الغربة و الأمل يلتقيان
على حجر بكره
للشاعر وحيد وصفي
بقلم / عاطف الجندي
****
وحيد وصفي هو أحد الشعراء الشبان المتميزين فى العامية المصرية و قد صدر له ديوانان الأول كتاب بعنوان ( حياة الأنبياء ) و هو مكون من قصة و شعر للأطفال و الذى صدر فى 2001 م و هو بالفصحى و الثاني بعنوان ( كلمات من دفتر بايت تحت المطرة ) و هو باللهجة العامية المصرية و صدرت منه طبعتان الأولى فى 1991 م و الثانية فى 2008 م و نحن الآن أمام ديوانه الثالث و هو باللهجة المصرية و هو بعنوان ( على حجر بكره ) و الذى صدر عن سلسلة مطبوعات الفجر التي يشرف عليها د يسري العزب و الذى قدم للديوان أيضا و الديوان يقع فى مائة و ثماني ورقة من القطع المتوسط و يحتوي الديوان على ثمانية عشر نصا شعريا و أهدى الشاعر الديوان إلى سنوات الغربة و ما أثمرت و يقصد بسنوات الغربة تلك السنوات التى قضاها بعيدا عن الشعر و عن ندواته الشعرية و التى كتب فيها مجموعة هذه القصائد التى يعود بها بعد فترة غياب طويلة شاعرا يقف على أرض صلبة و إذا تحدثنا عن الشاعر دمث الخلق و الإنسان الذى تشعر فيه بالطيبة النادرة فى هذا الزمان نجده حادا تارة فى عواطفه و مسترسلا مرة أخرى و هو يتحدث عن معشوقته الأولى و هى مصر و قد يأتى الحب فى صورة القصيدة التى هى المعادل الموضوعى للحبيبة الوطن أو الإنسانة
و فى هذا الديوان تطالعنا قصيدته الأولى ( عايز تطول البصًّه ) يقول : " وحشاني
الخوف بيكبر جوه قلوبنا
كتير أسوار
و ساعات بتدوب
فى شفايف كلمه بلاد
و أنا و أنت ِ سكوت "
و كأنه يخاطب حبيبته القصيدة فى أول كلمة بقوله وحشانى و بأن غيابه قد طال و لكن الخوف دائما هو ما يقف حجر عثرة بين المحب و حبيبه و قد يكون الخوف هنا هو المعادل الموضوعى للبعد فالخوف على لقمة العيش أو الخوف من أياد ٍ تبطش هو ما يجبر شاعرنا على البعد القسري عن محبوبته الأنثى أو المحبوبة الرمزية و هى القصيدة و نراه متألقا حين يكتب : " القلم الواخد ع الأحزان
بقى شاعر تانى
أزاى كان قابل يبقى أسير
أكوام المال ؟! "
و هنا يقر بأن بعده عن الحياة الثقافية من أجل العمل و من أجل المال - و هو الذى يعمل فى أحد البنوك – و يختم قصيدته بقوله : "أنا و أنت ساعات
و مفيش تكليف
إذا كان ولابد
يكون بالهمس كفايه
عشان الوش
تطول بصته للوش
و تفضل جوه القلب حاجات
لو عدى العمر
تعيش مرفوعة الراس "
و فى هذا الجزء الختامى للقصيدة كما نرى يطلب من محبوبته أن يكون حديثهما بالهمس و هذا هو حال الشاعر الذى يفيق من غيبوبة جمع المال ليعود سليما معافا إلى درب الشعر 0
و فى قصيدة ( و حتى الشمس كدابة ) نجد حوارية جميلة بينه و بينه نفسه ، فها هو يعود إلى ذكرياته القديمة التى كان يحلم فيها بأن يصبح شيخا لطريقة أو نبيا و لكنه لم يكلف نفسه عناء البحث عن تحقيق هذا الحلم فيقول " ريحة بكا ماليه المكان
و مغلغلة جوه الحيطان
و مكمكمه
دى ريحتنا و لا
ريحة الوجع القديم ؟
و لا دى ريحة حد
موش عاوز يعافر؟ "
و نجد أن سنوات البعد عن الندوات جعلته يرجع بخوف و شك فى الأشياء و هو بصدق يتحدث عن ذلك فيقول " كان الكلام
إن البراءة مشكلة
و أما التحمت
صبحت شاكك
فى طلوع الشمس أصلا "
و يزداد شكه فى كل الأشياء فيقول :
" لمبة نيون دى
و لا شمس مدغمسة ؟!
