بنت الكيانات السياسية مكانتها الدولية عبر التاريخ على نجاحها في تشكيل جيوش قادرة على القيام بالمهام الدفاعية والتوسعية، وفي بناء اقتصاد ديناميكي ينتج الثروة ويوفر الفوائض في الإنتاج الذي يسمح بتحقيق الرفاه داخليا وبتمويل الحملات التوسعية أو التدابير الدفاعية، وأيضا في التمتع بإشعاع ثقافي رمزي يحمل على الإعجاب والانبهار بنموذج وطني مجتمعي متميز.
بالطبع، ليس الأهم اكتساب هذه العناصر في وضعها الخام الكمي، بل يتوقف رفع منسوب القوة على إعطاء هذه العناصر طابعا ديناميكيا ونسج علاقات تغذية متبادلة بينها بحيث يكون كل منها معادلا يساهم بمقدار محسوب في منظومة القوة الشاملة للكيان الوطني.
في عصر القرية الكوكبية، وارتفاع الكلفة السياسية والبشرية والاقتصادية للعمل العسكري، وانفتاح الحدود أمام تدفق المعلومات والصور، رجحت أهمية العوامل غير المادية في الحساب العام للقوة التي باتت أكثر تعددية. نماذج سياسية جذابة، حيوية الإبداع الثقافي والفني، مبادلات رمزية وتدفقات تخاطب العقول والقلوب. الفكرة العامة التي يتسع نطاق تقبلها، أو على الأقل تمحيصها وبحث جدواها، في دوائر مراكز البحث وصناعة القرار، هي فرضية أن تحقيق المصلحة الوطنية بوسائل غير عسكرية وغير مباشرة في العلاقات مع الكيانات الأخرى في المحيط الإقليمي والدولي، أولى من تحقيقها بأعمال ذات طابع إكراهي زجري، غالبا ما تكون محفوفة بالمخاطر ومطوقة بحسابات استراتيجية وتكتيكية دقيقة. ربما يكون التدخل العسكري أو التهديد به أو توقيع عقوبات اقتصادية أو شن حروب دبلوماسية، مجديا على المدى القصير، لحل أزمات طارئة أو التعامل مع تهديدات فورية، لكن تحقيق نوع من النصر المستدام أو الامتياز بعيد المدى يمر وفق منظري القوة الناعمة عبر طائفة من الأدوات التي تجعل الفاعل المستهدف يلبي المطلوب منه دون أن يشعر بالبعد القسري الذي يضع العلاقات تحت ضغط الفعل ورد الفعل، وحسابات الثأر والاحتراز والنفور والتقوقع والعداء. مع تحول العالم إلى فضاء تواصلي مفتوح، تقع الحرب الذهنية، حرب الصور والتمثلات في قلب الرهانات المعاصرة للقوة الشاملة، التي تتجه أكثر فأكثر نحو طابع تعددي متكامل العناصر، الخشنة والناعمة، العسكرية والاقتصادية والثقافية. إنها حرب غير معلنة لكنها متواصلة وتزداد استعارا بين القوى الطامحة إلى مواقع طليعية في ساحة الأمم.
تعريف القوة الناعمة:
تشمل القوة الناعمة العناصر المستعملة من قبل فاعل سياسي (دولة، منظمة دولية، شركة، شبكة للمجتمع المدني) من أجل التأثير بشكل غير مباشر على فاعل آخر بغرض حمله على تبني وجهة نظره، وتحقيق مراميه دون الشعور بالطابع الإجباري لهذه العلاقة. إنها مجموعة قوى نافذة تتسلل إلى البنيات، وتتمركز أساسا في المجال الثقافي: فنون وأنماط حياة وصور ذهنية… 1
يتعلق الأمر بتعبئة موارد الجذب والإبهار لنزع حوافز المبادرة المناوئة وكبح مساعي التحدي أو المس بالمصلحة الوطنية لدى الحلفاء والخصوم على السواء. بالطبع لا يمكن في زمن صراعي وتنافسي في تاريخ العلاقات الدولية الاتكاء على القوة الناعمة كبديل للسياسة الواقعية المبنية على اكتساب المبادرة على المستوى العسكري والاقتصادي، بل تدخل في حساب معادلة قوة وطنية شاملة تتوطد. بكل ما تحتويه من خيارات عسكرية ومناورات دبلوماسية وضغوط اقتصادية ثم قوى ناعمة، ثقافية وإعلامية.
لم يعد مفهوم القوة الناعمة مجرد ترف لفظي لاستيعاب تطور قنوات التبادل الثقافي والفني من أشكاله البدائية إلى أكثر مظاهره التكنولوجية في سياق عولمة التواصل وقابلية الحدود للاختراق، لقد اندمج كبعد أساسي ضمن أدبيات الجيوبوليتيك المعاصرة. فقد عرفه لورو وثيال في كتابهما “الجيوبوليتيك” بأنه “قدرة الفاعل على أن يفرض نفسه كنموذج يحتذى للتنظيم السياسي الاجتماعي وكحامل لواء قيم كونية، وهي عامل أساسي لكل سياسة قوة في الوقت الحالي”. 2
بالنسبة لجوزيف ناي، المنظِّر الأمريكي لمفهوم ” القوة الناعمة”، فإن السلطة بمفهومها الواسع هي قدرة كيان (دولة أو منظمة أو فرد) على الحصول على ما يبتغيه من جانب كيان آخر، عبر استثمار عدة موارد قوة في يديه. هناك عوامل لممارسة الإكراه، وأخرى لحث الكيان على فعل شيء أو الامتناع عنه. لكن هناك أيضا القدرة على الجذب والإبهار.
الترغيب والترهيب يدخلان في باب القوة الصلبة المادية، بينما يشكل الاغراء والجاذبية كنه القوة الناعمة في السياسة الدولية. ورغم أن القوة الناعمة ترتبط بقدرة أجهزة صناعة القرار في كل دولة على التخطيط والحشد وتعبئة الوسائل وتحديد الأهداف، فإن حسابات هذه القوة بالنسبة لنا لا تقتصر حصرا على أنشطة الحكومة بل هي محصلة إلى حد كبير لنشاطات المجتمع المدني ومشاركته الحرة والطوعية في تحقيق المصالح الوطنية للبلد، عبر تصدير صور إيجابية عن المجتمع والدولة.
وان كان نضج مفهوم القوة الناعمة وانتشاره الواسع في الأدبيات الاستراتيجية يدين بالفضل للباحث الأمريكي جوزيف ناي، الذي جمع بين البحث النظري والممارسة في إدارة كلينتون، فإن البريطاني إ.ه كار قد سبقه في طرق الموضوع حين ميز في تحليله للسياق الدولي للسلطة بين القوة العسكرية والقوة الاقتصادية والقوة عبر الرأي 3 . هذا المفهوم الأخير يغطي مضمون ما طوره ناي لاحقا باسم القوة الناعمة، من حيث رصد مفعولات قوة الأفكار وأنماط الحياة والقيم المسافرة خارج الحدود.
هي مجموعة مقومات رمزية تغري فئات محددة باتباع “النموذج”. فسياسات التأثير والقوة الناعمة تستهدف بناء المعنى، أي توفير بنية ذهنية وعاطفية وانفعالية مسوقة لتوجهات الدولة المعنية وخياراتها وقيمها. ان النجاح في تشكيل معنى معين في ذهن الشخص ( من أفكار وتصورات وتمثلات للواقع ومشاعر تجاه تطوراته) يعني توقع سلوك صادر عن هذا الشخص يخدم إرادة الجهة الصانعة للمعنى. ولذلك يجزم جوزيف ناي بأنه لا يمكن لأي دولة أن تكون قوة هامة في الساحة الدولية ما لم تنجح في تحقيق التواؤم بين القوة الصلبة والقوة الناعمة4.
برامج لصناعة بريستيج وطني، مجهودات لنشر اللغة الوطنية، دعم تسويق النموذج المجتمعي والثقافي والسياسي والاقتصادي، تعزيز بث التدفقات المعلوماتية والتواصلية تجاه الجماهير والنخب الأجنبية، إشاعة القيم والأنظمة الأيديولوجية الوطنية وأحيانا العقائدية… إنها مظاهر وممارسات يعود بعضها إلى حقب قديمة، وإن تطورت أدواتها، لكنها اكتست في القرن العشرين وخصوصا في عقده الأخير طابعا منظما وممنهجا واستراتيجيا، يجعل وصف جانب من السياسات الخارجية ب ” الدبلوماسية الناعمة” مجرد تلفيف جذاب لتسمية مجال لا يخلو من حروب شرسة تدور حول كسب الامتياز المعنوي والنفسي والذهني في حرب الريادة.
كأن جوزيف ناي يضع نظرية ميكيافيلي، الأب الروحي للواقعية السياسية، في سياق جديد. هذا العالم الحاذق بالحدائق السرية للسياسة في مخاضات مرحلة النهضة الأوروبية، كان يقول: “أفضل لك أن تكون مهابا على أن تكون محبوبا”. أما في سياق العلاقات الدولية الراهنة، فيكاد يتحقق الإجماع على ضرورة الحرص على الجمع بين القدرة على الترويع والقدرة على الإبهار. 5
الدبلوماسية الثقافية حقل اختبار القوة الناعمة
بدرجات متفاوتة، كل الدول تمارس سياسات للقوة الناعمة كعنصر يتكامل مع الاستثمار في المجالات العسكرية والاقتصادية ذات الطبيعة المادية الصرفة. ولدى الدول الكبرى، توكل المهام الرئيسية لتخطيط واقتراح ومتابعة تنفيذ البرامج الرامية إلى ممارسة القوة الناعمة إلى أجهزة ما يسمى بالدبلوماسية العامة، ذلك النشاط الذي يهم مختلف البرامج التي تنفذ خارج الحدود في تواصل مباشر مع النخب والجماهير الأجنبية أو فئات مستهدفة منها. يشمل ذلك تدبير تدفقات إعلامية وتواصلية وثقافية لإحداث تغييرات معينة أو بناء أفكار وقناعات معينة تسهل تفهم سياسات هذه الدولة وقراراتها.
وتشكل الدبلوماسية الثقافية في هذا الصدد الوجه الأبرز لسياسات القوة الناعمة، ولعلها كانت الممارسة التقليدية التي استلهمت من تجاربها التاريخية العريقة الدروس والخلاصات النظرية لبلورة مفهوم القوة الناعمة في العصر الحديث للعلاقات الدولية.
