التحرش الجنسي
مقاربة سسيوثقافية
لماذا تتنامى و تتصاعد ظاهرة التحرش الجنسي، وتكبر في مجتمعاتنا العربية و التي تدعي إنها مجتمعات محافظة ومتدينة، سواء في الشارع، أو في وسائل المواصلات العامة، وفي العمل أيضاً . أن انتشار هذه الظاهرة في المجتمع العربي، والإسلامي، ينذر بظاهرة اجتماعية في غاية من الخطورة و السلبية تفقد بسببها آلاف النساء أعمالهن جراء هذا التحرش إضافة إلى ما تسببه من أمراض وأزمات نفسية لدى المتحرش بيهن تنعكس سلباً على المجتمع وتعيق تقدمه.
يتسأل د. حيدر علي حول غياب القراءات الأناسية (الانتروبولوجية) و(التحلينفسية) لكثير من الظواهر التي باتت مألوفة في حياة كل فرد عربي، على الرغم من بشاعتها، ووحشيتها، ودمويتها، ويقول :"أنه ليس من قبيل المصادفة أن تغيب هكذا قراءة، لأننا اعتدنا على غياب الخطاب الأبستمولوجي للعلوم الإنسانية بأقسامها المختلفة، لان أهل هذه العلوم مصّرون أن يبقوا واقفين على التل،الأمر الذي جعل تأثيرهم محدوداً، أن لم يكن مهمشاً أو غائباً، وكأن كل ما يحدث من ظواهر بعيد كل البعد عن جوهر اختصاصاتهم الإنسانية، هذا الفراغ أفسح حيزاً كبيراً للخطاب التقليدي، وبشكل خاص الخطاب (الإنشائي)، أي ذلك الخطاب الذي يعتمد على مقولات متكررة وسائدة ومنتشرة، فصارت لا تأتي بأي جديد لكثير من الظواهر التي يعج بها الشارع العربي".
سأحول في هذه الأسطر القليلة إيجاد قراءة مختلفة لقضية التحرش الجنسي تعتمد على القراءة السسيوثقافية التي تحمل بين ثناياها تفسيراً لما يحصل في الراهن العربي، قراءة يسيرة ومتواضعة، تنطلق من محاولة فهم مجموعة من الإنطباعات لكثير من المشاهدات اليومية.
يقول ايفنز ريتشارد عن تحديد وتعريف الأناسة المجتمعية:"إن مهمة الأناسة المجتمعية مختلفة تماماً عن الدراسات التاريخية، إنها تحلل السلوك المجتمعي، تبعاً لأشكاله المؤسساتية، كالعائلة، وسيستم القربى، والتنظيم السياسي، وصيغ التدابير القانونية، والعبادات الدينية، فضلاً عن العلاقات القائمة بين مختلف هذه المؤسسات". ومن هنا نرى إن عمل الأناسة يتركز على ما هو كائن، وليس على ما ينبغي أن يكون، بمعنى إنها دراسة تاريخية تنطلق من وجود المجتمعات، وجوداً تاريخياً، يتحرك في اُطر ثقافية، وخطابات إيديولوجية، لذلك وكما يقول حيدر علي إنه إذا ما أردنا أن نقرأ أية ظاهرة سائدة في الشارع العربي، يجب علينا أن نقرأ تاريخية هذه الظاهرة، واتصالها بالمقدس الديني، أو بنظام غيبي، أو بنظام لاهوتي، أو حتى أيديولوجي. لنحصل في نهاية المطاف على تحليلات جديدة وحقائق لم نتوقعها، بل حتى لم نجازف بطرحها كأسئلة مشروعة.
لعل ما بدأنا به مقالاتنا هذه حول دينية ومحافظة المجتمع قد تكون هي المدخل الأساسي في عملية الفهم ، فقضية التحرش الجنسي جاءت نتيجة تصورات ورؤى عبر تاريخ طويل من التراث الديني و الاجتماعي، حول المرأة "الكيان" إلى المرأة "الجسد" ، و أصبحت الأنثى مجرد وعاء للممارسات الجنسية وحالات الإشباع الذكوري لهذه الغريزة ، هذه الرؤية التي تكونت عبر زمن بعيد أنتجها الوعي العربي بشقيه العُرفي و الديني عبر نصوص وتأويلات لهذه النصوص ، أنتجت في النهاية صورة للمرأة اختزلتها كجسد.
في هذا السياق وحول قضية التحرش الجنسي يتسأل د.عبد الرحيم عمران أستاذ علم النفس الاجتماعي حول كيفية تحول لغة تواصلنا الدارجة من تخاطب عاد إلى مجموعة مقالب ذات بعد جنسي؟ ويضع علامات استفهام حول سبب تحوير ألفاظ لغوية عادية تتحدث عن أشياء ترتبط باليومي لتصبح ذات حمولة جنسية تقذف الناس وتهينهم ؟ فيقول إن البعد الجسدي الجنسي يحضر باستمرار إما بطريقة مباشرة أو بطريقة غير مباشرة حسب أوضاع تواصلنا وتفاعلنا كأفراد وجماعات داخل اللغة التي نتداولها بيننا تلقائيا، كما يسود هذا البعد داخل الأسرة منذ الطفولة، فتسود بينها مفاهيم جنسية ولو بطريقة غير مباشرة .
