلاد الشام تحت زعامة القائد التركماني نور الدين محمود زنكي: من الرها شمالا حتى حوران جنوبا، ولاول مرة منذ الغزو الصليبي أحدث الفارس القائد التوازن العسكري بين الجبهة الإسلامية وبين الجبهة الصليبية التي كانت تستغل حالة التشتت والتشرذم، وتوجه ضرباتها إلى دولة الإسلام حتى إن نور الدين لم يستطع نجدة عسقلان عندما هاجمها الصليبيون سنة (548هـ = 1153م) لأن دمشق كانت تقف حائلا دون تحقيق ذلك.
قاد هذا النجاح الكبير إلى تحقيق المرحلة الأولى من توحيد الجبهة الإسلامية أمام الصليبيين وقلصت أمامهم إمكانيات الغزو والتوسع إلا عن طريق الجنوب. ولتنفيذ استراتيجيته العسكرية لفتح بيت المقدس، توجه أولا الى أحكام سيطرته على شمالي العراق والشام كاملة وفي المقدمة منها دمشق بوابة القدس الشريف. وعندما استشرف الصليبيون خطة نور الدين تطلعوا إلى مصر باعتبارها الميدان الجديد لتوسعهم، وشجعهم على ذلك أن الدولة الفاطمية في مصر كانت تعاني سكرات الموت فاستولوا على عسقلان، وكان ذلك إيذانا بمحاولتهم غزو مصر، وتحولت نياتهم إلى عزم حيث قام "بلدوين الثالث" ملك بيت المقدس بغزو مصر سنة (558هـ = 1163م) محتجا بعدم التزام الفاطميين بدفع الجزية له، غير أن حملته فشلت وأجبر على الانسحاب بفضل صمود المقاتلين المسلمين.
أثارت هذه الخطوة الخطيرة مخاوف نور الدين، فأسرع الى شن حملات على الصليبيين في الشام حتى يشغلهم عن الاستعداد لغزو مصر ويضعفهم، ودخل في سباق مع الزمن للفوز بمصر، فأرسل عدة حملات إليها تحت قيادة "أسد الدين شيركوه" وبصحبته ابن أخيه صلاح الدين الأيوبي. اللذان كانا من قواد جيش نور الدين محمود زنكي. ابتدأت جهود نور الدين وقواده للوصول الى مصر، من سنة (559هـ = 1164م) واستمرت نحو خمس سنوات حتى نجحت بعد سباق محموم مع الصليبيين في الظفر بمصر سنة (564هـ = 1169م) وتولى أسد الدين شيركوه الوزارة للخليفة "العاضد" آخر الخلفاء الفاطميين، على أنه لم يلبث أن توفي بعد شهرين فخلفه في الوزارة صلاح الدين الأيوبي.
نجح صلاح الدين الأيوبي في بسط الأمن واستتباب الأمور وتثبيت أقدامه في البلاد، وجاءت الفرصة المناسبة لإسقاط دولة الفاطميين؛ فقطع الدعاء للخليفة الفاطمي ودعا للخليفة العباسي في أول جمعة من سنة (567هـ = أيلول سبتمبر 1171م).
كان لدخول مصر تحت حكم دولة نور الدين محمود دوي هائل، لا في مملكة بيت المقدس وحدها بل في الغرب الأوروبي كله، وارتفعت الأصوات لبعث حملة جديدة تعيد للصليبيين في الشام هيبتهم وسلطانهم، وتوجه لمصر ضربات قوية، غير أن حملتهم على مصر لم تحقق أهدافها ليقظة صلاح الدين الأيوبي في مصر.
وبنجاح نور الدين في ضم مصر إلى جبهة الكفاح يكون قد حقق الحلقة الأخيرة من حلقات الجبهة الإسلامية تمهيدا للضربة القاضية لتحرير بيت المقدس وبلاد الشام من الاحتلال الصليبي، الا ان المنية قد حال أمام تحقيق حلم هذا الفارس التركماني البطل في تحرير بيت المقدس الا انه فتح الطريق واسعا أمام المسلمين بقيادة صلاح الدين الأيوبي لفتح بيت المقدس وطرد الغزاة الصليبيين من بلاد العرب والمسلمين، بعد وفاة القائد التركماني البطل الذي مهد مع والده الطريق لهذا الإنجاز الذي لا يزال التاريخ يتحدث عنه مبهورا.