وتعرف الدبلوماسية الثقافية من طرف ميلتون كامينغز من جامعة جون هوبكينز بأنها “تبادل الأفكار والمعلومات والفنون وباقي جوانب الثقافة بين الدول والشعوب من أجل تعميق التفاهم”. 6 ومن وجهة نظر أمريكية، يتحدث عنها فرانك نينكوفيتش قائلا: “انها تعزيز فهم الثقافة الأمريكية في الخارج” حيث تشمل كل المجهودات التي تروم الربط بين الناس عبر البلدان من أجل تمثل أكبر للقيم الأساسية الأمريكية.
لكن كاتبا بريطانيا هو روبيرت تاير اعتبر عام 1959 أن الدبلوماسية الثقافية: ” فعل يتمثل في عملية تواصل ناجحة تنقل لشعوب أخرى عناصر فهم حياة وثقافة شعب معين”. 7
والملاحظ أن هذه التعريفات تهمل، عن قصد أو بدونه، وجها أساسيا يميز كل نشاط دبلوماسي. وهو ما تتداركه الباحثة هيلين فين التي عملت في الشؤون الثقافية بالخارجية الأمريكية حيث تربط هذه المجهودات أساسا بمفهوم المصلحة الوطنية، وهو ما يرفع عمليا عن المفهوم تطابقه مع جملة المبادلات والأنشطة الثقافية التي تتواصل منذ القدم بين الجماعات البشرية بشكل تلقائي. 8
فالمبادلات الثقافية تنمو وتتطور خارج نطاق عمل الحكومات: السياحة، الزواج المختلط، الأدب واللغات، الفنون. لكن هذه العناصر لا تكتسي صفة الدبلوماسية ولا تدخل في تشكيل القوة الناعمة إلا حين تندمج في سياق برامج واستراتيجيات مفكر فيها بالنسبة لبلد معين يجعلها في خدمة مصالحه الوطنية.
الدبلوماسية الثقافية بهذا المعنى تعني توظيف عناصر عدة من الثقافة للتأثير في الجماهير الأجنبية وصناع الرأي والقادة والنخب المؤثرة. إنها تقتضي استغلال الفرص التي تتيحها قطاعات عديدة من بينها الفنون، التعليم، الأفكار، التاريخ، العلوم والدين، لقولبة أفكار وانطباعات وتمثلات معينة.9
ففيما يخص أهمية الاستثمار في ترويج الثقافة الوطنية، يقول الدبلوماسي البريطاني أنتوني بارسونز: “إن استأنست بلغة أحد وأدبه، إن عرفت واحببت بلاده، ومدنها، وفنونها وشعبها، ستكون مستعدا بشكل لاشعوري لاقتناء ما تريده منه أكثر من مصدر لا تعرفه بدقة، ولدعمه حين تعتبر أنه على صواب، ولتجنب معاقبته بقسوة إن أخطأ” 10.
وقد أقر المنظر الاستراتيجي الأمريكي زبينييو بريزينسكي بأن الجاذبية الثقافية لأمريكا يعززها التوسع السريع للغة الانجليزية كلغة عالمية مشتركة، وانتشار الإنجليزية في العالم يعزز في نظره بلا مراء القوة الناعمة الأمريكية 11.
أما في الممارسة فإن اختبار المفهوم وتتبع تطبيقاته في سياسات القوى الكبرى وعلى رأسها أمريكا، يضع الدبلوماسية الثقافية في حالة التباس واضح، فتبدو بالنسبة للبعض آلية أيديولوجية للهيمنة الثقافية، خصوصا في ظل ضمور الشكل التبادلي الذي يجعل المادة الثقافية موضوع إرسال واستقبال، لا حركة في اتجاه واحد، كما هو ملاحظ في الدبلوماسيات الثقافية لبعض القوى الكبرى. بل يعتبرها البعض مجرد شكل من أشكال البروباغاندا التي لا تخرج عن منطق الحرب، فيما يتمسك آخرون بالإمكانيات التي تتيحها هذه الدبلوماسية لاستشراف سبل تفاهم أعمق وتعزيز السلم عبر العالم وتوفير أرضيات ذهنية لتجاوز الخلافات وحل النزاعات على المدى البعيد. وهي القناعة التي تنتشر أساسا في محافل اليونيسكو التي تتبنى ذلك الشعار الشهير: ” الحرب تولد في العقول“12.
يتعين التأكيد هنا أن تبني مفهوم القوة الناعمة بقدر ما يعني تغييرا في الوسائل، فإنه لا يرادف اعتماد رؤية سلمية للعلاقات الدولية. ففي السياسة الأمريكية التي توفر تراكما وافيا لمقاربة توسع نطاق استخدام هذا المفهوم نظريا وعمليا، يرى محللون أن نمط الحياة الأمريكي ليس مجرد سلوكات أو أنظمة أو أفكار انتشرت تلقائيا عبر العالم في فترة ما بعد الحرب، بل ” وسيلة حرب إيديولوجية يتم التفكير فيها استراتيجيا في أفق الإخضاع الثقافي والسياسي للخصوم المحتملين للامبراطورية بل وكذلك حلفائها”.
هذه القوة الناعمة يراها بعض الأوروبيين المدافعين عن التعددية الثقافية والاستثناء الثقافي بؤرة لضياع الهوية في بعدها القطري والأوروبي.13 .أو ليس أوروبا مجرد “أوروبا القديمة” كما سماها باحتقار وزير دفاع جورج بوش الابن دونالد رامسفيلد؟.
سواء تعلق الأمر بالمسلسلات، مطاعم الوجبات السريعة، أغاني الراب السريعة والسوقية، أفلام هوليود التجارية، يتحدث البعض عن “عمليات استتباع وتدجين ثقافي يومي نعيشه كأوروبيين في مأكلنا وملبسنا وذائقتنا وإيقاع حياتنا”. إنه موت مبرمج وبطيء للروح والذاكرة. إنه احتلال ثقافي وأيديولوجي، يقول بيار أنطوان بلاكفان في مقال بعنوان بالغ الدلالة “الامبراطورية الخفية: القوة الناعمة والهيمنة الثقافية” 14.
دخول الثقافة إلى منظار تحليل العلاقات الدولية
تتفاوت التعريفات التي قدمها الباحثون في العصور السابقة والمتأخرة للثقافة، كموضوع لعمل الدبلوماسية الثقافية ولاستخلاص موارد القوة الناعمة. فبالنسبة للباحث روبيرت بيرستد تغطي الثقافة “ذلك الكل المركب الذي يتألف من كل ما نفكر فيه أو نقوم بعمله، أو نتملكه كأعضاء في المجتمع”. ويتضمن هذا التعريف البعد الفكري والتصوري للثقافة. إنها إذن جملة القيم والمعتقدات والمعايير والرموز والأيديولوجيات وغيرها من المنتجات العقلية، كما تشير إلى نمط الحياة وطبيعة العلاقات التي تربط بين أفراده وتوجهاتهم.
وبالنسبة لعالم الأنثروبولوجيا الأمريكي، كليفورد غيرتز، فإن الثقافة نظام للمعنى يشترك فيه أعضاء جماعة ما، ويحدد لهم مجموعة من الرموز التي يتفاهمون خلالها على الطريقة التي يديرون بها تفاعلاتهم وقواعد اللعبة الاجتماعية التي ينخرط فيها اللاعبون.15
جل التعريفات تتقاطع عند المشتركات الذهنية لمجموعة تتقاسم مجالا جغرافيا وذاكرة جمعية ونمط علاقات…الخ. وعلى هذا الأساس، أولى باحثون كثر اهتمامهم لدور العامل الذهني في تقرير سلوك الفاعلين وتحديد تفاعلاتهم مع المحيط القريب والبعيد. إن تقرير هذه العلاقة بين البنية الذهنية والسلوك يشكل منطلقا بنت عليه دراسات العلاقات الدولية شرعية إدماجها للعامل الثقافي في فهم مختلف أبعاد النظام الدولي وعلاقاته.
إن الثقافة بهذا المعنى تعد ميدانا شديد الدلالة والقوة التفسيرية لفهم حدة الطابع الصراعي للعلاقات الدولية.
فبما أن الثقافة مرتبطة بالهوية (كيف ننظر إلى أنفسنا) وصناعة المعنى (كيف نحدد ما هو مهم) يبدو طبيعيا أن تلعب الثقافة دورا في مختلف النزاعات سواء داخل المجموعات أو فيما بينها.
وضمن نسق العناصر المادية واللامادية الكثيرة التي تشكل ثقافة مجموعة بشرية ما، يعتبر اللساني اليوناني جورج بابينيوتيس أن اللغة هي الخاصية الأكثر أصالة للمجموعة. “لا سبيل آخر أكثر مباشرة ونجاعة، لا طريق أقصر لمعرفة شعب أكثر من تعلم لغته. لغة شعب هي الطريقة التي يتمثل بها ويصنف ويعبر عن عالمه. كل لغة هي نظام متميز للعالم، مقاربة أخرى له، مجموعة خيارات مخصوصة، إنها التعبير الجماعي عن أمة بأكملها”. 16
وإن تفاوتت مكانة العامل الثقافي في مدارس العلاقات الدولية، فإن أيا منها لم يهملها. والواقع أن إدماج البعد الثقافي حمله الاتجاه نحو تجاوز حدود الواقعية والواقعية الجديدة التي صرفت مجمل جهدها في تحليل توازنات القوى بحسابات مادية صرفة أهملت عدة ديناميات صعبة القياس، ومن ضمنها الحيوية الثقافية للدولة وسياساتها الإشعاعية وقوة الدفع في تصدير نموذجها ورؤيتها للعالم ورؤيتها الحضارية وجاذبية أنماط حياتها.
من هنا أهمية المقاربات البنيوية التي وعت دور الهوية في تشكيل الفعل السياسي. فهوية الدولة تخبر عن مصالحها وأنشطتها. بفضل البنيويين عادت العناصر الاجتماعية والتاريخية والمعيارية إلى مركز النقاش وخصوصا في الولايات المتحدة. إنهم يهتمون خلافا للعقلانيين والماديين بالخصوصيات الثقافية والهوية وقوة الأفكار في تشكيل العالم السياسي وتوجيه السلوكات والأفكار ذات الصلة بعالم السياسة في وجهها الداخلي والدولي17.