لقمة بحليب و لا بدم مغمسة ؟! "
و فى قصيدة ( من حكم فى ماله ) و هذا الاسم طبعا من مثل عربي معروف و تكملته.. ما ظلم ، و فيها يتحدث الشاعر عن الذين باعوا مصر ، بالرغم من أنهم يملكونها و يقصد بهم الأغنياء الذين يتحكمون فى مصير هذا البلد الطيب فهم أول من يبيعونها و يقبضون الثمن و مع ذلك لم و لن يستطيعوا أن يحرموا شاعرا من التغني بحبها أو من ابن لها يحبها و يدافع عنها فنراه يجسد الغربة بينه و بينها و بأنها للغرباء و اللصوص و مع ذلك يذوب عشقا فى حبها فيقول :
" مش بتاعة حد فينا
شوك غريب نامي
ما بين أيدها و أيدينا
لو حاولنا ف يوم
نحوش غرقتها 000 نغرق
و إن قدرنا بقت بتتطاول علينا ! "
و رغم ذلك يحبها شاعرنا وحيد وصفي و رغم أنهم أشتروها و يقصد بهم أصحاب النفوذ و الجاه فى هذا البلد يتسائل فيقول : " واشتروها أزاى
و هى اللى ف ضميرنا
يعنى ليهم جوه منى حته مِلكْ
أى أن الحبيبة الوطن موجودة فى قلبه و تسرى مسرى الدم فى عروقه حتى أنه لا يعرف أى حتة هى فيقول برومانسية عالية " أنهى حته ؟!
اللى امتلكها اللى اشترى
راح ياخدها منى بالخوف
يا ترى ؟!
و لا راح يمنعنى أغني ؟!
و لكنه يصر على التغني بمحبوبته متمسكا بحبه لها ، رغم ما حدث و سيحدث له و يعلن عن موقفه فيقول :
"طب هاغني
غصب عنه و غصب عني
و اللى باع يرجع فى بيعته
و اللى شال يخسر بشيلته "
و فى قصيدة ( كل ما ليلك يطول ) يأخذ أحزانه لليل و البحر و الرمل و يشتكى همومه لهم و هى قصيدة تعبر عن مرحلة فى حياة الشاعر دخلتها الأحزان و الهموم فذهب إلى البحر و من منا لا يفعل ذلك للإستجمام و غسل الهموم فى ماء البحر و التشبع بيود الصفاء و فى هذه القصيدة يذكرني برائعة عبد الحليم حافظ فى يوم ، فى شهر ، فى سنة و لكنه هنا أستبدل المفردات بالليل و الموج و الرمل و يؤكد على صداقته لهم فيقول :
" الناس هنا بتسافر 000
الشنطة اللى تفضى متترميش
مع إن آخر الصمت صوت
و الموج و أنا و الليل صحاب
و التيه فى حضن الناس ضباب
تستاهل الرحلة التعب "
و نراه رائعا فى وصفه للحظه صفاء يسترجعها مع محبوبته وقت الهناء السابق فى قوله :
" حضن الحبيبة يضمنى بالدندنة
و اتمشى فوق سطح السهر "
و يصف نفسه بأنه كالفراشة فى حبه التى تقذف نفسها فى النار و لكن الفرق بينهما بأنه يقذف نفسه فى النار بخاطره و برغبته الملحة فى الانتحار و الانتحار هنا هو حب الحبيبة و لكن يطمئن قلبه فى النهاية بأن الليل مهما يطول لابد أن يأتيه قمر يزيل غمة لياليه 0 و نراه يسهر فى قصيدة أخرى و المفارقة هنا أن نجد هذا السهر مع زجاجة و هذه الزجاجة ليست خمرا كما نرى فى أفلامنا العربية و هو مشهد متكرر و لكنها زجاجة دموع و ذلك فى قصيدة ( حلم الغياب ) و هو سهر المحب الغارق فى خياله و الذى يقضى ليله فى البكاء على هجر حبيبته ، بل و يملأ زجاجات من الدموع و كلما أشتد به البكاء ، فإنه يفوق من وهمه رويدا رويدا و رغم لجوئه للسجائر حتى أنه يشرب خمسين سيجاره يوما و كأنه ينتحر لما كابده من حب عشر سنوات بدون طائل فيقول : " آدى كمان ليله
