كيف تعمل على جذب عدوك؟
أن تصنع له مصالح معك.
وكيف تجعله سفيرك عند ذويه أعدائك وتقلبه عليهم؟
أن تعظِّم هذه المصالح؛ فـ"الغرض مرض" و"سمن كلبك يتبعك" و"المصلحة رابطة تفوق كثير من الروابط كرابطة الدم والوطن".
وكيف يتمكن ذلك لك؟
إذا كنت غالبا؛ فالمغلوب ينبهر بغالبه ويحاكيه كما قرر ابن خلدون، وكما يدل استقراء الواقع المشاهد المعاش.
(2)
لماذا هذه المقدمة؟
لأنني أراها السبب الرئيس لإشاعة هذا النوع من الأدب العلماني المنتشر المتمكن الذي يمثل جزءا من سلسلة ولاءاتنا للغرب ومنظومته الثقافية والاجتماعية و... إلخ.
كيف؟
تعرضت الأمة الإسلامية في شقها العربي وشقها غير العربي لاحتلال غربي نصراني وإلحادي، وكان من أثر هذه الصدمة أن رأى بعض الحكام أن يصطنعوا وسائل المحتل ذاتها؛ ليتغلبوا عليه، أو ليلحقوا بركب التقدم كما تقدم هو، زعموا ذلك. أرسلوا البعثات واستقدموا الخبراء، فجاءت وجهة نظرهم في الحياة وحكمهم على الأشياء وأشيعت.
ثم ...
ثم تمكن المحتل ورسم للأمة الإسلامية واقعها الثقافي والتعليمي والسياسي والاجتماعي والفكري والتعبيري، وملك أمر وزارات التعليم كما حدث في مصر حيث رسم دنلوب أمر السياسة التعليمية التي ما زالت منتشرة إلى لحظتي هذه من جعل التعليم يخرج موظفين يؤدون خدمات لا مبدعين يرتقون بأمتهم، ومن إقصاء الدين عن تشكيل حياة الناس، و... إلخ.
ماذا حدث؟
(3)
كان التعليم الأزهري هو التعليم المتاح، فبدأت المناداة بإنشاء تعليم جديد ينبني على علوم الغرب كما هي عند الغرب لا كما تحتاج إليها مصر المسلمة، وأنشئت الجامعة المصرية بعد إنشاء المدارس العليا وما قبل العليا بأساتذة غربيين، ولحق بهم تلامذتهم المصريون بعد أن تربوا على أيديهم وتخرجوا بثقافاتهم ونظرتهم إلى الحياة وأشيائها.
ازدوج التعليم في مصر، وأُبْقِي الشق الأزهري الديني بعيدا عن الشئون العامة وصبغها، وأُدخل الشق الغربي الجديد في الشئون العامة وصار منهم المسئولون عن أمر البلاد فصبغوا البلاد والعباد بالصبغة الغربية التي تربوا عليها.
وبدأ استنكار الناس على من يحاول من المشايخ أو المتخرجين في الأزهر أو غيرهم ممن يحاول محاربة النظرة الغربية غير المسلمة وصبغها حياة المسلمين.
ما معنى هذا؟
معناه أن الدين كان قد أُقصي في أذهان هؤلاء عن الحياة، وأُبقيت له دائرة العبادات التي بين المرء وربه في المساجد.
لماذا؟
لأنه أُقصي عند الغرب الأساتذة والمعلمين نتيجة أحوال تخصهم اعتبروا الدين بسببها عدوا لهم، فأقصوه ورفعوا شعار "اقتلوا آخر ملك بأمعاء آخر قسيس".
تشبع وجدان الشعب نتيجة لتشبع وجدان ملوكهم وحكامهم بذلك، فانتشرت قيم الغرب في الحياة بمختلف صورها.
كيف؟
(4)
هل اكتفى المستخرب الذي يسمونه زورا بالمستعمر بسيطرته على التعليم وبث نظرته للحياة والأشياء من خلاله؟ هل اكتفوا بالتعليم الذي قيل عنه: كان يكفي الإسكندر الأكبر أن ينشئ مدارس يدرس فيها وجهة نظره فيحقق سيطرته على العالم بدلا من حروبه التي خاضها للغرض نفسه؟
هل اكتفوا بذلك في تشكيل وجدان الناس العملي اليومي الذي يعالج جزئيات يومهم المعاش؟
لا.
كيف؟
لقد أدخلوا الصحافة، وشجعوا النصارى على نشرها بالقيم الغربية، وعندما دخلها المسلمون كانوا قد شربوا الحرفية الغربية، فمارسوها كما يمارسها غيرهم وكأنها علم تجريبي لا يتأثر بجنسية العالم ولا دينه ولا فلسفته.
لماذا؟
لأن هذه سمة المستورد المغلوب أن يستورد الآلة كما يراها الغالب لا كما يحتاج إليها المغلوب.
وأدخلوا التمثيل، وأدخلوا الأدب، و... إلخ.
وليست هذه الأشياء إلا أوعية تحمل المضامين التي يريدها مالئها.