وبعد نهاية الحرب الباردة، تزايد الاهتمام بالعوامل الثقافية في مقاربة العلاقات الدولية، بل فسر انتصار الولايات المتحدة والمعسكر الغربي على القطب الشيوعي، في صراع الاستراتيجيا، بكونه في الجوهر انعكاسا لانتصار ثقافي لقيم الحرية والليبرالية والديموقراطية على قيم الاستبداد والتسلط، ومن ثم رسالة إلى العالم بالسير في ركاب أمريكا واعتناق ثقافتها وأنماط تفكيرها وتقبل قيادتها للعالم. إنه وضع يمكن واشنطن من القبض على شعار المسؤولية التي تتحملها تجاه العالم، على غرار مسؤولية “الرجل الأبيض” في نشر الحرية والديموقراطية وتحرير الشعوب من هيمنة الاستبداد، زمن الحملات الاستعمارية.
وجاءت نظرية هنتنغتون لتكرس منظارا ثقافيا جديدا ذا طابع انقسامي في تحليل العلاقات الدولية. فبالنسبة إليه لن تكون الحروب والانقسامات الكبرى على قاعدة الأيديولوجيا والاقتصاد وغيرهما، بل على قاعدة الصدام بين الخصوصيات الثقافية.
وتظهر القراءة البسيطة للأنساق الدولية عبر تاريخ البشرية، ان هناك ترابطا كبيرا بين توزع القدرات المادية والابنية الثقافية والفكرية حيث أن الريادة في الساحة الدولية استمدت شرعيتها من قوة أولئك الذين يحوزون أكبر قدر من القوات المادية والفكرية، ويعملون على تدويل ثقافاتهم وتصوراتهم للعالم. 18
القوة الناعمة: دروس من الحرب الباردة
سمِّيت حربا باردة تلك الحقبة التي تمتد منذ إسدال الستار الحديدي بين الغرب والشرق، باردة لأن الحشد العسكري وسباق التسلح لم يتطور قط إلى ساحة صدام ميداني مباشر. أما على جبهة أخرى، فإن حربا ساخنة ظلت تستعر إلى حين انهيار القطب السوفياتي ساحتها الأيديولوجية. إنها حرب الأفكار والمشاعر التي انبرى لها القوتان العظميان في مجال جيوسياسي مفتوح، مادامت حركة الأفكار وتدفقات المعلومات تتمنع على آليات الضبط والتصدي.
لم تكن القوة الناعمة حكرا على أمريكا، فقد استخدمها الاتحاد السوفياتي أيضا في سياق توسيع إشعاعه الرمزي والسياسي والفكري عبر الترويج لمنتجاته الأيديولوجية من ثقافة وفنون مسرحية وموسيقية وسينمائية، غذت مريدي الحركات اليسارية عبر العالم.
هي تدفقات لامادية ترد من الغرب والشرق، من اليسار واليمين، مؤسسة لوهم الحرية لدى الإنسان المعاصر. وأي حرية في ظل تهاطل الصور والمنتجات اللامادية والأيديولوجيات المحمولة والملفوفة في مختلف الأنماط الحياتية والإبداعات الفنية المنتقلة عبر الصورة والوسائط المختلفة.
وبعد انهيار الشيوعية وانتصار النموذج الوحيد الذي قادته الولايات المتحدة، عادت بعض التحليلات إلى دور القوة الناعمة في صناعة الفارق بين القوتين المتصارعتين، متحدثة عن انجذاب شعوب أوروبا الشرقية والسوفيات للتجاوب مع صورة الغرب والاطلاع على مساحات الحرية والرفاه فيه مما أضفى أخيرا إلى سقوط حكومات الشرق الأوروبي واحدة بعد الأخرى. 19 (ص 1)
في قراءة مآل السباق الأمريكي السوفياتي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، يقع التركيز على نجاح واشنطن في استنزاف إمبراطورية سوفياتية في لهاث دائم للحاق بالتفوق العسكري الاستراتيجي للخصم الأطلسي، وعلى قدرة اقتصادها على التجديد والتقدم وصناعة مجتمع الرفاه وثروة لتمويل الطموحات الريادية العالمية. لكن عددا متناميا من المحللين يثير الانتباه إلى الدور الحاسم الذي لعبه الاستثمار في مجالات ” القوة الناعمة”، في إطار مخططات لحروب نفسية وتعبئة فكرية وعقدية قوية ودبلوماسية ثقافية نشطة، وإن اعتبر البعض أن الاعتمادات المخصصة لها لم تكن كافية.
في الحرب الباردة، كان الأمر يتعلق بالنسبة لواشنطن بربح حرب الأفكار لمنع الدعاية الشيوعية من استمالة نخب وجماهير أوسع، وترويج قيمها البراقة المضادة لليبرالية، وذات القدرة التعبوية الهائلة المتمحورة حول شعار المساواة والعدالة الاجتماعية. بمنتجاتها الفنية الواسعة الانتشار، بمؤسسات إعلامية موجهة للتبشير بالحرية والديموقراطية، بتجنيد فكري لنخب مثقفة مؤثرة في الرأي العام، بإحداث مراكز ومؤسسات ثقافية أمريكية وكذا برامج للمنح الجامعية وغيرها، وجدت أمريكا نفسها مدعوة للتنافس من أجل تصدير نموذج قومي جذاب من جهة، ونسف محاولات مضادة لنشر الأيديولوجيا الشيوعية من جهة أخرى.
كان دور الثقافة مهما لثلاث اعتبارات، أولا: لأنها حاملة أفكار وبالتالي آيديولوجيات. ثانيا: بالنظر إلى الفعالية الاختراقية للأفكار والصور بحيث تقفز على الحدود. و ثالثا: لأن التجربة التاريخية كرست وضع الثقافة كقطاع حيوي واكب دائما الحملات التوسعية، على غرار الحملات الاستعمارية التي سبقتها بعثات إحسانية، بحثية، استكشافية، تبشيرية مكثفة، من أجل تهيئة البيئة الذهنية والقاعدة الاجتماعية للقوة الوافدة 20.
لقد خاضت الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي حرب صور وأفكار ودعاية وتضليل وتشويه متبادل وشيطنة….كل ذلك عن طريق أدوات ثقافية وإعلامية للدمار الأيديولوجية الشامل.
في هذا السياق تم تشجيع الحركات الأيديولوجية والفكرية الموالية لهذا القطب أو ذاك، وترويج المنتجات الفنية الحاملة لرسائل سياسية موجهة وتعبئة دبلوماسيات تقفز على الحكومات لتخاطب مباشرة عقول الجماهير والنخب المؤثرة في صنع القرار.
في الحرب الباردة، كل الفنون تسيست، تمت تعبئة العلماء والسينمائيين والمثقفين، جمعيات وصحف وإذاعات مولت لرفع شعارات الحرية والديموقراطية، ولتمجيد نمط الحياة الأمريكي. كل شيئ اكتسى دلالة سياسية من الرياضة إلى الرقص والسينما وصولاً إلى القصص المصورة 21.
بعد الحرب العالمية الثانية، كانت أوروبا مركز اختبار سياسة التأثير لكبح انتشار الفكر الشيوعي ومنع تشكل قواعد حليفة للمعسكر السوفياتي. وضع برنامج فولبرايت، لفتح جامعات أمريكا أمام طلبة العالم الذين سيشكلون نخب الغد. امتدت عبر الأثير أصوات “صوت أمريكا”، و “أوروبا الحرة”. تم دعم المنظمات النقابية في أوروبا وغيرها لمنع سقوطها في الكماشة الشيوعية. بل عمدت وكالة الاستخبارات المركزية إلى خلق مؤتمر حرية الثقافة وهو ائتلاف عالمي في صفوف النخب لمناهضة المد الشيوعي…. 22
في ذات الإطار، توسع بمزيد من الخبرات المتراكمة والتجارب المثبتة النتائج دور وكالة الإعلام للولايات المتحدة USIA التي كانت ذراع أمريكا لتخطيط الدبلوماسية العامة بما فيها أساسا برامج التعاون الثقافي والتبادل الفني والتشبيك واستقطاب النخب المثقفة والمؤثرة. وكانت الوكالة تضم في ذروة الحرب الباردة 10 آلاف موظف بميزانية قدرها مليار دولار. أما وظيفتها العامة فتمثلت بتعبير السيناتور الأمريكي همير كابهارت في ” بيع أمريكا للعالم”، 23 أي قص حكايتها، أو بمعنى أصح تقديم قصة العالم برواية أمريكية، طبعا على حساب روايات المنافسين.
يقول راجان مينون: “قليل من الأمريكيين يقدرون إلى أي حد ساهمت برامج التبادل الثقافي وشرائح المستمعين لصوت أمريكا في إعلان وفاة الشيوعية”. 24
إن كان الاتحاد السوفياتي قد سقط بفعل استنزافه في سباق التسلح واندحار نموه الاقتصادي الإداري، فإن الجانب الثقافي كان هاما، لأن الخصم السوفياتي كان قد فقد صيته الأخلاقي من خلال سياسات وتدخلات مدانة كما خسر ريادته في قطاعات ثقافية وفنية ورياضية تقليدية.
لقد حملت الحرب الباردة الولايات المتحدة على الوعي بأهمية الحرب النفسية وضرورة العمل بشراسة من أجل احتلال الوعي والتصورات الجمعية والفردية للناس.
لكن وجب التذكير بأن الولايات المتحدة في هذه الجبهة لم تنطلق من الصفر. فأولى بوادر الدبلوماسية الثقافية الأمريكية بما هي مبادرات موجهة للتصدي لفعل دعاية معادية في أذهان الغير، تعود إلى الثلاثينيات من أجل مكافحة “الهجمة الثقافية” النازية بأمريكا اللاتينية. وصفت هذه الأنشطة النازية حينئذ بأنها كانت منظمة جيداً وموجهة لإضعاف العلاقات الثقافية بين الولايات المتحدة وأمريكا اللاتينية والتشكيك في أهداف ودوافع هذه العلاقات. في مقابل ذلك، اقترح الوفد الأمريكي بالمؤتمر الأمريكي لحفظ السلم في بوينوس آيرس عام 1936 إبرام اتفاقية حول النهوض بالعلاقات الثقافية في المجال الأمريكي، وتم اعتمادها بالإجماع. 25
نتيجة ذلك تم اعتماد برامج لتبادل المدرسين والطلبة وتشجيع التعاون بين المنظمات غير الرسمية التي تمارس تأثيرا على تشكيل الرأي العام من قبيل المنظمات الشبابية والطلابية، كل ذلك بهدف تحسين صورة أمريكا في الخارج أمام مناورات خصم كان رائداً في مناهج وتقنيات الحرب المعنوية والإعلامية. (2) 26
وتواصل الاهتمام من خلال توثيق علاقات التبادل الثقافي خصوصا مع بلدان البرازيل والأرجنتين والمكسيك. ونشطت حركة ملفتة لإيفاد فرق فنية ومعارض متنقلة وغيرها للتعبير عن وجه مشرق لأمريكا.