لا عارف تتسطل
و لاجاك نعاس
و المصيبة أن أنت فايق
و الصداع خمسين سيجارة ليلاتي "
و يعاتب نفسه فى نهاية قصيدته الجميلة فيقول :
" كلامك المحشور ف حلقك
صوت و بيزلزل ضلوعك
قصتك لما اتحكت
سالت دموعك
و القزازة اتدلدقت
على حجر بكره "
و فى قصيدة ( كلام الليل لوش الفجر ) يواصل شاعرنا رومانسيته العالية التى لا نحس من خلالها بأى خروج عروضي أو نغمة نشاز أو جملة صادمة و الشاعر وحيد وصفى هو شاعر أخلاقى بالدرجة الأولى فهو لا يكسر التابوهات أو يدخل فى جدل عقيم مع غيره مهما حدث له و تتوالى صوره الرائعة فيقول " الطريق أصبح طويل
محتاج شنط و ننام له بدري
محتاج أحس إنى ف طريقى
للرجوع "
و الغريب أن نجد المفردات الريفية كالثور و الساقية و مفردات الطبيعية كالأشجار و العصافير بكثرة لديه و هو ليس ريفيا و كأنه يقول لنا : أنا موجود فى كل مكان حتى و لو كنت من مواليد المدينة 0
و يواصل فى قصيدة صفين شجر الإتكاء على ذكريات الطفولة و الصور التى تتغنى بجمال الطبيعة كصفين الشجر مثلا 0
و فى قصيدة ( ثمرة لسنوات الغياب ) و هى القضية التى دائما ما تشغل بال شاعرنا وحيد وصفى فبعد مدة غياب طويلة عن الندوات و التواجد الأدبي فى الساحة نراه يتحدث عن أن الشعر فاض به و بأنه لابد من رجوعه للوسط الأدبي فيقول
" الصوت بيملا الكون ف عز الفجر
و التهنين حنان
قربت تتكلم كلام
و خلاص بقى قربت تبقى لى العصايه "
و هو يخاطب الشعر هنا و بأنه سبيله للرجوع و بأنه العصا التى يتوكأ عليها و بأنه مستعد لأن يكون للشعر المداس الذى يحاول أن يحميه من الطوفان من شده حبه للشعر و يخاطب الشعر كصديق عزيز يسامره و يستأذن منه فى الذهاب للنوم بأسلوب رائع فيقول : " أنا بوعدك وسط الطوفان أبقى المداس
و ف عز فرحة قلبى بيك
أدعي أن يومى يكون مسابقك
إمبارح الضهر استلمتك ضيف غريب
بعد العشا 00 إستأذنت منك أقوم أنام
و الفجر فضيت لك دولابي "
إلى هذه الدرجة يصادق شاعرنا الشعر و يعتز به حتى أنه يرضى بأن يكون له المداس و يفضى له دولابه من ملابسه ليقطن معه و يضع أغراضه فيه و لما لا و هو يأتى بالإجابة فى نهاية القصيدة فيقول لنا و يخرجنا من حيرتنا " أنا بيك شجاع
و عشانك استحمل فراق كل البشر
حتى لو فيك كل العبر
بس أنت تبقى حنون
و تحلم طول دراعي "
و فى قصيدة ( أنا باحبها كده ) و التى هى – فى رأيي – من أجمل قصائد الديوان يتحدث بحب و رومانسية عالية غير مصطنعة فى حب حبيبة الملايين مصر التى خاطبها بناعسة و هو بالطبع أيوب فيقول لها " و أنا يا ناعستى مخلوق
