"مكننة"الحياة .. حتى الموتى لن يسلموا!!
إن كراهيتي لـ"مكننة"الحياة قديمة،وسابقة لقراءتي لـ"بيجوفيتش"و"بونيغر"وغيرهما.
دائما كنت أفكر – وتحدث عن ذلك مرة أو مرتين – في "الحرية"التي سُلبت من الإنسان الحديث .. وكان المثال الساذج الذي أضربه .. هو حال الناس حين كانوا يربون "مواشيهم"و"دواجنهم" .. في بيوتهم.
وأعلم يقينا أن منظر المواشي تتهادى في شوارع المدن الحديثة لا تقبله الحضارة ..فهي حساسة جدا تجاه وجهها المصقول .. ولا تقبل أقل "تجديف"في حقها!! في الهامش : كمثال صغير كتب الأستاذ جهاد الخازن ..( الأسبوع الماضي حُكم على إنجليزية بالسجن أربع سنواتبسبب
جريمة كتاب"جرافيتي"){ جريدة الحياة العدد 12084 في 17 / 11 / 1416هـ = 26 / 3 / 1996م}.
أربعة أعوام أو 48 شهرا تمت مصادرتها مع "عمر"تلك الفتاة"المجدفة"!!
أعود من الهامش إلى المتن .. ألم يكن بالإمكان أن نبحث عن وسيلة تحفظ للناس مواشيهم بعيدا عن وجه المدينة المصقول؟ لا أعتقد أن أحدا فكر في ذلك .. لمصلحة تحويل "الإنسان الحر"إلى مجرد"زبون".."تحلبه"شركات الألبان .. والبيض .. والأجبان إلخ.
إن ما دفعني للكتابة ... حوار دار بيني وبين أخي عبد العزيز أبوحجاري .. حول ضيق الوقت – في الشتاء – بعد صلاة الفجر،عندما نصلي على ميت .. إلخ. وقد أبدا ملاحظة تتعلق ببطئنا - الشناقطة - في الانتهاء من دفن موتانا،مقارنة بغيرنا .. وعلل ذلك بأن البعض قد يوكل مهمة الدفن،إلى "عمال"أقرب إلى الاحتراف،بينما ندفن نحن موتانا بأنفسنا!!
هذه اللقطة سأتركها للختام .. وأعود إلى "مكننة الحياة"لافت جدا رعب بعض مثقفي الغرب من تحول الإنسان إلى "آلة"وفي المقابل لافت جدا – أيضا – تغافلنا نحن عن ذلك!! فنحن نستورد "المكننة"وعلى محيانا ترتسم ابتسامة المستورد البريئ!
بل يبدو الوضع عندنا ونحن نستورد تلك "المكننة"أقرب إلى ما كتبه هنري فان .. حين كتب :
(أعشق الآلات،إنها كمخلوقات من مرتبة أسمى،حررها النبوغ من كافة البلايا والمباهج التي تعجن البدن الآدمي في نشاطه وإنهاكه. فالآلات،وفق قاعدتها الأصلية،تعمل كالرهبان البوذيين في تأملهم الصافي وهم يقعون على أزهار اللوتس التي لا تعرف الزمنية .. نجدها تختفي حالما تظهر آلات أخرى أحسن بهاء وأرفع كمالا : هنري فان دوفلدي ) { ص 36 (سقوط التكنولوجيا ) / فريد ريش بونيغر / ترجمة : سامي الكعكي / بيروت / دار الكندي الطبعة الأولى 1399هـ = 1979م }.
عشق الآلة هذا أحد جوانب العملية .. أما جانبها الآخر .. فيصوره لنا محمد أسد في هذه السطور و التي يرسم فيها صورة للحالة التي وصل إليها الغرب،في ثلاثينيات القرن العشرين :
(لقد كانت سنوات غريبة تلك التي ألفت العقد الثالث من هذا القرن في أوربا الوسطى. لقد ساد جو عام من الخطر الاجتماعي والأدبي،وأدى إلى نشوء أمل يائس عبر عن نفسه بتجارب جريئة في الموسيقى والتصوير والمسرح وبالتلمس أيضا،وبالأسئلة والتحقيقات الثورية عن طبيعة الثقافة وتكوينها. ولكن فراغا روحيا كان يصاحب هذا التفاؤل القسري : نسبية غامضة تهكمية نشأت من اليأس المتعاظم من مستقبل الإنسان.
