هل التذوّق الموسيقيّ موروثٌ بالولادة؟

آمال عوّاد رضوان

الموسيقا لفظ يونانيّ يُطلقُ على الصّوت الخارج من آلاتِ العزف، وعِلمُ أحوالِ النغم والإيقاعات، فاستلهمَ الإنسانُ موسيقاهُ مِن تواصلِهِ مع الطبيعة؛ حفيف الشّجر، خرير الماء، صفير الرّيح، تغريد العصافير، أصوات الحيوانات وإلخ!

قالَ الفقيه الأديب ابن عبد ربّه الأندلسي (860/939 م)؛ صاحب "العِقد الفريد":
"قد يتوصّلُ بالألحان الحِسان إلى خير الدّنيا والآخرة، فمِن ذلك أنّها تبعث على مكارم الأخلاق مِن اصطناع المعروف، وصِلة الأرحام، والذوذ عن الأعراض والتجاوز عن الذنوب".

وقال كونفوشيوس: "الموسيقا هي مرآة حضارة الشعوب"!

أمّا روبرت شومان فأضاف: "إذا أردتَ أن تتعرّف على أخلاق الشعوب فاستمع إلى موسيقاها".

وعقّب أفلاطون:

"إنّ النفسَ إذا حزنت خمدَ منها نورُها، فإذا سمعتْ ما يُطربُها اشتعلَ منها ما خمد، وهذا العلم لم يضعْه الحكماء للتسلية واللهو، بل للمنافع الذاتيّة ولذة الرّوح والرّوحانية، وبسْط النفس وترويض الدّم، وليس للهو واللعب والترغيب في لذة شهوات الدّنيا والغرور بما فيها".

فيضاف أرسطو: الموسيقا أسمى من أن تكون أداة للهو والسّرور والتسلية!

وردّ بيتهوفن:

"الموسيقا وَحْيٌ يعلو على كلّ الحِكم والفلسفات، فهي الجمال المسموع والحلقة التي تربط الرّوح بالحسّ".



وفي فترة العصر الذهبيّ للإسلام وُلدَ ابن الهيثم في البصرة عام 965م، وله مخطوطةٌ حولَ تأثير الأنغام على أرواح الحيوانات، تُعدُّ أقدم مخطوطة عن تأثير الموسيقا على الحيوانات، إذ أجرى تجاربَهُ على الطّيور والخيول والزواحف، وأكّدَ أنّ سرعة الجمل تزداد وتقلّ مع استخدام الحِداء والغناء.

وجعلت التّجارب والأبحاث منذ القرن 19 تثبت وجهة نظر ابن الهيثم، وتأثير الموسيقا على الإنسان والحيوانات، فنشرت مجلّة العلوم السّيكولوجيّة العلميّة مقالة أشارت فيها؛

أنّ الدّجاج يتمتعُ بموهبة الاستماع إلى الموسيقا المتناغمة دون النشاز، وتساعدُهُ في التأقلم ووضع كمّيّة بيوض أكبر! وأكّدت أنّ غالبيّة الطّيور تُميّز الألحان المتناغمة عن غيرها، وتستخدمُ ألحانًا للتواصل فيما بينها.

وقد أفادَ العالمان تشينزيا كيناديتي وجورجيو فالورتيغارا من جامعة ترينت الإيطالية بأنّ فراخ الدّجاج تُفرّق فطريًّا بين الألحان المتناسقة والنشاز، بدون أدنى تواصل مع الدّجاج، إذ أشرفا على عزل الصّيصان عن الدّجاج، ووضعا سمّاعتين في إحدى ممرّات المختبر، إحداهما تُخرج أنغامًا متناسقة والأخرى أصواتًا مزعجة، فلاحظا اقتراب الصّيصان من سمّاعة الألحان المتناغمة!

وبعودة للدجاج:هل صياحُ الدّيك فيه تناغم موسيقيّ يجعله مفضّلاً لدى الدّجاج على الدّيوك الأخرى؟



كذلك أثبتت أبحاث علميّة أنّ للموسيقا تأثير على البقر، تجعله يُدرُّ حليبًا أكثر عند سماع الموسيقا، كما تجذب الأسماك الى مصدرها وتُسهّل اصطيادها، وتؤثر النغمات على سير الغزلان والجِمال وتجعله أكثر انتظامًا وانصياعًا لأوامر السائق!

أمّا الموسيقار روبنشتاين فقد رأى عنكبوتا على بيانو كان يعزف عليه، ترسل خيوطها في الجهة التي يصدر منها الصّوت، ولمّا انتهى عزفه انسحبت العنكبوت وتوقفت عن نج خيوطها.