بعد نهاية الحرب الباردة، بدأت بعض بوادر الانعزالية الجديدة والدعوة إلى تقليص التدخلات والامتدادات الخارجية تخيم على السلوك الخارجي الأمريكي بما في ذلك في المجال الثقافي، حيث تم تقليص الاعتمادات التي تهم مجالات الدبلوماسية العامة، بالنسبة للسفارات ومنها المبادلات الثقافية. المراكز الأمريكية لتعليم اللغات أغلقت الأبواب. تولدت قناعة بأن التكنولوجيا يمكن أن تغني عن الدور البشري المحسوس. أحدهم تساءل: ” لماذا نحتاج الدبلوماسي: لإرسال الفاكس”؟ 27
أغلقت واشنطن المكتبة الأمريكية في بلغراد، كذلك مصير المكتبة الأمريكية في أنقرة. أغلق المركز الأمريكي للديموقراطية في فيينا، الذي كان يعمل على المصالحة بين الصرب والكروات والمسلمين. أقفل المركز الأمريكي في إسلام أباد أبوابه في وقت تصاعد المد المحافظ في البلاد. هذه الفضاءات لم تكن للزيارة ورفع العلم الأمريكي فقط بل مكانا للقاء بين فعاليات أمريكية ومحلية، ومجالا للاطلاع على التجارب الثقافية والإبداعية المختلفة 28. إنها شكوى أنصار القوة الناعمة الذين انتقدوا انسحابية واشنطن من ساحة تحقيق الامتياز المعنوي وكسب حرب الصورة.
أمريكا والعالم العربي الاسلامي: قوة ناعمة على جبهة الحرب ضد الإرهاب
لم تدخل القوة الناعمة الأمريكية إلى الشرق الأوسط مع مرحلة ما بعد 11/9/ 2001، لكن المؤكد أن الاهتمام الأمريكي بالمنطقة على هذا المستوى لم يتخذ قبل ذلك أبدا هذا القدر من الانخراط وهذا المستوى من البرمجة والتخطيط الواضح الأهداف. بالطبع وجود عدو واضح المعالم ملموس التهديد يحفز عداد ترسانة المواجهة ومداخل الاستهداف. وفي هذه الحالة بالضبط، يتأكد أن الدبلوماسية الثقافية والإعلامية تجاه العالم العربي الإسلامي استمرار طبيعي لمنطق القوة الصلبة. من الضغط لتعديل البرامج التعليمية، إلى إنشاء قنوات تلفزيونية وإذاعية متحدثة باسم المصلحة الأمريكية وصولاً إلى تحفيز الإصلاحات في المجال الثقافي والديني، وتكثيف برامج البحوث حول الخلفيات الثقافية والدينية للإرهاب الصادر من هذا المجال الجغرافي الحضاري، كلها محاور عمل حددها تشخيص للحالة الاستراتيجية المستجدة غداة تفجيرات 11 سبتمبر.
لم يكن يتعلق الأمر فقط بمحاولة إيجاد جواب عن سؤال ” لماذا يكرهوننا؟” التي طرحها بعض الأمريكيين بسذاجة ربما وطرحه آخرون باستنكار. لم يتعلق الأمر ببحث القوة العظمى عن عناصر فهم من أجل مواءمة استراتيجياتها المستقبلية أو مراجعة أولوياتها ومواقفها على ضوء وجهات نظر الإنسان العربي المسلم. العكس هو الصحيح. كان المطلوب ولايزال بالنسبة لواشنطن تجفيف المنابع الاقتصادية والفكرية التي تنتج في نظرها إنسانا كمشروع “جهادي”، مرشحا للانتقال من الحالة الغضبية الناقمة على سياسة ما إلى مناهضتها وضرب المصالح المرتبطة بها اقتصاديا وسياسيا، وأكثر من ذلك السعي إلى النيل منها بالعنف المادي 28.
غني عن البيان أن مشاعر مناهضة أمريكا ليست وليدة التدخلات الأمريكية الأخيرة في المنطقة بدءاً من حرب العراق الأولى عام1991. إن ذلك الشطر الشعري الذي سرى على ألسنة الطلبة والمثقفين العرب من أجيال ما بعد النكسة “أمريكا هي الطاعون والطاعون أمريكا” يلخص بالبلاغة الشعرية لمحمود درويش حالة الاستياء العارمة من تدخلات أمريكية لم تأت منها إلا الهزائم والخيبات وتكريس الوضع القائم المتخلف سياسيا وتنمويا وعسكريا.
تحتفظ الذاكرة العربية الإسلامية بدور أمريكا الحاسم في ترجيح كفة إسرائيل خلال حرب أوكتوبر والذي قوبل باستخدام العرب لسلاح النفط، ودورها التقليدي في تعزيز أو تنصيب دكتاتوريات شمولية قمعت شعوبها دون أن تمنحهم حظاً من التنمية والعدالة الاجتماعية، ودورها في احتضان إسرائيل في سياستها لتأبيد احتلالها للأرض الفلسطينية والأراضي العربية الأخرى، ناهيك عن تقاسم الشباب العربي ونخبه المتعلمة لشعوب العالم، في أمريكا اللاتينية وآسيا أساسا غضبا من تدخلات متواترة للإطاحة بأنظمة وطنية أو دعم حكومات يمينية أو عسكرية.
وجاءت الحرب الأولى على العراق التي قادتها أمريكا في إطار تحالف دولي وعربي 1991 لتؤجج مشاعر مناهضة أمريكا حين لم تصدق الجماهير العربية أن التدخل تم نصرة للشرعية الدولية، ودليل ذلك استمرار سياسة الكيل بمكيالين ومواصلة إطلاق يد إسرائيل في التنكيل بالشعب الفلسطيني. وتزايد هذا الغضب مع اشتداد الحصار على العراق وتداعياته الوخيمة على أطفاله وشعبه عموما، ثم احتدمت هذه المشاعر في العالم العربي والإسلامي خلال الغزو الأمريكي للعراق عام 2003، بدعوى انكشف زيفها سريعا، اسمها الأسلحة العراقية المحرمة دوليا والبرنامج النووي، ناهيك عن فضائح إهانة العراقيين في سجن أبو غريب وقتل المدنيين في القرى الأفغانية. كانت محطة فارقة في علاقة واشنطن بالرأي العام في هذا المجال الجغرافي الكبير، كان لها ما بعدها.
لكن قبل هذا المعطى الميداني الذي جسدته صورة الدبابة الأمريكية التي تجتاح بلدا عربيا أو الجندي الذي ينصب العلم الأمريكي في قلب بغداد، لا يمكن إغفال التحولات التي عرفها المنظور الأمريكي للعالم العربي الإسلامي، غداة انهيار القطب السوفياتي وطي صفحة حرب باردة كونية من أربعة عقود ونصف. هذا السقوط غير المتوقع بسرعته وطريقته، حرك صناع القرار والمرجعيات الاستراتيجية في واشنطن في اتجاه البحث عن المرشح للعب الدور. حينها طرحت مقولة “العدو الأخضر” في إشارة إلى الإسلام، لكن المقولة طورت ضمن نسق فكري أكثر شمولية مع ظهور نظرية ” صدام الحضارات” لصمويل هنتنغتون.
من مقال نشر في مجلة “فورين افيرز” الشهيرة، إلى كتاب أكثر تفصيلا، كان هنتنغتون رائدا في وضع العامل الثقافي على رأس خطوط الانشطار والتدافع الجديدة في عالم ما بعد الحرب الباردة 29 . وبغض النظر عن تأرجح النظرية بين: ” واقعية” التشخيص وطابعها التحريضي الإيديولوجي، فإن النظرية كان لها منصتون ومريدون (لعل في مقدمتهم المحافظون الجدد الذين هيمنوا على إدارة جورج بوش الابن)، وقد نبهت صناع القرار الاستراتيجي الأمريكي إلى مجال جغرافي وحضاري يختزن ثقافيا عناصر التهديد وتحدي الهيمنة. لقد تغلغل هاجس الرهاب الإسلامي شيئا فشيئا إلى العقل الاستراتيجي الأمريكي الذي مضى منطقيا إلى الاستثمار في البحث والاستشراف حول اتجاهات الرأي ومنظومات القيم ومتابعة التطورات على مستوى مقررات التعليم والممارسة الدينية والإسلام السياسي ودور المرأة وغيرها من القضايا التي ترتبط بشكل وثيق بكيان المواطن العربي المسلم، وخصوصا في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.
وجاءت هجمات 11 سبتمبر لتفتح صفحة جديدة في علاقات أمريكا بالعرب والمسلمين. لقد ردت أمريكا بالقوة الصلبة عبر غزو أفغانستان وفتح مركز الاعتقال في غوانتانامو وغزو العراق في 2003، لكن ماذا بعد؟
يعتقد جوزيف ناي أن “حرب الأسابيع الأربعة في العراق عام 2003 كانت عرضا باهرا للقوة الصلبة التي أسقطت طاغية، ولكنها كانت باهظة التكاليف لقوتنا الناعمة، أي لقدرتنا على اجتذاب آخرين إلى جانبنا”. 30
يذكر أن استطلاع الرأي لمعهد بيو أظهر حينئذ نزولا حادا في شعبية أمريكا حتى في بلدان مثل إسبانيا وإيطاليا، ناهيك عن العالم العربي الإسلامي من المغرب إلى تركيا إلى جنوب شرق آسيا، وهي بلدان تحتاجها واشنطن على المدى الطويل لوقف تدفق الإرهابيين والأموال الملوثة والأسلحة كما يقول ناي. 31
وينقل الكاتب عن دبلوماسي سابق في باكستان: ” إن غزو أميركا للعراق هدية كاملة للأحزاب الإسلامية”. ومن جهتهم قال مسؤولو المخابرات أن القاعدة وغيرها من المجموعات الإرهابية كثفت كسبها للمجندين في صفوفها على ثلاث قارات باستغلال الغضب المتصاعد على حملة أمريكا الحربية على العراق. وبعد الحرب أظهرت الاستطلاعات ازديادا في شعبية ابن لادن وهبوطا في شعبية أمريكا حتى في بلدان صديقة لواشنطن مثل الأردن وأندونيسيا. 32. بل حتى في أوروبا تبدد فيض التعاطف مع أمريكا المثخنة بجروح التفجيرات في نيويورك.
