الحاجز ..
قصة قصيرة
بقلم ( محمد فتحي المقداد )*
فاجأ سائق الباص الركاب بإطفاء محرِّك المركبة، قبل الحاجز بكثير، فاتخذ مسافة عدّة أمتار عن آخر سيارة تصطف في الطّابور، بانتظار دورها في التفتيش، لاجتياز الحاجز اللعين، فلا رحمة لكبير أو صغير .. ولا لشيخ أو امرأة، مزاج العسكري هو الذي يتحّكم بالموضوع.
الحرارة تكاد أن تتجاوز الأربعين درجة، النوافذ مشرعة، و الباب مفتوح، سكون عجيب لنسيمات الهواء التي يتمنَّوْنها لاسترداد أرواحهم ، روائح التعرّق تمتزج بأنفاسهم، فتصدر خلطة عجيبة كانوا مجبرين على القبول بها، فالتأفف لا ينفع، وعقارب الزمان توقفت عند هذا الحدّ.
شابٌ ينظر إلى ساعته مطلقاُ تأففه :" أوف .. أف .. – بكلام مُغَمْغَمْ - ساعة مضت على توقفنا هنا"، يمسح العرق عن جبينه، ويعيد ترتيب نظارته السوداء، يتابع كلامه بسؤالٍ للسائق :" هل تعتقد أننا سنـتأخر كثيراُ.. ".
- السائق – يتنحنح نافثاً دخان سيجارته - :" إن شاء الله، لا ، هاهي السيارات تتقدم، بالصبر سنَصِلْ بأمان، نصحيتي أن تُبرِّد على أعصابك، إن بقي منها شيء، هذا قدرنا ولا مفر ..".
أعمارنا تتكسر على نِصَال عقارب الساعة، بلادنا غارقة في مجاهل بدائية، لا تعترف بقيمة الوقت، وهاهي حجارتنا تحطّم سيف الوقت بدم بارد.
طفلٌ يتلوى بين يديّ أمه، تهدهده وتهفّ عليه بدفتر العائلة، هواء حار يلفح وجهه الذاوي، تخرج ثديها فَتُلقمه إياه، وتغطي رأسه بمنديلها .
دخانٌ منبعثٌ من الجالسين في الكرسي الأخير، تتكوّم السُّحُب في جو مشحون باليأس المُمِلْ، موظفتان لم تنقطع ثرثرتهما، عن الجارات، و غداء اليوم المطبوخ ليلاً، شخيرُ أحدهم يأتي لتزداد حالة القرف و التذمر.
شابان دون العشرين، يحتضن أحدهما قفصاً يختفي مع محتوياته داخل كيس، استنشقوا أنفاسهم بارتياح، على صوت محرك الباص، وانتقاله إلى الأمام ليصبح أمام الحاجز مباشرة، السائق يطلب من الجميع تهيئة بطاقات هوياتهم وإيصالات الكهرباء المدفوعة حديثاً، لتجنب المزيد من التأخير، غمرتهم حالة من النشوة، فقد أخذ منهم التعب كل مأخذ، قتل فيهم الإحساس بالوقت.
***
تقدم عسكري للتفتيش، واضعاً جُعْبته على صدره، وعلى كتفه بندقيته، وعلى مسافة أمتار قليلة يقف عسكري آخر كمؤازرة إذا ما حدث شيء ما.
جمع السائق بطاقات الهوية مع إيصالات الكهرباء‘ وقام بتسليمها للعسكري الواقف من جهته،وقال له : " تفضل سيدي، لكنها ناقصة وصلاً واحداً، فذاك الشاب ليس معه وَصْله ".
نظر العسكري إلى الشاب بنظرة شزرة عابسة يتطاير الشرر منها، وقال : " ألا تعرف أنني سأعيدك من حيث أتيْت ولا أسمح لك بالمرور – هزّ رأسه كأنه يتوعده ، وأمره بخلع نظارته السوداء– ".