لم يشغل نور الدين محمود مستلزمات الجهاد العسكري وتوحيد الصف الإسلامي وإنما بموازات ذلك فتح بابا الجهاد العلمي والثقافي التي هي من أهم مستلزمات التحرير . صرف جهودا كبيرة في إقامة المدارس والمساجد حتى بلغت مدارسه ومساجده المئات، لا يخلو منها بلد دخل تحت سلطانه، وكان إذا أنشأ مدرسة أوسع النفقة في بنائها، واجتهد في اختيار شيوخها، وأوقف عليها الأوقاف الكثيرة، وكانت مدارسه تُعنى بالقرآن والحديث والعلوم، وكان له شغف بالحديث وسماعه من جلّة المحدثين، وأجازه بعضهم بالرواية.
وإلى جانب إنشاء المدارس توسع في إقامة البيمارستانات ( المستشفيات) في كل بلدة تحت حكمه، وجعلها للفقراء مجانا والاستعانة بالأطباء والحصول على الدواء، كما حرص على إقامة الخانات على الطرق بين المدن لينزل بها المسافرون للراحة أو للمبيت، وجعل عليها من يحرصها ويحافظ على زائريها.
أما إنجازاته الاجتماعية فقد لخصها أبن عساكر في قوله: "وأدر على الضعفاء والأيتام الصدقات، وتعهد ذوي الحاجة من أولي التعفف بالصلات، حتى وقف وقوفاً على المرضى والمجانين، وأقام لهم الأطباء والمعالجين، وكذلك على جماعة العميان، ومعلمي الخط والقرآن، وعلي ساكني الحرمين ومجاوري المسجدين، وأكرم أمير المدينة الحسين، وأحسن إليه، وأجرى عليه الضيافة لما قدم عليه وجهز معه عسكراً لحفظ المدينة، وقام لهم بما يحتاجون إليه من المؤونة، وأقطع أمير مكة إقطاعاً سنياً، وأعطى كلاً منهما ما يأكله هنياً مرياً، ورفع عن الحُجّاج ما كان يؤخذ منهم من المكس، وأقطع أمراء العرب الإقطاعات لئلا يتعرضوا للحجاج بالنحس، وأمر بإكمال سور مدينة الرسول، واستخراج العين التي بأحد وكانت قد دفنتها السيول، ودعي له بالحرمين، واشتهر صيته في الخافقين، وعمر الربط والخانقاهات والبيمارستانات ، وبنى الجسور في الطرق والخانات، ونصب جماعة من المعلمين لتعليم يتامى المسلمين، وأجرى الأرزاق على معلميهم وعليهم وبقدر ما يكفيهم، وكذلك صنع لما ملك سنجار وحران والرها والرقة ومنبج وشيزر وحماه وحمص وبعلبك وصرخد وتدمر، فما من بلد منها إلا وله فيه حسن أثر، وما من أهلها أحد إلا نظر له أحسن نظر، وحصل الكثير من كتب العلوم ووقفها على طلابها، وأقام عليها الحفظة من نقلتها وطلابها وأربابها، وجدد كثيراً من ذي السبيل وهدى بجهده إلى سواء السبيل .
وبينما كان نور الدين محمود يستعد للسير إلى مصر، فاجأته الحمى، واشتد به المرض حتى لقي ربه عز وجل في (11 من شوال 569هـ = 15 من أيار مايو 1174م) وهو في التاسعة والخمسين من عمره، وكان لموته رجة عنيفة في العالم الإسلامي، وشعر الناس بحجم الخسارة، وعظم المصيبة التي حلت بهم.
وشاء الله تعالى أن تظل سلسلة المجاهدين قائمة، فكلما غاب من الميدان قائد مغوار نهض من بعده فارس أخر ليكمل المسيرة حتى انتهت الراية إلى صلاح الدين الأيوبي فحقق ما كان أمنية في الصدور وخاطرا في العقول وفي المقدمة منهم نور الدين وأباه عماد الدين.