وبالرغم من حداثتي فإنه لم يبق خافيا عليّ أن الوضع بعد كارثة الحرب العالمية لم يعد صحيحا في العالم الأوربي المتفكك المتململ،المتوتر العواطف والأحاسيس.إنه إله ذلك العالم لم يعد،كما رأيت،من نوع روحي : كان الرخاء. ليس ثمة شك في أنه كان هناك أفراد كثيرون كانوا يشعرون ويفكرون،دينيا،ويبذلون جهودا يائسة إلى أبعد الحدود للتوفيق بين معتقداتهم الأخلاقية وبين روح مدنيتهم،ولكن هؤلاء لم يكونوا إلا قلة. لقد بدا أن الأوربي – سواء كان ديمقراطيا أو شيوعيا أو عاملا يدويا أو رجل فكر – كان يعرف دينا إيجابيا واحدا : عبادة التقدم المادي،الاعتقاد بأنه لا يمكن أن يكون في الحياة أيما هدف سوى جعل تلك الحياة نفسها أكثر سهولة ويسرا،أو كما كانوا يقولون في ذلك الحين : "مستقلة عن الطبيعة".وكانت معابد ذلك الدين المصانع الجبارة ودور العرض السينمائية،والمختبرات الكيمائية،وقاعات الرقص والمشاريع المائية والكهربائية،وكان كهانها الصرافين والمهندسين والسياسيين ونجوم السينما،والإحصائيين و وزعماء الصناعة،والطيارين و"مفوضي الشعب".وكانت الخيبة الروحية متجلية في الفقدان الشامل للاتفاق على معنى الخير والشر،وفي إخضاع الأحداث الاجتماعية والاقتصادية جميعا إلى قاعدة"المصلحة" – تلك المرأة الداعرة،الراغبة في أي إنسان،وفي أي وقت،كلما دعيت إلى الاستسلام .. ){ص 101 – 102 ( الطريق إلى الإسلام) - نقله إلى العربية : عفيف البعلبكي / بيروت / دار العلم للملايين / الطبعة الخامسة 1977م }.
كما كتب "بيجوفيتش" ،وهو يتحدث عن"الثقافة"في مقابل"الحضارة" :
(وفي نهاية المطاف،نواجه موقفين مختلفين تجاه الآلة والتكنولوجيا. فالثقافة لديها "خوف من الآلة"،وكراهية غريزية للتكنولوجيا : "الآلة هي الخطيئة الأولى في الثقافة"{ في الهامش : Nikolai Berdyaev} .جاء هذا الموقف من الشعور بأن الآلة كانت منذ البداية وسيلة للتلاعب بالأشياء ثم تحولت لتصبح وسيلة للتلاعب بالإنسان. لنتذكر التحذيرات التي عبر عنها كل من : طاغور،وتولستوي،وهيدجر،و"نايز فستي"و"فوكنر"وآخرون){ص 120 ( الإسلام بين .. }.
وينضم "آرثر مللر"إلى ركب المتخوفين من نتائج التكنولوجيا .. وقد قال .. "إن مشكلة انحراف الشباب لا تنتمي فقط للمدن الكبرى بل إلى الريف أيضا،إنها ليست مشكلة الرأس مالية فحسب،بل الاشتراكية أيضا،ولا يقتصر ظهورها مع الفقر فقط بل مع الثراء كذلك،(..) إنني أعتقد أن المشكلة – في وضعها الراهن – هي نتاج التكنولوجيا التي دمرت الإنسان كقيمة ذاتية .. وباختصار لقد اندثرت الروح وتلاشت"){ص 130 ( الإسلام بين ...}.
وينقل لنا بيجوفيتش – أيضا – هذه الشهادة عن .. ( الشاعرة اليابانية "كازو كو شيرايشي"المعروفة بأنها مبدعة الحداثة اليابانية تقول : في بلادي شيء غير صحيح في جوهره،أصبح الإنسان"روبوتا"من الولادة حتى الموت،هو مسخر للعمل والنظام والإله"(في لقاء أكتوبر للكتاب – بلغراد 1986م) {نقلا عن ( ص 177 ( هروبي إلى الحرية ) / علي عزت بيجوفيتش / ترجمة : إسماعيل أبو البندورة / دمشق / دار الفكر / الطبعة الثالثة 1429هـ = 2008م}. }
ويضيف مؤلف كتاب"سقوط التكنولوجيا"أسماء أخرى إلى قائمة المرعوبين من سطوة "الآلة" .. ( إننا نستكشف ذلك في إيماءة جوته إلى ما أحرزه العمل الآلي من نجاح { في الهامش : يقول الشاعر في"سنوات الترحال" : وهذه الآلات التي صار لها اليد الطولى على البشر. تعذبني وتسلبني الأمان.} كذلك في القشعريرة التي انتابت الأمريكيين هوفمان وإدغار ألن بو لرؤيتهما إطلالة الأوتوماتون الميكانيكية ..){ص 51 ( سقوط ..)}.