بتتحرك صوابعه حروف
تكون أنت ِ
و أنا اللى دبحت لك بنتي
فلما تكونى عايزانى
متستنيش "
أى هو الذى يقدم أغلى ما عنده لمصر و هى ابنته التى يقدم قربانا لمصر و ربما هنا يحيلنا إلى التراث الدينى المتمثل فى قصة الذبيح إسماعيل عليه السلام و يحيلنا إلى التراث العربي فى الكرم و خير نموذج لذلك هو حاتم الطائى الذى أودى به كرمه و مجاملة ضيوفه إلى همه بذبح ابن له تكريما للضيوف لولا أن لمح الحمر الوحشية 0
و يطالب حبيبه الوطن هنا بأن تشتريه مثلما اشتراها
و تبادله حبا بحب فيقول لها :
خدينى لسان
بينطق سكتك ريقه
خدينى غدير مورد
و كونى أبريقه "
و فى قصيدة مثل ( حضن الطريق ) يخاطب صديقه متمنيا أن يعود من غربته و القصيدة يمكن لها أن تحيلنا إلى المونولوج الداخلى الذى يحدث بين الشاعر و نفسه و يخاطبه كأنه صديق و نراه فى قصائد مثل أحلام اليقظة و جدع طيب وحشتينى و توته و البرجولا و قصيدة آخر حروف الدنيا يواصل شاعرنا رومانسيته فى مخاطبة الوطن برقته الآسرة و من هنا أقول بأن وحيد وصفى قدم لنا ديوانا دسما شعريا به قصائد عالية المستوى على مستوى البناء المعمارى للقصيدة و على مستوى الصور الشعرية و من محاسن هذا الديوان بأنك لا تمل من قصائده و هو يطلق عليه بحق لقب ديوان و ليس مجموعة شعرية فهو يتسم بوحدة الموضوع من الإحساس بالغربة المكانية و الوجدانية أيضا و تتشابه قصائده فى الحالة الشعورية الواحدة التى لا تفاجئك بالدخول فى مناطق غير متوقعة أو غير متماشية مع اتجاه الديوان و الديوان يحتوى على مفردات رومانسية فى حد ذاتها مثل التوتة و الساقية و الطيور و الأحلام و غيرها من المفردات التى شاعت فى شعر الرومانسيين و لا نجد شاعرنا متأثرا بشعراء أقدمين سوى بصلاح جاهين الذى يطل بين حين و آخر 0
و لكن ما يؤخذ على الديوان و هى أشياء بسيطة لحسن الحظ مثل عدم وجود صدى شعري للقضايا العربية كقضية فلسطين مثلا أو غيرها من القضايا العربية التى تدل على وعى الشاعر و تفاعله مع الأحداث الجارية من حوله و أن الديوان عبارة عن قصيدة واحدة فبالرغم من أن الديوان يحتوى على ثمانية عشر قصيدة شعرية إلا أن الجو العام لهذه القصائد واحد و متشابه إلى حد بعيد فالشعر ليس فرع واحد هو الحب فهناك القصيدة الاجتماعية و السياسية و الهجاء و غيره من فروع الشعر و بالرغم من ذلك أستطاع بأن يعود بالشاعر إلى المشاركة الفاعلة فى الحياة الثقافية بقوة و رغم هذه السلبيات البسيطة و التي لا تقلل من إعجابي بشاعرية الشاعر و الذى يسير فى خطوات جيدة لاحتلال مكانة مميزة فى شعر العامية المصري
********
بقلم الشاعر / عاطف الجندي
القاهرة فى 29 / 4 / 2009