فماذا ملأها المصريون والعرب والمسلمون؟
ملأوها بما استوردوها به كما أشرت قبلا في مقال "لمحة عن المصدر والموضوع وبعض المفاهيم"، وتحقق ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم في علاقتنا بهم التي تؤدي إلى ابتعادنا عن ديننا بمقدار قربنا منهم وسيطرتهم علينا.
ماذا قال؟
(5)
ورد في صحيح مسلم وغيره أن الإسلام سيعود غريبا:
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادٍ وَابْنُ أَبِي عُمَرَ جَمِيعًا عَنْ مَرْوَانَ الْفَزَارِيِّ، قَالَ ابْنُ عَبَّادٍ: حَدَّثَنَا مَرْوَانُ عَنْ يَزِيدَ يَعْنِي ابْنَ كَيْسَانَ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بَدَأَ الْإِسْلَامُ غَرِيبًا، وَسَيَعُودُ كَمَا بَدَأَ غَرِيبًا فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ!
وورد في مسند الإمام أحمد توضيح من هم الغرباء:
حَدَّثَنَا حَسَنُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ، حَدَّثَنَا الْحَارِثُ بْنُ يَزِيدَ عَنْ جُنْدُبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ- أَنَّهُ سَمِعَ سُفْيَانَ بْنَ عَوْفٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِي قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ وَنَحْنُ عِنْدَهُ: طُوبَى لِلْغُرَبَاءِ. فَقِيلَ: مَنْ الْغُرَبَاءُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: أُنَاسٌ صَالِحُونَ فِي أُنَاسِ سُوءٍ كَثِيرٍ، مَنْ يَعْصِيهِمْ أَكْثَرُ مِمَّنْ يُطِيعُهُمْ.
وكذلك عند سنن ابن ماجه ومسند الإمام أحمد وسنن الدارمي تأكيد أن هؤلاء الغرباء قليلون:
حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ وَكِيعٍ، حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ عَنْ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ الْإِسْلَامَ بَدَأَ غَرِيبًا، وَسَيَعُودُ غَرِيبًا فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ! قَالَ: قِيلَ: وَمَنْ الْغُرَبَاءُ؟ قَالَ: النُّزَّاعُ مِنْ الْقَبَائِلِ.
ولنا أن نسأل: ما سبب هذه الغربة؟
ويأتينا الجواب من رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه البخاري وغيره:
حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ، حَدَّثَنَا أَبُو غَسَّانَ قَالَ: حَدَّثَنِي زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ قَبْلَكُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ، حَتَّى لَوْ سَلَكُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَسَلَكْتُمُوهُ! قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى؟ قَالَ: فَمَنْ.
صدقت يا رسول الله، صدقت؟
كيف؟
(6)
إن المسلمين الآن يسعون ويبذلون المال والجهد ليسمح لهم الغرب النصراني واليهودي بأن يتبعوهم باختيارهم بعد أن سيطر الغرب الكافر على العالم وصارت وجهة نظره هي المعتمدة في كل مجال.
كيف؟
لقد صار العالم قرية واحدة أو أقل، وينبغي أن يصبغها الغرب بصبغته في كل مجال، وغير مسموح للمسلمين أن يشاركوا بصبغتهم بل عليهم أن يذوبوا في العولمة ونموذجها الغربي في السياسة التي يسيطر على سوقها من خلال المؤسسات السياسية العالمية لا سيما الأمم المتحدة ومؤسساتها وما يماثلها كالجامعة العربية وغيرها من تجمعات ينصب أداؤها على الجانب النظري العملي الذي يبني بناء حقيقيا.
وصار له محبون لا يرون الحياة إلا بما يراه في مجال الصناعة بشهادات الأيزو التي يمنحها، وبغير ذلك من وسائل وأدوات يعرفها الكثيرون.
ويعتنق هذه الوجهة كثيرون من مختلف البيئات الاجتماعية والثقافية قديما وحديثا؛ فقد رغب الخديو إسماعيل في جعل مصر قطعة من أوروبا، وقد رفع سلامة موسى لواء ذلك في ثلاثينات القرن العشرين، وقد دعا عبد العزيز فهمي عضو مجمع اللغة العربية بمصر إلى كتابة اللغة العربية بالحرف اللاتيني وحارب كل من يدعو إلى تثبيت النظرة الإسلامية في الحياة في نواحيها المختلفة، و... و... إلخ.
وصار الشباب يرفعون الرمز الأجنبي على الرغم من وجود مثاله في الإسلام؛ فصُوَر جيفارا على القبعات والملابس على الرغم من وجود أعلام النضال المسلمين قديما وحديثا، وتأثير المغنين والمغنيات واللاعبين واللاعبات لا يخفى على ناشئة المسلمين.
(7)
إذا، الإسلام الآن غريب في شئون الحياة الاقتصادية والثقافية والاجتماعية والسياسية والأدبية و... إلخ، ومطلوب أن نحاول أن نصبغ هذه الحياة بصبغة الإسلام، فهل ننتصر على ضعفنا ونتبع ديننا الذي هو رمز عزنا وسبب نهضتنا؟
أدعو!