ويلفت "بونيغر"أنظارنا إلى تحول"الاستهلاك"إلى"إهلاك" .. (حيث أن التكنولوجيا تقتضي الإهلاك أصلا،وحيث أن تطورها يقوم على الاستهلاك أساسا،فهي من هذه الزاوية غير مؤهلة لدخول أي نظام اقتصادي سليم (..) وإن ما يسمى بسذاجة خاطئة إنتاجا ليس في حقيقته غير استهلاك){ ص 39 ( سقوط ..)} .
وينبه – أيضا – إلى خطورة وضع الإنسان في ظل هيمنة الآلة .. (فالإنسان سيد الآلة قد أمسى عبدا لها،واجب عليه تقديم فروض الطاعة لشرائعها وأنظمتها. بينما يسوقه الأوتوماتون إلى العمل الأوتوماتيكي تحت فرقعة السياط. إن أردت بينة دافعة تقطع الشك باليقين فانظر في قارعة الطريق حيث بلغت أتمتة السير مرحلة متقدمة جدا. إن تنظيم المرور في الشوارع يتطلب أول ما يتطلب طبيعة أوتوماتيكية يتلزم بها الإنسان دون تحفظ. وهذا ما تنطوي عليه الحقيقة القائمة في أن الإنسان قد جرد تماما من جميع خصائصه باستثناء واحدة،هي أنه ما انفك ينظر إليه كمارٍ من المارة. أي هدفا من أهداف التنظيم التقني للمرور .. (..) وبالضبط كما تتسلل "المصنعات – البدائل"إلى أطعمتنا،كذلك الأحاسيس تتسرب إلى ذواتنا. وفي عالم تهيمن عليه الآلة وتنظيمها،لن تجد السعادة لنفسها كوة أو موطئ قدم،إلا إذا وجدتها هنالك في السلسلة السببية أو العلاقات الغائية. لكن الفرد المكبل بالبؤس الذي لا يختلف كثيرا عن المحكوم المحشور داخل زنزانته في ظروف لا تطاق،الذي انعدمت لديه كل الفرص،إذ يغتالها التنظيم الرهيب عن آخرها!! ){ص 67 171 ( سقوط ..}.
هنا نقطة تستحق أن نتوقف عندها،وهي رغم سلبيتها لا تخلو من دلالة .. إذ يبدو أن أحد أسباب كثرة مخالفة سائقينا لأنظمة السير،أنهم لم تتم "مكننتهم"بالكامل .. بعد !!
قبل نقل نص عن "سقوط التكنولوجيا"أتذكر أنني استمعت إلى لقاء مع الدكتور عبد الوهاب المسري - رحم الله والديّ ورحمه – وقد تحدث عن فترة إقامته في الرياض،وذكر أن "شرطي السير"هنا إذا اعتذرت له أو تعهدت بعدم تكرار الأمر .. يعفيك من المخالفة!! ثم علق : ودي حاجة كويسه أوي.
تعجبت حينها .. أن يصدر هذا التعليق عن رجل عاش في الغرب .. ويعرف قيمة الأنظمة .. ولكن يبدو أن الأمر متعلق بالخوف من تحول الإنسان إلى "آلة صماء" بلا مشاعر .. إلخ.