ارتفعت أصوات داخل مركز القرار ترى أنه ينبغي تجاهل هذا العداء الجماهيري مما يعكس رؤية محدودة الأفق ذلك لأن وجود قواعد اجتماعية عريضة تناهض أمريكا يعني وجود حاضنة لنمو الحركات السياسية المناوئة أو الإرهابية العنيف. المهمة المطروحة إذن هي العمل على عزل هذه الحركات عن محيطها الاجتماعي. 33
وقد وجدت هذه القناعة طريقها إلى قائمة المحاور الرئيسة للاستراتيجية الأمريكية لمكافحة الإرهاب 2005 والتي شملت مواجهة الدعم الأيديولوجي للإرهاب من خلال استراتيجيات تواصلية وإدماج البعد التواصلي في مسلسل صنع السياسات. لقد حذر بعضهم: “نحن متأخرون عن رواد الدعايات المناهضة لنا في قول روايتنا للعالم وحقائق أمريكا” 34.
اقتنعت الاستراتيجية الأمريكية أن النصر في ميدان الحرب ليس كافيا ولن يضمن أمن أمريكا ولن ينهي التهديدات الإرهابية التي تتربص بها، بل على العكس، حذرت العديد من الأصوات، ومنها شخصيات تنتمي إلى المدرسة الواقعية التي لا تهادن في السياسة الخارجية، من أن الاستعراض العسكري الأمريكي وإن حقق لأمريكا أهدافا فورية ميدانية مهمة، يخلق أجيالا جديدة من الناقمين على أمريكا في مجال جغرافي واسع، ويغذي احتياطي الكراهية الموجه صوب سياسات واشنطن.
من هنا، انصبت جهود صناع الدبلوماسية العامة تجاه المنطقة على فتح مداخل جديدة لتحسين صورة أمريكا وترويج قيمها، من جهة، وتعزيز الضغوط ” الناعمة” من أجل إحداث تغييرات جذرية على المنظومة التعليمية والدينية والفكرية التي تخصب في نظر واشنطن مشاعر الصدام والكراهية تجاه القوة العظمى.
تساءل بعض الباحثين الأمريكيين: “في الوقت الذي كانت الوهابية تمول بملايير الدولارات البنيات التربوية عبر المدارس الدينية في العالم الإسلامي، لماذا لا تجد الولايات المتحدة طرقا وقنوات لتشجيع الشرائح المعتدلة على النهوض بقطاع تربوي تعليمي حديث ومجدد؟”. اعتبرت الباحثة هلينا فين أن عائلات فقيرة في بلدان مسلمة ترسل أبناءها إلى المدارس الدينية ليس فقط بقناعة بالتعليم الديني بل لأن هذه المدارس توفر لهم المبيت والطعام وأن آباء عديدين يتمنون لو يتعلم أبناؤهم الرياضيات والعلوم والآداب وعلوم الكمبيوتر بدل العلوم الدينية، لكنهم لا يملكون الخيار 35.
وأضاف أن بإمكان الولايات المتحدة مزاحمة الأيديولوجيات المتشددة في هذا المجال ودفعها إلى الهامش. وفي سياق صعود موجة مناهضة أمريكا في العالم، وخصوصا في الشرق الأوسط، فإن أمريكا مدعوة إلى إرساء الجسور مع الغالبية الصامتة في العالم المسلم كي لا يظل الطريق سالكاً أمام جماعات الإسلام المتشدد.
اقترح الباحث أنه إن أرادت أمريكا تخصيب صورة جيدة عنها خارج الحدود فعليها العمل على خمس واجهات: تشجيع إصلاح البرامج التعليمية الأجنبية، توسيع برامج التبادل، تسهيل الولوج إلى المؤسسات والقيم الأمريكية، تشجيع التفاهم العابر للثقافات وإنعاش حركات التطوع الأمريكي 36.
أما الاصلاحات التعليمية التي توجد في صلب الاهتمام فإنها مدعوة إلى التوجه نحو تشجيع الحس النقدي والفكر الحر ومساءلة التراث وإرساء أنظمة تربوية متنورة في البلدان المهددة بالتطرف وتدريب الأساتذة ودعم الترجمة… للخ. كما يتعلق الأمر بانفتاح أكبر على فئات الأكاديميين والطلاب والصحافيين والمثقفين في إطار برامج تبادل وبعثات. والمساهمة في البرامج الإنسانية والتطوعية لإعادة البناء والتنمية37.
بدا أن نطاق الاتفاق يتسع حول قناعة أن الدبلوماسية الأمريكية تواجه معضلة. “نحن ننخرط في حرب أفكار، ولا غنى عن ذلك في إطار محاصرة المد الإسلامي الراديكالي، لأن ملعب الانتصار ليس على الساحة بل في العقول” 38.
بعض الباحثين الأمريكيين أقر بأن ثقافة مناهضة أمريكا لها دوافع موضوعية في سلوك أمريكا وبعض سياساتها، أما البعض الآخر فظل حبيس الاعتقاد أن المسألة تواصلية فقط، يتم خلالها حجب الحقائق وإغراق الشرائح الواسعة بالدعايات المناهضة. بالنسبة لهذا الاتجاه “خصوم أمريكا لا يريدون لشعوبهم أن يسمعوا عن القيم الأمريكية للديمقراطية والمساواة والتسامح. إنهم يعتبرون هذه القيم أكثر خطورة من الأسلحة التي نستخدم. لقد ساهمت في الإطاحة بالنازية وبالسوفيات في الحرب الباردة، وهم يعرفون خطورتها”39.
في هذا السياق، وفي دجنبر 2002، انطلقت في واشنطن مبادرة سميت “شراكة الشرق الأوسط” تهدف إلى دعم جهود الحكومات في الإصلاح على مستوى: السياسة، الاقتصاد، التعليم، النهوض بالمرأة. اليزابيث شيني، رئيسة المبادرة أكدت في أبريل 2005 أمام لجنة الشؤون الخارجية في مجلس الشيوخ ضرورة العمل على إحداث تغيير في برامج التعليم في البلدان العربية، خاصة مناهج التنشئة الدينية والثقافية التي تعتبر في نظر الأمريكيين مصدرا أساسيا لانتشار التطرف والإرهاب. وطلبت من إدارة جورج بوش رصد 30 مليون دولار لتمويل المبادرة في الجانب المتعلق بالبرامج التعليمية برسم عام 2006. 40
وعلى الضفة الأخرى المستهدفة بهذه الشراكة، تم بالفعل التجاوب مع مطالب إصلاح المقررات، لا سيما في دول اليمن، السعودية، مصر… تجاوب تحت ضغط سياسة بوش “من ليس معنا فهو ضدنا”. 41
أما الجانب الثاني الذي حظي بعناية ملحوظة، فهو الإعلام والتواصل الذي تجسد الاستثمار فيهما من خلال إنشاء دعامتين أساسيتين للدبلوماسية العامة هما إذاعة سوا بتاريخ مارس 2002، وقناة الحرة ابتداء من فبراير 2004. الهدف الأساسي للاثنين تمثل في الترويج باللغة العربية للدبلوماسية الأمريكية في الوطن العربي.
كأن واشنطن تريد استنساخ تجارب يزكي الباحثون اليوم فعاليتها أيام الحرب الباردة، ويتعلق الأمر بإذاعة صوت أمريكا وأوروبا الحرة. غير أن المشروعان يواجهان بانتقادات واسعة في الحقل البحثي الأمريكي لجهة التصور التبسيطي الذي أطر المشروع.
فيما يخص إذاعة سوا، يبدي بعض المراقبين استياء كبيرا من هيمنة المادة الترفيهية الموسيقية بنسبة تناهز 80 في المائة. فكرة إغراق الجمهور بالترفيه لا تقنع الباحث روبيرت رايلي الذي يرى أنه: “لا يمكن شن حرب الأفكار ضد خصوم لا نعرف جوهر أفكارهم. حرب الأفكار لا يمكن ربحها إلا مع أناس يفكرون“. 42 هذا يحدد طبيعة المستهدفين بهذه الحرب وهم النخبة المثقفة في نظره. يقول إنه: “من العبث توجيه أفكارنا نحو فئات لا تفكر. إنها حرب عابرة للأجيال، تمتد على مدى طويل. وهنا الاختلاف بين عمل دبلوماسي تقليدي يعمل في مدى منظور بمناورات وأهداف منظورة وعمل يشتغل على الأعماق الفكرية والثقافية فيقتضي لذلك زمنا طويلا” 43.
إن هدف الدبلوماسية العامة الأمريكية هو الوصول إلى الفئات المؤثرة في البلدان الأخرى، خارج نطاق القنوات الدبلوماسية الثنائية، بأفكار قوية بما يكفي لتعزز انخراط هذه الفئات في التوجهات السياسية لواشنطن.
لقد استخدمت أمريكا سابقا هذه الاستقطابية عبر الفن من خلال برنامج ويليس كونوفر للجاز بإذاعة صوت أمريكا الموجه إلى الجماهير السوفياتية خلال الحرب الباردة. كان واحدا من أنجح البرامج لكن في طبق مشكل من الأخبار والزوايا والبرامج ذات المضمون القوي. اليوم، انقلبت الصورة وباتت الموسيقى أهم مكون على مستوى الجدول الزمني لإذاعة سوا، وهذا أمر لا يستسيغه بعض المهتمين بالدبلوماسية العامة في أمريكا.
لسان حالهم يقول “على هذه المواد الإعلامية أن تقدم بالأحرى طبيعة الإنسان الأمريكي ومبادئ أمريكا. الموسيقى وحدها لا تستطيع فعل ذلك”.
يلاحظ نفس الكاتب أنه ليس هناك اتفاق على طبيعة علاقة الاعلام الموجه إلى الخارج بالدبلوماسية العامة، ومدى استقلالية المادة الإعلامية عن عناوين السياسة الأمريكية ليخلص إلى القول: “حين يقول أحدهم أن موسيقى بريتني سبيرز تمثل أصوات الحرية، فالأمر ليس صحيحا بل كاريكاتوريا” 44.