كان نور الدين رحمه الله صالحاً.. صادق الرؤيا.. "رأى النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة واحدة ثلاث مرات، وهو يقول له في كل واحدة منها: يا محمود أنقذني من هذين الشخصين، الاشقرين. فاستحضر وزيره قبل الصبح فأخبره، فقال له: هذا أمر حدث في مدينة النبي صلى الله عليه وسلم ليس له غيرك، فتجهز ـ نور الدين ـ وخرج على عجل بمقدار ألف راحلة وما يتبعها من خيل وغير ذلك، حتى دخل المدينة على غفلة، فلما زار طلب الناس عامة للصدقة، وقال: لا يبقى بالمدينة أحد إلا جاء، فلم يبق إلا رجلان مجاوران من أهل الأندلس نازلان في الناحية التي قبلة حجرة النبي صلى الله عليه وسلم من خارج المسجد عند دار آل عمر بن الخطاب، قالا: نحن في كفاية، فجدّ في طلبهما حتى جئ بهما فلما رآهما قال للوزير هما هذان، فسألهما عن حالهما وما جاء بهما، فقالا لمجاورة النبي صلى الله عليه وسلم فكرر السؤال عليهما حتى أفضى إلى العقوبة، فأقرا أنهما من النصارى ووصلا لكي ينقلا جثمان النبي صلى الله عليه وسلم من هذه الحجرة الشريفة، ووجدهما قد حفرا نقباً تحت الأرض من تحت حائط المسجد القبلي يجعلان التراب في بئر عنهما في البيت.
فضرب أعناقها عند الشباك الذي شرقي حجرة النبي صلى الله عليه وسلم خارج المسجد وركب متوجهاً إلى الشام راجعاً، فصاح به من كان نازلاً تحت السور واستغاثوا وطلبوا أن يبني لهم سوراً يحفظهم فأمر ببناء هذا السور الموجود اليوم.
ذكر الإمام أبو شامة أن العلاقة بين نور الدين محمود زنكي وصلاح الدين الأيوبي رحمهما الله توترت مرتين: الأولى عندما طلب صلاح الدين من نور الدين أن يرسل إليه إخوته فرفض نور الدين والثانية عندما طلب نور الدين من صلاح الدين ان يقدم على راس جيشه من مصر ويلتقيان في عسقلان وتاخر صلاح الدين في الوصول.
وقد أكد ابن الأثير في أكثر من موضع أن السبب في غضب نور الدين من صلاح الدين هو أنه رأى منه ـ أي من صلاح الدين ـ فتوراً من غزو الفرنج من ناحيته، "وكان نور الدين لا يرى إلا الجد في غزوهم بجهده وطاقته". وقال أبو شامة: "ولو علم نور الدين ماذا ادخر الله ـ تعالى ـ للإسلام من الفتوح الجليلة على يد صلاح الدين من بعده لقرت عينه، فإنه بنى على ما أسسه نور الدين رحمه الله من جهاد المشركين، وقام بذلك على أكمل الوجوه وأتمها ـ رحمهما الله تعالى ـ.
بعد وفاة نور الدين ظل صلاح الدين على وفائه لقائده ومعلمه نور الدين، وظهر ذلك في مواقف عده منها:
ـ عندما فتح صلاح الدين بيت المقدس، "أمر بالوفاء بالنذر النوري ـ أي نذر نور الدين ـ ونقل المنبر ـ الذي بناه نور الدين ليضعه في المسجد الأقصى ـ إلى موضعه القدسي، فعُرفت بذلك كرامات نور الدين التي أشرق نورها بعده بسنين" وان نسب المنبر إلى القائد البطل صلاح الدين خطأ تاريخي ينبغي ان يصحح.
ـ لم يذكر نور الدين أمام صلاح الدين إلا وترحم عليه وذكره بالخير، حتى إنه قال إن كل عدل فيه أنما تعلمه من نور الدين.
تعد فترة ولاية نور الدين من أخصب الفترات التي مرت بالمسلمين بعد الخلفاء الراشدين؛ إذ شهدت نمواً كبيراً وطفرة حقيقية في المجالات كافة: السياسية والاقتصادية والعلمية والجهادية، وقد صرح بفضل نور الدين عدد كبير من العلماء والمؤرخين، نقتطف من أقوالهم (الدكتور ماجد عرسان الكيلاني والدكتور عماد الدين خليل وغيرهم) ما يلي:
لقد كان تحرير القدس على يد الناصر صلاح الدين في أعقاب معركة حطين (عام 583 واحداً من الانتصارات الحاسمة التي لم تكن لتتحقق بجهد البطل التاريخي وحده، وإنما بدخول المجتمع المسلم طرفاً في المعادلة وتمهيد متقن من قبل المغوار عماد الدين وابنه الفارس الزاهد نورالدين محمود زنكي.