يقول بونيغر : ( وهكذا فإن مكننة السير التي يشرف على تنفيذها رجل التكنولوجيا. تحمل الإنسان على التحرك ميكانيكيا والتكيف ذاتيا مع أوتوماتيكية أنظمة المرور. وليس سرا أن "التطواف في الغسق"بات شبه معدوم،لأن المدينة المزدحمة لا تترك أقل فرصة أو خلاء لممارسة هذه الرياضة العريقة،إن لم نقل أنها تقيد حرية الحركة ذاتها. لسوف نستخلص فكرة ممتازة عن حقيقة الأمر لو تخيلنا الشوارع كالأحزمة المتحركة التي تنقل المواطنين ميكانيكيا،بيد أن هذه الصورة على جانب كبير من الوضوح اليوم،وذلك بفضل ما نجده من وسال ميكانيكية قائمة فعلا كالمصاعد والسلالم المتحركة وما شاكلها. ولو راقبنا المارة في شارع معتدل الازدحام لأمكننا فورا التعرف إلى الصورة الميكانيكية التي تقيد حركتهم والتي تبلور بجلاء ما بعده جلاء،ما انتهت إليه حياتهم ونواحي معيشتهم من رتابة وآلية. كما تكشف وسائل النقل هذه بتعددها وتعدادها عن الدرجة التي وصل إليها الإنسان في كونه"سلعة قابلة للنقل" ){ص 164 ( سقوط ..}.
أما نتيجة هذه المكننة فهي أن ("الإنسان الممكنن"غير سعيد،فهو لا يود بتاتا التخلي عن مضغ الحلم بضربة حظ أخيرة .. لتكن في ورقة يانصيب وحسب. والواقع أنه يزداد تعلقا بهذه الفرصة كلما تضاءلت أمامه إمكانات تحقيقها.){ص 172 – 173 ( سقوط ..}.
هذا الإنسان غير السعيد،سيعيدنا إلى "أسد"والذي كتب – كما نقلنا من قبل - يقول .. ( لقد بدا أن الأوربي – سواء كان ديمقراطيا أو شيوعيا أو عاملا يدويا أو رجل فكر – كان يعرف دينا إيجابيا واحدا : عبادة التقدم المادي،){الطريق إلى مكة}
وصفه للأمر بـ"الدين"يتكرر عند بونيغر بربطه الساعة بـ"الكالفينية" .. فالساعة هي التي تضبط إيقاع هذه المكننة ... (ومرة أخرى : بانتفاء الساعة ما كان ليظهر الأوتوماتون في منتصف ساحة الحياة. وعلى هذا،فإننا نجد في الواقع صلة ما ما بين انتصار "الكالفينية"في جنيف وتأسيس صناعة الساعات في تلك المدينة سنة 1587. لقد طور "كالفن"فكرة القضاء والقدر بمنطق عنيد متصلب وبتماسك شديد قد قلما نجد نظيرا له عند الكنيسة الكاثوليكية .. ){ص 64 ( سقوط ..}
ونأخذ لقطة أخيرة من بيجوفيتش ... (الحضارة في خلقها الدائم لضرورات جديدة وقدرتها على فرض الحاجة إلى ما لا حاجة له،تعزز التبادل المادي بين الإنسان والطبيعة وتُغري الإنسان بالحياة البرانية على حساب الحياة الجوانية."وأنتج لتربح،واربح لتبدد"هذه سمة في جبلة الحضارة. أما الثقافة "وفقا لطبيعتها الدينية"،فتميل إلى التقليل من احتياجات الإنسان أو الحد من درجة إشباعها،وبهذه الطريقة توسع في أفق الحرية الجوانية للإنسان. ){ ص 108 – 109 ( الإسلام بين الشرق والغرب ) : علي عزت بيجوفيتش / ترجمة : محمد يوسف عدس / القاهرة / دار الشروق الطبعة الخامسة 2014}.
أما الختام،فسيكون بالعودة إلى الحوار الذي دار بيني وبين أخي عبد العزيز .. وتكليف عمال بالقيام بدفن الموتى .. لا يتعلق الأمر بدفن الموتى فقط .. بل كتب الأستاذ عبد الله الجعفري بالأمس القريب لفت نظري في أحد الأماكن العامة إعلان في غاية الطرافة والنكد يتصدر إحدى المحلات التجارية . وأكاد أجزم أن الذي صاغه يجهل تماما قواعد الإعلان وأسلوبه وأدواته،أو أنه يئس من حياته فأراد أن ينغص عيشة المارة بهذا الإعلان الذي بدأه بـ"عزيز هل لديك ميت؟
نحن نقوم بغسله ودفنه نيابة عنك ما عليك سوى الاتصال برقم ...){ جريدة البلاد العدد 14545 في 27 / 11 / 1416هـ = 15 / 4 / 1996م}.
إذا .. حتى الموتى تخطط المكننة لتولي أمورهم .. !!
أبو أشرف : محمود المختار الشنقيطي المدني