وفي أبحاث أجريت في الاتحاد السوفييتيّ، تبيّن أن عزف الموسيقا العذبة في الحقول يُسرّع نموّ النباتات، ويزيدُ إنتاج القمح والشعير، فاهتزازات الموسيقا تؤثر على طبقاتِ الجوّ وتُخلخله، وتنتقل طوليًّا إلى سطح أوراق النبات فيتجدّدُ الهواء الموجود في منطقتها بشكل منظم، ويساعدُ على زيادة عمليّات الاستقلاب والتمثيل الكلوروفيلي!
فهل سيتمّ عزف الموسيقا في الحقول والحظائر بشكل رسميّ وقانونيّ؟

الموسيقا غريزة فطرية وحاجة أساسيّة كالشراب والمأكل والنوم، لا زالت تُشغل البيولوجيّين مدى العصور لتأثيرها على النفس البشرية عامّة، وإيقاظ المشاعر في استدرار الدّمع وإثارة الخوف واستلهاب العواطف، كما نلمسُها في الموسيقا التصويريّة؛ أهمّ عناصر التأثير فى الأفلام الوثاقيّة والدّراما وترجمة الأحداث.

وقد توصّل الباحثون أنّ جذورَ أعماقنا البيولوجية تؤثر في تذوّقنا الموسيقيّ ومزاجنا، وردّ فعلنا العفويّ والانعكاسيّ على الأنغام، بغضّ النظر عن الأصل الإثنيّ أو الثقافيّ.

فيقول ثوماس فريتز من معهد ماكس بلانك في ليبزيج الألمانيّة:

"لا يوجد أيّ شكّ في أنّ الموسيقا جزءٌ مركزيٌّ في العوامل التي تجعلنا بَشرا".

قام فريتز ببحثه والتجوّل مع فريقه في أدغال إفريقيا الوسطى في جبل ماندارا في الكاميرون، وعثر على شعب المافا الذين لم يسمعوا موسيقا غربيّة، فوافق 21 شخص منهم على الإنصات الى قطعة موسيقيّة تعزفها 42 قطعة موسيقيّة غربيّة، تحتوي على موسيقا كلاسيكيّة والرّوك والبوب والجاز، خُصّصت لإثارة المشاعر الأساسيّة: الفرح، الأسى والخوف، وبكلّ قطعة موسيقيّة أشاروا إلى صورة تعكس تعابير المشاعر الناشئة لديهم، وربط الأنغام مع الوجه الصحيح بنسبة 60%، ليؤكّد أنّ الموسيقا قادرة على تجاوز الحدود الثقافيّة وإيقاظ المشاعر الإنسانية.

وأُجريَت دراسة على أطفال أعمارهم أقلّ من عام، أظهرت أنّ الأطفال يملكون القدرة على التذوّق الموسيقيّ ومتابعته، إذ وُضعت إليكترودات على رأس 14 طفل رضيع ينصتون فيها إلى مختلف المقطوعات الموسيقيّة لقرع الطبول، وتقوم الإليكترودات بتسجيل ردّات فعل تتطابق مع ما يحدث، ليستنتج استيفان وينكير أنّ "تذوّقنا الموسيقي موروث بالولادة".



أمّا العالمة إيزابيل بيريتز العاملة في مجال التّصوير الدّماغي، فبرهنت أنّ الإصابة بصمم النغم الموسيقيّ والعجز على التذوّق الموسيقيّ المنتشر بنسبة 4%، له خلفيّة عصبيّة تختصّ بالموسيقا وحدها فقط دون القدرات الأخرى، كالرئيس الأمريكيّ روزفلت والثوريّ تشي غيفارا.

ثمّ؛

إن كانت الموسيقا لها خاصّيّة إنسانيّة في التذوّق والإنتاج، فكيف نفسّر رقص الببغاء الأبيض من نوع كاكادو على موسيقا الباكستريت بوي وكوين، برفع رجله فوق رأسه والهزّ برأسِه، وتنظيم حركة جسمه مع السّرعة ليثير إعجاب الكثيرين؟

هل بدافع الإحساس بالنغم الموسيقيّ، أم..؟

وأخيرًا..

مِن عالم الأحياء والحشرات والأسماك والنباتات والطيور أعودُ إلى الإنسان، وإلى زماننا هذا الذي يضيع فيه صالح الموسيقا العذبة المتناغمة، بطالحها المرّ الباعث على الاشمئزاز والنشاز، فما بال بعضُ البشر لا يميّزون بين أنواع الموسيقا المتناغمة والمزعجة؟

هل بسبب خلل وراثيّ في التذوّق الموسيقيّ؟

هل للتربية الموسيقيّة وتذوّقها أثر في تهذيب وتشذيب ذائقة البشر؟

وهل ما ينطبقُ على الأحياء من نتائج يمكن أن يُدرجَ على البشر؟