من خلال تكثيف المادة الموسيقية والترفيهية يراهن صناع الدبلوماسية العامة على الشرائح الشابة المقبلة على الألوان الفنية الغربية، بحجة أن الديموقراطية فعل جماهيري. والحال أن الأمر يتعلق بمواد سريعة الاستهلاك بلا معنى فعلي، حسب البعض. منطلق هذه الأصوات الناقدة أن الجماهير تقودها نخب نوعية.
يقول الباحث: “إن أردنا أن يكون الآخر عقلانيا، ينبغي أن نمده بمعطيات عقلانية تساعده على تمثل الحياة بهذا المنظار. ثمة في العالم الإسلامي توجهات دينية منفتحة على العقل، ينبغي تشجيعها. ينبغي توجيه الدبلوماسية العامة لتشجيع نشاط المثقفين المسلمين العقلانيين الذين يدعون إلى مواءمة المرجعية الدينية مع مكتسبات القانون الوضعي وحقوق الإنسان، والذين يواجهون بعنف من قبل الحركات المتشددة، لأنهم يشكلون خطرا على توجهاتهم المتشددة من الداخل”. 45
يمكن القول أن العالم العربي الإسلامي وهواجس التهديد الأمني والسياسي والممانعة الأيديولوجية التي يترتب عنها التشويش على الحضور الاستراتيجي وحتى الاقتصادي للقوة الأمريكية بمناطق حيوية عبر العالم، كان وراء حالة الاستنفار التي أعلنت على صعيد الدبلوماسية العامة الأمريكية بأبعادها الثقافية والإعلامية والبحثية.
لكن الانتقادات داخل أمريكا لهذا التوجه تبقى قوية، خصوصا لجهة المخصصات المالية الضعيفة للدبلوماسية العامة46. وتتجه الانتقادات أساسا لمضمون هذه الدبلوماسية التي تقول أكثر مما تنصت، حيث يسود انطباع عام بعدم اهتمام أمريكا بوجهة نظر العرب والمسلمين.
ويرى البعض أن مؤسسات مثل قناة ” الحرة” وإذاعة ” سوا” عززت الشعور بعدم مصداقية أمريكا واهتمامها ليس بحرية التعبير بل بخلق أصوات ناطقة باسمها.
وعلى ميدان التنافس، لم تصمد هذه الأبواق الأمريكية طويلا، استنادا إلى إحصائيات المشاهدة. في السعودية بينت دراسة أن 82 في المائة يشاهدون الجزيرة و 75 في المائة يشاهدون العربية فيما لا يتعدى من يشاهد الحرة 16 في المائة. في الإمارات لا تتجاوز النسبة 11 في المائة مقابل 52 في المائة للجزيرة. 47
ويجد الباحث عمر هادي وبيتر سوينغر أن الاستراتيجية التواصلية التي تنفذها المؤسستان، وغيرهما، صنيعتا مرحلة الأزمة، لا تأخذ بعين الاعتبار تنوع شرائح الرأي العام على مستوى المواقف والأولويات. 48
خارج نقد الفعالية، يسائل بعض الباحثين جوهر مبادئ وآليات وأهداف القوة الناعمة. يحاولون الخروج بها من منطق الحرب الدعائية الوقائية، إلى تصور أكثر تفاعلية يقوم على مراجعة تطال حتى السياسات على الأرض، بحثا عن تفاهم على قاعدة المصالح، لا حرب باردة بين أنانيات جامدة.
يذهب جون واتربوري، الباحث المعروف باهتمامه القديم بمنطقة الشرق الأوسط والسياسة في العالم الإسلامي، أبعد من السؤال السطحي: لماذا يكرهوننا؟ ليميز بين شريحة قليلة في العالم الإسلامي منخرطة عقديا في استهداف الولايات المتحدة والتحريض عليها، وبين الغالبية الساحقة الغاضبة من سياسات واشنطن، وكيلها بمكيالين خصوصا تجاه الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، ودعمها للأنظمة الشمولية. إنها مشاعر قد تجعل بعض المسلمين يتعاطفون مع العمليات المستهدفة لأمريكا، لكنهم في الأصل لا يعادون قيم أمريكا ومؤسساتها وشعبها، بل يناهضون سياساتها.
يعود واتربوري إلى عام 2002 حين قام معهد غالوب بنشر نتائج استطلاع للرأي ذاع صيته على نطاق واسع، حول صورة أمريكا في عدد من البلدان العربية. من بين 10 آلاف مستجوب في تسعة بلدان مسلمة، فإن شريحة المناهضين لأمريكا تراوحت بين 33%بتركيا إلى 68 % بباكستان. هؤلاء وصفوا أمريكا بأنها ظالمة، عدوانية ومتعجرفة.. لكنها آراء لا تمس الشعب الأمريكي أو مؤسساته بل الحكومة وسياساتها. 49 في لبنان ذاته حيث الاستقطاب يكتسي حدة أعلى، بين استطلاع للرأي أن نصف المستجوبين يحبون الشعب الأمريكي، لكن 81 % يعارضون حكومة واشنطن.
يسخر واتربوري من التحليلات التي اعتبرت بعد 11 سبتمبر أن أمريكا مستهدفة بالنظر إلى اختياراتها الديموقراطية واقتصادها الحر ورخائها، واصفا إياها بأنها تبسيطية ومريحة لعقل كسول لا يريد أن يبحث عن الحقائق. إنها تحليلات تتغاضى عن كون واشنطن تنكرت مرات لقيمها ذاتها 50.
ضدا على هنتنغتون، يريد واتربوري أن يخرج بالاستقطاب من دائرة صدام القيم والثقافات، إلى أزمة مصالح لا يتم تدبيرها كما ينبغي. وهو يلاحظ أن القيم الغربية مشاطرة على نحو واسع في العالم العربي الإسلامي، لكن المشكل هو أن القوى المهيمنة لا تبذل مجهودا لفهم مصالح الآخرين.
بالنسبة لهذا الباحث، لا مجال للوهم بأنه يمكن القضاء تماما على نزعات مناهضة أمريكا في العالم العربي الإسلامي، خصوصا أن هذه النزعات ذات انتشار كوني، وموجودة في البلدان الأكثر صداقة وقربا من أمريكا. ثمة جوانب طبيعية في الموضوع، حسب واتربوري، فأمريكا تهيمن على العالم عسكريا واقتصاديا، وهي ليست الأولى في ذلك. سبقها الرومان، العثمانيون، بريطانيا. والتجربة التاريخية بينت دائما أن الشعوب التي تواجه الهيمنة تستشعر نوعا من النقمة تجاه القوة المهيمنة، وبالتالي فالمشاعر المناهضة لأمريكا في جزء منها مسألة مفهومة. وفي ذات الوقت، تبدي هذه الشعوب الانبهار والإعجاب بالمؤسسات التي تصنع هذه القوة. إن مؤسسات أمريكا وأنظمتها القضائية ونقاشاتها المفتوحة وأنظمتها التعليمية تجذب حتى الإسلاميين الذين يوفدون أبناءهم للتعلم في جامعاتها. هذا الإعجاب بالمؤسسات الأمريكية مجال خصب يظل غير مستغل بالشكل الكافي لدى صانع القرار الأمريكي حسب واتربوري الذي يركز على جاذبية النظام التعليمي كميدان واعد للاستثمار، يكرسه الإقبال الكبير على المدارس والجامعات الأمريكية ذات الصيت القوي 51.
ويخلص واتربوري إلى ضرورة العمل على عدة جبهات من أجل تحسين صورة أمريكا: مراجعة بعض السياسات تجاه المنطقة، خصوصا من حيث دعم الأنظمة الشمولية، ودبلوماسية عامة هجومية لشرح السياسات واستكشاف فرص للتعاون الدولي بشكل يراعي حاجيات ووجهات نظر الطرف الآخر.
في الوقت الذي تتكرس القناعة بضرورة تعزيز الاستثمار في القوة الناعمة، وخصوصاً في الدبلوماسية العامة بأبعادها التواصلية والثقافية، من أجل معالجة الصور والتمثلات السلبية حول أمريكا في العالم العربي الإسلامي، فإنه لا انسجام على ما يبدو في التصور لمضمون ومبادئ هذا التوجه. إن هذه الدبلوماسية كما تمارس حتى الآن رسائل في اتجاه واحد، مما ينسف من الأساس مفهوم الدبلوماسية الثقافية بوصفها عملية تبادلية صرفة، تقول وتسمع، تعطي وتأخذ.
إن مفهوم القوة الناعمة لا يتحقق فقط باستخدام وسائل غير عسكرية للحصول على مكاسب من طرف آخر. بل يتعلق الأمر أيضا بغياب الشعور بالجانب الإكراهي و الإملائي في العلاقة. وهو شعور يتقاسمه الجمهور العربي الإسلامي الذي يفهم بسهولة أن الإصلاحات التعليمية والبرامج الإعلامية والتواصلية التي طرحت على الأجندة، تندرج في إطار ضغط دبلوماسي أقرب إلى منطق الحرب منه إلى منطق السلام، إلى الاخضاع أقرب منه إلى الشراكة. إن غياب هذا العنصر النفسي الإدراكي يجعل “القوة الناعمة” الأمريكية في السلوك الاستراتيجي للإدارات بواشنطن، “قوة صلبة” رديفة، رهينة المنطق الأمني الاستراتيجي المحافظ.
ولعل ارتباط هذا الإنزال الأمريكي في مجال الدبلوماسية العامة تجاه العالم العربي الاسلامي باللحظة الاستراتيجية التي انبثق منها، يضفي على هذا الجانب من الدبلوماسية طابع التصلب و ” العنف الرمزي” الذي يعيق دورها الأصلي المتمثل في تهيئة الأرضية النفسية والبيئة الإدراكية المناسبة لتنفيذ سياسات المصلحة الوطنية وكسب جماهير ونخب مستعدة للانخراط طوعا في هذه الأهداف.
