الرحلة البيلوروسية في عهدين
(الحلقة الثانية) : سكان أوروبا الشرقية كانوا ينظرون نظرة عدائية تجاه كل ماله علاقة بالاتحاد السوفياتي
oo إلى بودابست: o في إجازة صيف عام 1984، سافرنا إلى العاصمة المجرية بودابست، هذه المدينة الرائعة التي يقسمها النهر إلى بودا وبست، إنها طراز جميل من المدن، ذكرّتني بمدينة لينينغراد والتي عادت إلى اسمها القديم بطرسبرغ وبمدينة براغ، فبين هذه المدن الثلاث قواسم مشتركة من حيث طراز المباني وتنظيم الشوارع، فالمباني في بودابست من الطراز القديم، ومن ذوات الشرفات المتعددة المطلة على الشوارع، وهي مدينة كانت بالاسم تسمى اشتراكية، فغالبية البضائع الغربية كانت موجودة فيها، لكن أسعارها كانت كبيرة، ومعظم الناس يكرهون الروس والمتحدثين بالروسية، فمازال ماثلاً أمامهم التدخل العسكري السوفياتي من أجل الحفاظ على النظام الاشتراكي هناك وأذكر مرّة، أننا كنا في أحد المنتزهات، حيث كان بدر صغيراً، وأردت شراء بعض الأشياء البسيطة من كشك في المنتزه، يومها سألني البائع: بأي عملة ستدفع؟ فقلت له مازحاً: بالروبل (العملة الروسية)، فبصق من فمه على الروبل وعلى الروس .
هذه كانت النظرة في البلدان الاشتراكية تجاه الاتحاد السوفياتي، والذي كان يعتبر الشقيق الأكبر بالنسبة لتلك البلدان وكذلك تجاه الروس ، باعتبارهم الأبرز من سكان الاتحاد السوفياتي أقول، هكذا كانت النظرة! لأنني زرت كثيراً من الدول الاشتراكية ولم تختلف النظرة تجاه الدولة الاشتراكية الأولى عنها في المجر أو في تشيكوسلوفاكيا.
استأجرنا في بودابست شقة بسيطة في ضواحي المدينة، كان البيت الذي تقع فيه الشقة يقع وسط مساحات خضراء شاسعة، فيها القليل من البيوت، وأذكر أنه كان بالقرب منا منزل السفير البرازيلي، كلّف استئجار الشقة لمدة أربعين يوماً في حدود المائة وخمسين دولاراً فقط، بالطبع كان تصريف العملة بأسعار السوق السوداء، وهذا ما كان يشجعنا على تمضية الإجازات في البلدان الاشتراكية، فلو كانت الأسعار مثلما هي عليه اليوم، لما استطعنا السفر وتمضية الإجازة في دولة أخرى .
تعرفت إلى عدد من الدارسين الفلسطينيين والعرب في هنغاريا (المجر) وإجمالاً كان عددهم قليلاً بالنسبة إلى عدد الطلاب العرب، الذين كانوا يدرسون في الاتحاد السوفياتي. في بودابست، تعرفنا إلى عائلة هنغارية، كانت تتألف من زوج وزوجته، كبيرين في السن، كنا نضع ابننا بدر لديهما بعض الأوقات، كانا يلاعبانه ويودانه، الطريف أن بدر أخذ يتحدث بعض الكلمات الهنغارية. كانت ممتعة حقاً تلك الإجازة التي قضيناها في بودابست.
ففيي سسوورريياا في السنتين التاليتين، سارت حياتنا في سوريا على طبيعتها، وبروتينها المعتاد، كنا نخرج أيام الجمعة مع بعض الأصدقاء إلى عين الخضرا بالقرب من دمشق، حيث نشوي اللحم، وحيث كانت عائلات سورية ہكثيرة تذهب إلى هناك، إذ يتم استئجار محلx للجلسة، ممن يمتلكون الأ راضي هناك، وغالباً ما يكون لديهم بيوتهم فيها، كانوا يعطوننا: الحرامات والمخدات، والفرشاة من أجل الجلوس ، وكل شيء كان بثمنه.
الفترة القاسية التي مررنا بها في سوريا، كانت حرب المخيمات في لبنان، فمن يجري حصارهم والهجوم عليهم، هم جزء من أهلنا الفلسطينيين. في مخيم السيدة زينب، حيث عملي، وحيث يوجد المسجد المسمى باسمها، ويعتقد كثيرون أنها مدفونة في المسجد، ولذلك ففي غالبية أوقات السنة، حيث الإجازات، وبخاصة في العشرة أيام الأولى من محرم (عاشوراء)، كانت المنطقة تعج بأناس كثيرين، يجيئون من مختلف دول العالم من لبنان والعراق وإيران وباكستان وأفغانستان وغيرها لزيارة الضريح. كان أصحاب البيوت في مخيم الست زينب، وهم فلسطينيون وسوريون، يؤجرون غالبية غرف منازلهم للقادمين، هذا عدا عن البيوت والفنادق المخصصة للأجرة، كانوا يؤجرون سريراً في غرفة تحتوي على عدة أسرّة. من المناظر التي لم أن سnها في المخيم، حيث يسكن المهجرون من لبنان، أنه وفي أثناء فصل الشتاء، وعندما كانت تهب الرياح القوية. . . . كانت خيم اللاجئين تطير! وفي بعض الأحيان، كانت الكثير من الأرض المغطاة بالخيم تغرق بالمياه، كان منظراً عادياً في كثير من الأحيان أن ترى ملابس الناس تطير فوق أجواء المخيم.
