إذا دعاكم لما يُحْييكم !ومن النكت البديعة أن تختم الآية القرآنية (يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم ) [سورة الأنفال24] تختم بقوله تعالى : ( واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه وأنه إليه تحشرون) [سورة الأنفال24] إذ أبانت الآية أن (من سنة الله تعالى في البشر الحيلولة بين المرء وبين قلبه الذي هو مركز الوجدان والإدراك ذي السلطان على إرادته وعمله .. وهذه السنة القلبية من سنن الله تعالى في الإرادات والأعمال، وهي أعجب جمل القران ، ولعلها أبلغ في التعبير وأجمعها لحقائق علم النفس البشرية ، وعلم الصفات الرّبانية ، وعلم التربية الدينية ) [أنظر: تفسير المنار 9/632] ومعنى قوله تعالى : (يحول بين المرء وقلبه )أي( يُميته فتفوته الفرصة التي هو واجدها ، وهي التمكن من إخلاص القلب ومعالجة أدوائه وعلله ورده سليما كما يريده الله تعالى ، فاغتنموا هذه الفرصة وأخلصوا قلوبكم لطاعة الله ورسوله .. وإلا فإنّ الله تعالى قد يملك على العبد قلبه فيفسخ عزائمه ويغير نياته ومقاصده ) [ الكشاف للزمخشري 2/204] وعليه تكون هذه الآية الكريمة دعوة لكل ذي قلب ذكيّ ، أوفهم سويّ ، أو جسدٍ قويّ ، أو قلم نزيه بَـهيّ ، أو ذي مال غنيّ ، أو سلطانٍ عتيّ ، أو ذي مُلْكٍ عَلِيّ أن يسخر ما أنعم الله به عليه وما حباه ، في نصرة دينه والذود عن قضاياه ، وفي خدمة وطنه وصَوْنٍ حماه ، مغتنما تقلبه بنعمة مولاه ، من قبل أن تلحق به السنن الإلهية؛ التي كشفها المولى عز وجل في سياق حضه لعباده على الاستجابة له ولرسوله فقال: ( واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه وأنه إليه تحشرون)[ سورة الأنفال24] فكل من واتته الفرصة للاستجابة لله والرسول بمناصرة الخيار الذي ارتضاه لعباده فتوانى فلا يأمننّ إحاطة هذه السنة به .
2/2
وفي ظلال هذه السنّة الربانيّة النفسيّة الجارية كم مِن قلبٍ ذكيّ آل أمره إلى عِيّ ! وكم من صاحب فهمٍ سويّ أصابه غرر! وكم من جسدٍ قويّ دبّ فيه الخَوَر! وكم مِن قلم بهيّ كان خصباً فافتقر ! وكم من ذي مال غنيّ حلّت بماله داهية فاندثر ! وكم من صاحب مُلك عتيّ اهتز ملكُه واندحَر ، وكم مِن هؤلاء جميعاً أو مِن غيرهم مَن رُخِي له في خُطامِهِ فتعثر في فضلِ زمامِهِ ! فلم يبق من ذلك كلّه إلا ما ادّخره في أيّام عنفوانهِ، ليجده يوم القيامة في صحائفه وميزانه!
ومن جهة أخرى : فإنّ هذه السنة تغرس في النفس البشرية ثلاث ركائز إيجابية ومقامات إيمانية بـهية ألا وهي : المبادرة والمراقبة والترجية [ أنظر تفسير الثعالبي 3/124]
فمقام المبادرة يُستشف من كون الآية الكريمة فيها تحضيض على الاستباق إلى خير الأعمال ، والمسارعة فيها والاستعجال ، فلا تلكؤ إذن ولا تثاقل في مناصرة هذا الخيار الذي فيه حياتهم ؛ خيار الانقياد للإسلام والذود عن حماه ، والدفاع عن قضاياه بالنفيس والرخيص ،ذلك أنّ الله تعالى يحول بين المرء وقلبه إما بالموت والقبض فيكون هذا متناغما مع قوله تعالى في تتمة الآية (وأنه اليه تحشرون) أو يحول بين المرء وقلبه بتغيير مقاصده وبتّ نواياه فيكون هذا متمشيا مع قوله تعالى(فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم) [ سورة الصف 5 ]
كما يتجلى في الآية مقام المراقبة ؛ إذ تم إعلامهم أن قدرة الله تعالى وعلمه وإحاطته حائلة بين المرء وقلبه ، وذلك فيه حضّ على المراقبة والخوف من الله المطلع على الضمائر ، فحذار أن تنطوي النفس على تنكّبٍ لهذا الخيار ، وتنكّرٍ لهذا الدرب والمسار ، فسوف تقرع ساحتها النواميسُ والأقدار ، فتضحي عُرْضة لتقلب القلوب والأبصار ، فهذه سنة ربانية مفهومة ومن قديم الزمان معلومة؛ قال تعالى : (ونقلبُ أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون) [ سورة الأنعام 110]
وثمّ مقام الترجية ؛ إذ يُستشف من الآية الكريمة أن الله تعالى قادر على أن يبدّل الخوف الذي في قلوبهم من كثرة عَـدَدِ عدوهم وعُدَده فيجعله جراءة وقوة ، وبضد ذلك للكفار ؛ ذلك أن الله تعالى مقلب القلوب وفي ذلك يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم : ( إن قلوب بني آدم كلها بين أصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرّفه حيث يشاء ، ثم قال صلى الله عليه وسلم : (اللهمّ مصرّف القلوب صرّف قلوبنا على طاعتك) [صحيح مسلم رقم 2654] لذا كان أكثر دعائه – عليه الصلاة والسلام – ( يا مقلّبَ القلوب ثبّت قلبي على دينك ) [سنن الترمذي رقم3522] وعن عبد الله بن عمر – رضي الله عنهما – قال : ( كانت يمين النبي صلى الله عليه وسلم : لا ومقلّب القلوب ) [ صحيح البخاري رقم6243]
في ضوء ذلك يكون في السنة الربانية الدائرة في فلك الاستجابة لله والرسول نصيب ، لكل عبد منيب ، أو معتد مريب ؛ ذلك أن المرء إما أن يكون مستجيبا لله ولرسوله فعليه أن يستمسك بما هو عليه، ويستعصم لكيلا يأفل نجمُه عن ميدان الاستجابة والاستقامة ويغيب ، وإما معرضا عن الاستجابة لله ولرسوله فيلزمه التعجيل بمراجعة نفسه ومحاسبتها من قبل أن يضل سعيُه ويخيب ..
هذا وسيظل النداء القرآني يصدع بالدعوة إلى الاستجابة لله وللرسول وبها ينصح قال تعالى : ( يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم ) [ سورة الأحقاف 31] في حين يقرع المناوئين لها الغافلين عنها ويفضح (ومن لا يجب داعي الله فليس بمعجزٍ في الأرض وليس له من دونه أولياء أولئك في ضلال مبين) [سورة الأحقاف 32] .