ولعل وضع أمريكا كقوة عظمى مهووسة بالحفاظ على الريادة والدفاع عن موقعها المهيمن في الساحة الدولية، يطبع قوتها الناعمة تجاه العالم العربي الإسلامي بخاصية التصلب و ربما ” العدوانية الناعمة”، ذلك أن تقاليدها في هذا المجال خارج سياقات الصراع وعلاقة الإخضاع/ التحدي، تعتمد القوة الناعمة الأمريكية بوجهها غير الإرادوي وغير الرسمي غالبا. أنها قوة تستند أساسا إلى حيوية نسيجها الاقتصادي الذي جعل من منتجاتها الاستهلاكية علامة غير قابلة للتنافس، وخارقة للحدود. 52 إن علامات مثل كوكا كولا وماكدونالدز ونايكي وغيرها أصبحت أسماء متعددة لأسطورة القوة الأمريكية و كذاك الشأن مع مشاهير الموسيقى وأفلام هوليود التي تحكي قصص النجاح في هذا البلد وتشكل على نحو مثير التفاعل الوجداني والفكري لمليارات البشر مع العالم. بالطبع، لا تتخلف الإدارة الأمريكية عن توفير الرعاية والتشجيع الكاملين للشركات التي تدر ملايير الدولارات على البلاد، لكن الاستثمار التقليدي المؤسساتي في بنيات وبرامج تعاون ثقافي وعلمي وفني في الخارج يبقى محدودا مقارنة مع الأولويات الأخرى للسياسة الخارجية الأمريكية.
على خلاف ذلك، تكتسي القوة الناعمة وخصوصا في وجهها الدبلوماسي الثقافي طابعا أكثر تمركزا وإرادة في أجندة قوى تقليدية وأخرى صاعدة على المستويين الدولي والإقليمي.
فرنسا: “البريستيج” ثابت في السياسة الخارجية
تقدم فرنسا نموذج دولة ذات قوة ناعمة تعتمد دبلوماسية ثقافية ولغوية تقليدية. استفادت فرنسا من ريادتها في التاريخ الأدبي والفكري منذ عصر الأنوار وكرستها الثورة الفرنسية منارة لقيم الحرية والعدالة. تبلور “البريستيج” الفرنسي في تأثير الأدب الكلاسيكي وإشعاع عطاءات نخب من المفكرين والفلاسفة والباحثين الاجتماعيين، سواء من الفرنسيين أو من الذين فجروا عطاءاتهم على أرض فرنسا. انضافت إلى ذلك جاذبية مؤسساتها التعليمية التي كونت مبكرا نخبا عادت إلى بلدانها لتحكي سحر الإبداع والحارة الفرنسية، دون إغفال صيت فن الطبخ وتطور فنون الموسيقى والرسم في حضنها. كان يتعلق الأمر بإشعاع حضاري ثقافي وفني مارس غوايته حتى على أشد خصوم فرنسا في وجهها الإمبريالي الاستعماري.
لقد نظر إلى الدبلوماسية الثقافية كقطاع حيوي منظم من السياسة العامة للدولة بفرنسا التي أبدت اهتماما خاصا بنفوذها الثقافي في الخارج ابتداء من نهاية القرن 19. (53 ) وقد سجل منظر ” القوة الناعمة الأمريكية” جوزيف ناي في دراسته لعام 2004 أن فرنسا من أكثر البلدان إنفاقا على العلاقات الثقافية الخارجية من حيث نسبة الإنفاق إلى كل مواطن. وقد راكمت فرنسا خبرات طويلة في الاستثمار الثقافي للمرجعيات التاريخية والثقافية التي تقاسمتها مع عدد من البلدان. إنها دبلوماسية إرادوية مرتبطة بتأطير مالي وسياسي وإداري قوي من المركز.
يتحدث أندريه مالرو عن هذه ” الصناعة” الفرنسية القديمة قائلا : “هناك دول لا تصبح أقوى إلا حين تصبح أقوى في عيون الآخرين…”. (54) بدأ تمدد المؤسسات الثقافية الفرنسية قبل 1914 ، متمركزة حول الحوض المتوسطي، ووسعت نطاقها لأمريكا الجنوبية وباقي أوروبا خلال ما بين الحربين، قبل أن تنتشر في آسيا منذ أكثر من عقدين. 55
من العصر الذهبي للنفوذ الثقافي الفرنسي وحتى اليوم، جرت مياه كثيرة تحت الجسر، بفعل تحولات خريطة توزع القوى المؤثرة، وتراجع وضعية اللغة الفرنسية قطب الرحى في الدبلوماسية الثقافية لفرنسا، واكتساح تكنولوجيا التواصل لساحة الاستهلاك والتبادل الثقافي، ناهيك عن تراجع قدرة الاقتصاد الفرنسي على تمويل تدخلات خارج الحدود ذات طابع ثقافي. ومع ذلك يحتفظ العقل السياسي الفرنسي بقناعة ثابتة حول ارتباط القوة الناعمة والدبلوماسية الثقافية كأداة لها بمستقبل فرنسا في خارطة القوى الدولية، استراتيجيا واقتصاديا.
بل إن كزافيي داركوس، مدير المعاهد الفرنسية، الشبكة العالمية من المراكز الثقافية واللغوية التي تمثل ثقل الثقافة الفرنسية، قال عام 2011: ” في سياق أزمة اقتصادية عالمية، فإن بلدنا سيعوض تراجعه النسبي في التنافس الصناعي عبر الحفاظ على نفوذها الثقافي. الدبلوماسية الثقافية ليست ترفا، بل رهان حيوي”. 56
في 2011، لخصت هذه الأرقام حضور الدبلوماسية الثقافية الفرنسية على الساحة: 161 دائرة للتعاون والعمل الثقافي، 101 معهد ثقافي، 445 رابطة فرنسية، 50 ألف تظاهرة ثقافية، 8 آلآف فنان ومثقف زاروا 150 دولة، 9000 كتاب ترجم إلى لغة أجنبية، 215 مليون بيت يشاهد القناة الخامسة الفرنكوفونية، 284 ألف و 600 طالب أجنبي في فرنسا، 15 الف و 380 طالب أجنبي يستفيد من منحة الحكومة الفرنسية. 57
وبما أن لغة موليير في صلب هذه الدبلوماسية الثقافية، فإن تراجع موقع الفرنسية في خضم موجة التواصل التكنولوجية، ووسائط التواصل الاجتماعي يثير نقاشا في الدوائر الفرنسية حول سؤال: ما العمل من أجل استعادة المبادرة. 5
اليوم وبسبب الاقتطاعات المتواصلة في الميزانيات، وتزايد الحاجيات واحتدام المنافسة بين النماذج الثقافية وتحولات عالم مفتوح على جميع التأثيرات الثقافية، يبدو حسب بعض المهتمين أن “فرنسا لم تعد تملك إمكانيات تفعيل طموحاتها”. 58
إن وكالة التعليم الفرنسي بالخارج تسلتهم لوحدها أكثر من 56% من الاعتمادات الموجهة للدبلوماسية الثقافية، ليتوزع الباقي على مجمل الأنشطة الأدبية والفنية والتواصلية. إنها أزمة براديغم بالنسبة للبعض: فرنسا لم يعد بإمكانها الاعتماد على الوسائل العمومية من أجل تصدير ثقافتها وقيمها. والحاجة تغدو ملحة إلى آليات جديدة للتأثير خارج نطاق القنوات المعتادة عبر وزارتي الخارجية والثقافة. إنها دعوة إلى ثورة ثقافية تعطي مزيدا من أدوات العمل والانتشار للفنانين والفاعلين المباشرين على الميدان، استلهاماً للنموذج الأمريكي.
والحال أن اقتصاد الثقافة الفرنسي لا يوفر نفس الحوافز وأدوات الانتشار والإنتاج التي يتيحها النظام الأمريكي القائم على حيوية السوق والقدرة الهائلة للشركات الكبرى شبه الاحتكارية.
قلق كبير يسود أوساط صناعة القرار والدبلوماسيين والقادة لأن التشخيص لا اختلاف عليه: فرنسا تخسر النقاط في معركة الإشعاع الثقافي واللغوي. وهو ما يفسر استراتيجيا على أنه نزيف في موارد القوة الشاملة التي تحدد التنافسية السياسية والاقتصادية لفرنسا في عالم السباقات المحمومة.
ليس مستغربا أن تبرز فرنسا على واجهة التحرك الدولي المضاد في مناهضة التوجهات النيوليبرالية الرامية إلى تحرير المبادلات الثقافية والفنية واعتبار المنتج الثقافي سلعة لا تخرج عن معايير السوق الحرة وقواعد منظمة التجارة العالمية المانعة لسياسات حماية المنتوج الوطني. الدفاع عن العلامة الفرنسية وحشد الأصوات عبر العالم للالتفاف حول شعار ” الاستثناء الثقافي” يشكل حرب بقاء بالنسبة لفرنسا59.
بالنسبة للفرنسيين، العالم اكتشف وهم التبادل الثقافي لأن الحقيقة أنها هيمنة ثقافية، مادام الإنتاج الثقافي والفني الفرنسي والأوروبي عامة لا يستطيع المنافسة في البر الأمريكي، الذي يظل مستعصيا على الاختراق، خارج أحضان الشركات العملاقة المتمركزة في أمريكا60.
أما آخرون فيرون أن الاختلالات على هذا الصعيد في تقهقهر النظام التعليمي الفرنسي الذي طالما جذب طلبة من مختلف بقاع العالم للدراسة في جامعات باريس ومعاهدها، اليوم، أول جامعة فرنسية تحتل المرتبة 37 في قائمة أفضل الجامعات 61.
فرنسا تعي أنها، وهي القوة ذات الحضور الثقافي الكاسح في عدة بلدان منتمية إلى المدار الفرونكوفوني، تواجه هي الأخرى شراسة الهيمنة الثقافية الأمريكية. ولم يكن سرا أن فرنسا تصدرت قائمة البلدان التي رفعت شعار الاستثناء الثقافي في منظمة التجارة العالمية والتعددية الثقافية ضد محاولة فرض نمط ثقافي موحد، في إشارة إلى القوة الاختراقية والتسويقية الهائلة لمنتجات هوليود وصناعة الموسيقى، وسعي أمريكا إلى إقرار التجارة الحرة في قطاع الفنون. 62
الصين: بعد المعجزة الاقتصادية، تسويق النموذج
طموحات المارد الصيني لا تخفى في مراودته لحلم الريادة العالمية. منذ ثمانينيات القرن الماضي التي بدأت تتوالى خلالها معدلات نمو قياسية، أعلنت الصين قدومها إلى دائرة التنافس، من باب الحيوية الاقتصادية، إنتاجا وتجديدا وتسويقا. حتى الآن تقدم الصين نفسها كقوة غير مسلحة، ذات جيش قوي وباستثمار معقول في بناء استراتيجيات عسكرية أمنية للمستقبل، تثير شكوك بعض الاستراتيجيين في الغرب وخصوصا في أمريكا، لكن يبقى هذا الوجه العسكري الأقل بروزا بدرجات مقارنة مع وضع الصين كنموذج تنموي اقتصادي يتحدى الاقتصاديات الغربية التي اعتادت الصدارة.