أن الانقلاب الإسلامي الذي حدث في زمن القائد التركماني عمادالدين زنكي وابنه نور الدين محمود يشبه الانقلاب الذي حدث في خلافة عمر بن عبد العزيز الذ مازال أصدائها تنبعث من التاريخ. "إن الرحلة مع نور الدين يعلمنا كيف يكون الإيمان دافعاً حضارياً، فضلاً عن كونه الأساس المبدئي، أو العامل، الذي يشدّ القيم المبعثرة والإرادات المختلفة الاتجاه، وأعمال الناس ومنجزاتهم إلى هدف محدّد، ويضع لها الإطارات التي تجعل من مجموع هذه القيم والأهداف والإنجازات والأعمال وحدة حضارية متميزة. فهو –فضلاً عن هذا كله- يقوم بوظيفة المحرك، أو الدافع الداخلي، الذي يدفع الإنسان والجماعات، في نطاق الحضارة الواحدة، إلى التقدم دوما بحضارتهم صوب آفاق جديدة ومكاسب أكثر غنى، عن طريق استغلال إمكانات الزمن والمكان إلى أقصى مدى ممكن...".
لقد حقق نور الدين محمود بانقلابيته التي غطت جل مساحات الحياة، واستمداده من منابع الإسلام الأصلية في القرآن والسنة، الأرضية المناسبة التي تبعث المجاهد إلى الوجود وتمكنه من أداء أثره في أحسن الظروف، وأكثرها قدرة على شحن طاقاته، لا سيما وأن الجهاد لا يتحقق مفهومه الحركي الدائم إلاّ بوجود شروط معينة أبرزها: القيادة المخلصة، الملتزمة، الواعية، والتمسك الجماهيري، والدفع الروحي الدائم، والرؤية الموضوعية...".
لم يضحك ولم يبتسم خلال 28 عاما وعندما ذكروا له حديثا نبويا شريفا عن الابتسامة فرد غاضبا: إني لأستحي من الله تعالى أن يراني مبتسماً والمسلمون محاصرون بالفرنج"
قم ايها الفارس البطل وانظر الى حكام العرب والمسلمين اليوم، إنهم هم الذين يجلبون الإفرنج لمحاصرتهم واحتلالهم وإذلالهم، وهم لا يخجلون من الله العلي القدير وهم فرحون يضحكون من الأعماق كلما أذلوهم أكثر.
كاتب من العراق
1 /10/2005
المصادر
1- الروضتين في أخبار الدولتين النورية والصلاحية: شهاب الدين عبد الرحمن بن إسماعيل المقدسي (أبو شامة) - تحقيق [1376هـ = 1956م].
2- شذرات الذهب في أخبار من ذهب: أبو الفلاح عبد الحي بن العماد الحنبلي - مكتبة القدسي - القاهرة [1350هـ = 1930م].
3- عماد الدين زنكي: د. عماد الدين خليل - مؤسسة الرسالة - بيروت [1402هـ = 1982م].
4- مفرج الكروب في أخبار بني أيوب: جمال الدين محمد بن سالم بن واصل - تحقيق: د. جمال الدين الشيال - جامعة فؤاد الأول - القاهرة [1373هـ = 1953م].
حول المنهج في الكتابة التاريخية: تعقيب على كتاب هكذا ظهر جيل صلاح الدين وهكذا عادت القدس. د عماد الدين خليل.
5- المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار: تقي الدين أحمد بن علي المقريزي - دار صادر - بيروت [د. ت].
6- نور الدين محمود (رائد نصر المسلمين على الصليبيين): د. حسين مؤنس - الدار السعودية للنشر والتوزيع - جدة [1408هـ = 1987م].
7-عماد الدين زنكي.. خدم الإسلام وقتلته الباطنية (في ذكرى استشهاده: 6 ربيع الآخر 540هـ سمير حلبي
8-السلطان العادل نور الدين محمود زنكي . نزار محمد عثمان شبكة مشكاة الإسلام
9-نور الدين محمود لـ د. عماد الدين خليل.
10-تأريخ دمشق لابن عساكر.
11- مختصر كتاب الروضتين في أخبار الدولتين لأبي شامة، اختصار د. محمد بن حسن بن عقيل: 140.
12- نور الدين محمود و تجربته الإسلامية د. عماد الدين خليل
13- البداية و النهاية لابن كثير: 12/ 278.
14 التاريخ الباهر في الدولة الأتابكية لابن الأثير: 165.
15 مرآة الزمان في تأريخ الأعيان الزمان لسبط ابن الجوزي: 8/315.
16- بدائع الفوائد:3/747.
17- المواقع الالكترونية إسلام اون لاين. الفسطاط. التاريخ. مشكاة الإسلام. نداء الإيمان
18- نور الدين محمود زنكي (في ذكرى مولده: 17 من شوال 511هـ) أحمد تمام.
19- تاريخ ابن خلدون/ الجزء الثالث ص 147 إلى 258.
المصدر
http://www.syriapath.com/forum/showthread.php?t=27992