اإٍللىى ببررااغغ في إجازة صيف عام 1985، قررنا الذهاب مع عائلة صديقة: الشهيد أبو علي مصطفى وزوجته، إلى براغ وإلى منتجع كارلوفيفاري تحديداً ، والذي يقع على الحدود الألمانية - التشيكوسلوفاكية حيث كان من الضروري (لأبو) علي أن يتلقى العلاج فيها.
عندما وصلنا إلى براغ، كانت هي غير المدينة التي عرفناها سابقاً في شتاء عام 1982، حينما تم رفض طلبي للتخصص هناك أدرك وندرك أن المدينة هي نفس المدينة، لكن الذي تغير، هو العيون التي نراها بها.
لم نُمض في براغ سوى يومين، ثم ذهبنا إلى المنتجع، الذي بحق، هو قطعة من الجنة، أرض منبسطة يقع عليها المنتجع، الذي يشقه نهر صغير وفي وسط البلدة كان يُمنع دخول السيارات والمنتجع محاط بجبال شاهقة، وهو مملوء بالمصحات ذات الطبيعة العلاجية المختلفة، كنا نلتقي وعائلة (أبو) علي كل مساء، نتمشى عدة ساعات في المنتجع الذي بنى فيه كثيرون من الأغنياء والمشاهير فللاً وقصوراً ذات حدائق خاصة بهم، ومنهم روتشيلد، وبيتهوفن، وعندما جاءت السلطة الاشتراكية، جرى تأميم كل تلك الممتلكات الخاصة.
أذكر في أحد المرات. . . أننا مشينا كثيراً وصعدنا جبلاً، وكان ذلك باقتراح من (أبو علي) لرؤية كنيسة تقع على رأس الجبل، مشينا يومها خمس ساعات مع الاستراحات بالطبع، وكانت ليلى حاملاً بابننا الثاني: بشار، خفتُ يومها على ليلى، ولكن الله سلّم .
سكنّا في فندق من سلسلة فنادق متصلة في مجمع واحد كان يدعى مجمع موسكو، كنا غالباً ما نذهب وأصدقاءنا للعشاء في إحدى مطاعمه الكثيرة، والتي يجري الدخول إليها من أبواب كثيرة متصلة.
ومرّة. . . . ذهبنا مع (أبو) علي وزوجته إلى العشاء في مطعم من أحد تلك المطاعم الموجودة في المجمع، مشينا من حيث نسكن، ودخلنا ما يزيد على الثلاثين باباً داخلياً حتى وصلنا المطعم المذكور، والذي كان يقع تحت الأرض كان ابني بدر يبلغ من العمر سنتين ونصف سنة تقريباً، ولأنه لم ينم ذهب معنا، كان بدر في طفولته كثير الحركة، لا يستطيع أن يستقر في مكان، عندما دخلنا المطعم أوصيت الحارس على الباب، بألا يسمح لبدر بالخروج من المطعم جلسنا إلى طاولة، وكان من الطبيعي أن يتحرك بدر في تلك المساحة المحدودة، فهو حتماً سيذهب إلى حيث تعزف الأوركسترا أو يذهب للتجول بين الطاولات. . . فالأطفال في الدول الاشتراكية كانوا مُقدّسين ، الكل يداعبهم ويراعيهم افتقدنا بدراً بعد ساعة، ذهبت إلى الأوركسترا، أجابني أحد العازفين بأنه راَه، ومن ثم ذهب، سألت النادلين. . . أخبروني بأنهم لم يروا طفلاً، صعدت إلى الحارس . . . أكّد لي بأن بدراً لم يخرج من المطعم. . . صُعقت لحظتها. . . وقلت في نفسي. . . ضاع الولد! وما هي إلا لحظات قصيرة فقط ومن ثم دخل من أحد الأبواب. . . وكان يحمل مفتاح غرفتنا في الفندق! ذُهلت يومها. . . كيف استطاع الذهاب ومن ثم العودة من كل هذه الممرات والأبواب! لم أشأ تعنيفه في تلك اللحظة، فقد كان انفعالي كبيراً. . . وكنت أفضّل تأجيل ذلك.