لكن الصين، وقد راكمت على مدى سنوات النمو ما يتيح لها تمويل حركية تسويق جديدة، هذه المرة لمنتوجات رمزية تختلف عن مصنوعاتها رخيصة السعر، فإنها باتت تتقدم بخطى ثابتة وفي صمت على درب تصدير نموذجها الثقافي والترويج لمقوماتها التاريخية والأسطورية. تأكيد آخر من هذا البلد ذي التقاليد السياسية الخاصة، على جدلية العلاقة بين مكونات القوة الصلبة ( بوجهها العسكري والاقتصادي) والقوة الناعمة بمفرداتها الثقافية.
لم يعد مفهوم القوة الناعمة غريبا على القاموس السياسي الصيني. لقد أبرز التقرير السياسي للمؤتمر 16 للحزب الشيوعي الصيني عام 2002 أنه: ” في عالم اليوم، تشتبك الثقافة مع الاقتصاد والسياسة مما يبرهن على أنها تحتل مكانة أكبر ودور أكثر أهمية في السباق من أجل نفوذ وطني شامل”. وفي اجتماع لإدارة تجمع الشؤون الخارجية، يوم 4 يناير 2006، قال رئيس الدولة والحزب هو جينتاو أن: ” تزايد الدور الدولي لبلادنا وتأثيرها يفترض أن يتم التعبير عنه بقوة صلبة تتجسد في المجال الاقتصادي والتكنولوجي والأمني، كما بقوة ناعمة تمثلها الثقافة” 63.
المفهوم ما فتئ يكرس حضورا ويكتسي اهتماما ملفتا في الأدبيات الاستراتيجية والدراسات والمقالات الصحافية.
وإن كان جوزيف ناي هو المرجع الأكبر للمفهوم في الأدبيات الأمريكية، فإن المنظر المرجعي للصينيين حول ” القوة الناعمة” هو وانغ هانينغ، الذي جمع على غرار ناي بين البحث النظري والممارسة المؤسساتية، حيث شغل منصبا قياديا في الحزب الشيوعي. فمنذ 1993، أكد هانينغ أن الثقافة أهم قوة ناعمة للدولة 64.
يجري الاعتقاد على نحو واسع في الصين أن الثقافة التقليدية تشكل خزانا هائلا لتفعيل هذه القوة، من خلال جاذبية تياراتها الروحية والفلسفية القائمة على التأمل والانسجام والسلام الداخلي. وهي أبعاد تثير اهتمام مواطني العالم المسحوقين بضغوط العالم المعاصر، والباحثين عن متنفس جديد خارج حدود الحداثة والعقلانية الغربية.
في عام 2004، أنشأت الصين مركز “كونفوشيوس” نموذجي باوزبكستان، ثم عرجت على مركز ثان في سيول. بعد سبع سنوات، كانت شبكة هذه المراكز الثقافية الصينية تعد 300 مركز موزعة على 88 دولة، ضمنها أكثر من عشرين في القارة الإفريقية، المجال الجيو – اقتصادي الحيوي بالنسبة لبكين، مما يؤكد قناعة القادة بأن الانخراط الثقافي يواكب توطيد الحضور الاقتصادي. ويبدو أن رجع الصدى الذي ينبعث من هذه المراكز التي تقدم مختلف أوجه الثقافة الصينية العريقة وتوفر دروس تلقين اللغة الصينية التي يزداد الطلب عليها، إما في إطار مشاريع دراسية لمتابعة التعليم بالجامعات الصينية أو أساسا لتسهيل العمليات التجارية لفائدة النخب الاقتصادية المحلية، يشجع الصين على النظر أبعد: الهدف المنظور هو التوفر على ألف مركز كونفوشيوس في أفق 2020. (65)
من جهة أخرى، سجل لدى الصين تحرك طويل النفس ومحدد الأهداف لدى المنظمات الدولية، وخصوصا في قلب اليونيسكو، من أجل تسجيل المواقع الصينية في قوائم التراث العالمي، لتشجيع السياحة الثقافية.
تريد بكين أن توظف دبلوماسيتها الثقافية لتبدو كنموذج لتنمية بديلة، بهوية خاصة ودون تبعية لقوة مهيمنة أو تقليد لقصة نجاح سابقة. 7
لم تكن الألعاب الأولمبية التي احتضنتها بكين مجرد محطة رياضية عابرة، بل لحظة استراتيجية راهن عليها قادة الصين لتسويق صورة نموذج ” مبهر” من خلال المستوى الهندسي للمنشآت الرياضية، ثم أيضا من خلال الحفل الافتتاحي الذي أشرف عليه المخرج الصيني العالمي زهانغ ييمو. (66 ). وفعلا ظل الحفل حديث العالم مدة طويلة، بل طرحت في الدورة الأولومبية الموالية التي احتضنتها العاصمة البريطانية لندن مقارنة صبت في صالح الإبداع الصيني البشري والتكنولوجي.
كثير من الخبراء المراقبين لتطور القوة الصينية استصغروا هذا الوجه الناعم للقوة الصينية، ومنهم جوزيف ناي الذي قدر أن الصين لا تستثمر كثيرا في هذا البعد الثقافي العابر للحدود، (67) والحال أن هذا التشخيص لم يصمد طويلا، بل بات مفهوم القوة الناعمة يحضر بقوة خلال العقد الأخير في أدبيات السياسيين وقادة الحزب الشيوعي.
اليوم، تستثمر بكين في دعم صناعة السينما ولو في نطاق حرية مراقبة ترتبط بخدمة صورة الدولة، كما تستغل قوتها الاختراقية الاقتصادية لتصحيح صور نمطية حول هذا المارد “القادم لالتهام الجميع”. يذكر في هذا السياق إقدام بكين – الصين على شراء الدين العمومي الإسباني لإثبات أنها فعلت ما لم تفعله أوروبا ولا واشنطن.
كما قدمت مساعدتها للبرتغال واليونان للتأثير على الصورة النمطية لدى الأوروبيين تجاهها. (68)
لكن يبقى أن القوة الناعمة للصين مازالت في طورها الجنيني، بل يعتبرها الخبراء الصينيون الحلقة الأضعف حتى الآن بالقياس إلى باقي قطاعات السياسة العامة للدولة، ناهيك عن كونها ستظل معوقة بغياب مجتمع مدني حر مما يحرمها من هوامش واسعة لصناعة القوة الناعمة وتصديرها. ويعكس العجز الفادح للصين تجاه أمريكا بخصوص تجارة المنتجات الثقافية، عمق المشكل. في 2004، استوردت الصين 4068 عنوان كتاب من أمريكا، لكنها لم تصدر سوى 14 عنوانا. استوردت 2030 كتابا من بريطانيا ولم تصدر لها سوى 16 كتابا، كما استوردت 694 من الجار الياباني اللدود ولم تصدر له سوى 22 كتابا. (69)
وإجمالا، باتت القوة الناعمة شأنا دبلوماسيا هاما في الرؤية الصينية لموقعها على خريطة القوى العالمية، خصوصا أن خبراءها يبدون القلق تجاه الهيمنة الأمريكية الثقافية، حتى داخل المجتمع الصيني، وأساسا في صفوف الأجيال الجديدة من أبناء الصين. يتمركز هذا الرهاب الأمريكي تجاه سيناريو تطور سلمي هادئ وبطيء نحو تغلغل قيم الليبرالية الغربية في المجتمع على حساب القيم الخصوصية. لذلك فالقناعة راسخة بأن التنافس الثقافي لا يقل أهمية عن بناء جيش قوي.
إن مقاربة تحولات واقع القوة في الساحة الدولية تعزز القناعة بأن القوة الناعمة رهان استراتيجي في التدافع من أجل الريادة. أمر ينطبق على الوضع الاستراتيجي على الصعيد العالمي، كما على الأصعدة الإقليمية. واليوم، صارت معزولة تلك الأصوات التي طالما استصغرت أهمية الاستثمار في عناصر أخرى غير القوة العسكرية والاقتصادية لتحقيق المصلحة الوطنية، وبات جليا بالنسبة لدوائر صناعة القرار في السياسة الخارجية للقوى المؤثرة إقليميا ودوليا أن معارك الأفكار والقلوب لا تقل شراسة وحيوية عن عمليات الحشد والتخطيط زمن المواجهة المسلحة، ولا عن التنافس على الأسواق والموارد من أجل الرفاه الاقتصادي.
إن الانفجار غير المسبوق على مستوى دور الوسائط المعلوماتية والتحقق العملي لمفهوم القرية الكوكبة يصنع مجتمعات مدنية افتراضية ورأيا عاماً عابراً للحدود، جاهزا للتفاعل مع التدفقات الاعلامية والفكرية والثقافية التي تنهال عليه من كل جانب، ومشكلا القاعدة البشرية المرجحة لشرعية ونجاعة القرارات والسياسات العابرة للحدود.
لكن دون السقوط في أوهام هذه القوة ” الناعمة”، يجدر التأكيد أنها لا تمت بصلة إلى ذلك الحلم الطوباوي المبشر بعالم مفتوح متحرر من منطق النظر إلى العالم كرقعة شطرنج، فإما أن تحتل موقع الآخر أو تخسر موقعك الخاص، ولا علاقة لها بالدعوة إلى علاقات تكاملية تنصاع لنظام دولي عادل ينطبق على الجميع. إنها جزء صميم من السياسات الخارجية القائمة على الدفاع عن المصلحة القومية وتحقيق منافع على حساب الآخرين. على الأقل كما تمارس في ساحة دولية شديدة التنافسية، فإن القوة الناعمة ليست استثمار مجانيا في فضيلة التبادل الثقافي والإعلامي والإنصات إلى تعددية الأفكار ووجهات النظر. ومن هذا المنطلق، فإن الدبلوماسية الثقافية موجهة أساسا لتغيير أفكار الآخرين في إتجاه تحدده أولويات المصلحة الوطنية، مما يستوجب الحذر من شعاراتها البراقة.
للتحميل من هنا