الحيرة تصيب الشاب، ويتلعثم لسانه : " سيدي – و الله – لا عِلْمَ لي بالأوامر الجديدة، كما أنني قدمتُ من دمشق، قاصداً مدينتي من أجل إجراء معاملة تأجيل دراسي في شعبة التجنيد، واستخراج قيد سجل مدني، من أجل التسجيل الجامعي" .
- " اخرس .. اخرس .. بلا علاك فاضي ".
بلع الشاب ريقه بصعوبة، وبدت ملامح الغضب المكبوت على وجهه المتورد، خجلاً لهذه الإهانة أمام الآخرين، رانَ صمتٌ ثقيل على الأجواء، بينما العسكري توجه للخيمة لفحص أسماء الركاب على اللابتوب، ومطابقتها مع قوائم المطلوبين، أمام الخيمة يربض رامي الرشاش خلف سلاحه متأهباً، وقريباً منه الحراس كل يتخذ زاوية تشرف على الميدان.
***
صراخ حاد صدر عن إحدى الموظفتين، انقلب الصمت إلى ساحة معركة، وبدأ كل حارس يطلق النار بشكل عشوائي، يخرج ضابط من الخيمة بملامحه الغاضبة صارخاً : " ما بكم ، وما الذي حدث؟". صوت جماعي للعساكر :" سيدي، صراخ في الباص ".
بينما انفلت باب القفص، خرج الجرذ الأبيض، الذي يستخدمه الشاب لسحب أوراق الحظ للراغبين، فيحصل على معاشه من ذلك، تلقى الجنود أمر الضابط بتطويق الباص وتفتيشه، بينما ينتهي هو من مطابقة الهويات.
- العسكري : " من الذي صَرَخ , وأحدث تلك الضجة؟ ألا تعلمون أنكم صدَّعتْم رؤوسنا".
- الموظفة :" سيدي ، جردون تسلق على رجلي، وحاول قرض كُنْدَرَتي ".
انخرط العساكر بنوبة ضحك هستيرية، آذانهم غير مصدقة ما سمعوه من السيدة الموظفة، كبير العساكر، يرفع حاجبه متعجباً ": من أين جاء الفأر إلى الباص؟ يا للغرابة ..!! هيّا انزلوا على الأرض، وابتعدوا إلى هناك، هيا بسرعة ".
***
جرت عملية تفتيش دقيقة للباص، وكاد أن يختفي أثر الجرذ، إلا أن أحدهم أدخل الحَرْبَة الموصولة بمقدمة البندقية، في فتحة صغيرة تحت كرسي السائق، ليخرج الجرذ مذعوراً، صرخ العساكر : " اقتله .. انتبه " هرب باتجاه الأرض، صوّب أحدهم رصاصة لتخترق الجرذ, وتخرج منه لتستقر في دولاب الباص الأمامي، ينزّ دمه بقطرات على الباب الأيمن ويرسم لوحة كئيبة بسريالية حزينة، تضاف إلى الدم السوري المهدور. ويأتي دور الشاب صاحب الجرذ، ليأكل نصيبه من الصفع و الرّكل، والضرب بأعقاب البنادق من المفتشين، وقع أرضاً ونزف الدم من أنفه، حملوه للباص فاقد الوعي. خرج العسكري من الخيمة ونادى على الشاب صاحب النظارة السوداء:" تعال بسرعة ". داخل الخيمة وقف أمام طاولة الضابط الذي راح يستجوبه عن اسمه ومواليده واسمَيْ والده ووالدته، ثم تحوّل لسؤاله عن مشاركته بالمظاهرات، نفى الشاب نفياً قاطعاً أي اشتراك له بالمظاهرات، ثم التقط له الضابط صورة بواسطة ( كام اللابتوب ) كي يقارنها بالصور المخزنة عنده، - مستخدماً برنامج عارض الصور بيزاكا الذي يصنف الوجوه حسب نقاط التشابه – بعد لحظات من عمليات البحث و المطابقة، أمره بالانصراف. خلال هذه الفترة قام السائق بتبديل الدولاب الذي اخترقته الرصاصة، وانطلقوا إلى وجهتهم.