إن عملية التحرش الجنسي هي عملية عنف رمزي لغوي، يتم فيها استغلال اللغة في وضع فكاهي سلبي تجريحي فيه نوع من العدوانية المسلطة على الذات ، فالشخصية التجريحية رغم بُعد الفكاهة والمرح الذي تدعي خلقه، لها بُعد آخر عميق عدواني يهدف إلى إهانة الآخر "المرأة الجسد".
هذه الشخصية الذكورية العدوانية مغلفة، يحاول من خلالها إثبات شخصيته على حساب إهانة المرأة التي يعتبرها أقل منه قيمة ومكانة بل يعتبرها احدي أشياءه التي وهبها له الله ليمارس بها الإشباع ، ولعل ما يقال حول ما يسمى الحور العين لهو اكبر دليل على إلحاق المرأة بممتلكات الرجل فهي المكافأة التي يهبها الله للرجل في الجنة، إضافة إلى أحقية الرجل دينيا في الزواج بأكثر من واحدة وامتلاكه الطلاق وغير ذلك من التشريعات الدينية التي أعطت الأفضلية للرجل. يرجع الباحثين في الميثولوجيا أفضلية الرجل على المرأة بسبب الأسطورة الدينية التي تتحدث حول خلق المرأة من ضلع أدم "الرجل" فهي بذلك تابع لا تمتلك نفسها، ويعتبر الباحثين الاجتماعيين إن مؤسسة الزواج الدينية حسب التأويل المجتمعي القائم على مصالح سلطة الرجل "يعطي الرجل صورة السيد المطاع والمرأة الطائعة الخانعة، بل أكثر من ذلك فهو يبرر إنزال العقوبة على المرأة في حال عدم خضوعها لهذه السلطة المشرعنة دينيا وعرفيا. تقول د. نوال السعداوي أن الثقافة الجنسية داخل المجتمع العربي يسودها مكبوت يتم استعماله في مواجهة الآخر وقمعه وهناك استيهامات وعلاقات جنسية تسيطر على حواراتنا وتستند إلى المكبوت الثقافي والاجتماعي وإلى المسكوت عنه، نستحضرها هنا ، فالعلاقة الجنسية مازالت مكبلة بمكبوت يتم التعبير عنه عبر احتقار الآخر والتمثيل به واحتقاره باستعمال اللغة الجنسية التجريحية، والتي تأتي نتيجة اعتبار أفضلية الرجل على المرأة.
التحرش الجنسي والمجتمع المحافظ
يقول عالم النفس يونغ: إن الكبت الجنسي ليس مجرد كبت غريزة, بل إن خطورته أنه يجعل الإنسان يتدهور روحياً ومعنوياً, والعذاب ليس عذاب جسد لا يجد إشباعاً لغرائزه فقط, بل هو عذاب نفسي وإحساس عميق باليأس وانعدام القيمة, لأن الجنس هو طاقة حيوية وايجابية تعمل على توازن الشخص روحياً ومعنوياً،ويضيف بأن المكبوتين جنسياً يشعرون أن مرتبتهم الإنسانية قد هبطت إلى مستوى المعوق أو المجنون.
إن المجتمع المحافظ يعتبر بشكل مباشر وغير مباشر هو المسؤل عن الكبت الجنسي نظرا إلى ثقافة المحظورات والقيود الاجتماعية، العزلة، سوء التربية والتثقيف، وغياب الثقافة والتعليم، بسبب انتشار ثقافة العيب من الحديث في موضوع "الجنس" مما يقود في النهاية إلى تشويش نفسي مستمر، ويصبح الناس في العديد من الحالات مهووسين بالجنس بشكله البدائي جداً.
وقد أكدت الباحثة هبة الله الغلاييني على ان الكبت يجعل الولد يشعر بأن ميدان الجنس ميدان مخيف وآثم من جراء تهرب والديه من الإجابة عن أسئلته العفوية عن الجنس, فيحاول التهرب من مواجهة النزعة الجنسية في داخله وتجاهل وجودها فيه ، مما يسبب نتائج سلبية منها تأجيج الفضول الجنسي الذي يؤدي إلى نتيجة هي على نقيض ما ينتظره المربون, ألا وهي أن الولد قد يبدي اهتماماً شديداً ذا طابع هجاسي بأمور الجنس. ويتحول بعد ذلك إلى شخصية مريضة نفسياً يلجأ فيها إلى التحرش الجنسي اللفظي و ينقل إلى الاعتداء و الاغتصاب.
في فيلم "هي فوضى" يطرح المخرج العالمي يوسف شاهين الإشكالية الأهم في فيلمه و التي تتمثل في سيطرة مفهوم التحليل النفسي على بناء شخصية "حاتم" فالقمع الذي يمارسه "رمز السلطة الغاشمة" هنا ليس قمعا له مبرراته الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والفكرية، لكنه نتاج للكبت الجنسي وللكبت الاجتماعي، فهو ليس قامعا فقط، بل مقموعا و"ضحية" أيضا.يصل في النهاية إلى لحظة الاغتصاب ويصوره شاهين في الفيلم على إنه أي المغتصب أولا، ضحية للقهر والفساد، فقد استولى عمه على أرضه، وعاش في طفولته متنقلا بين بيوت أقاربه الذين كانوا قساة القلب فاساءوا معاملته، وظل دائما يشعر بالجوع، وكان كل شئ حوله ممنوعا، إضافة إلى إن سلوكه يبدو مدفوعا بالدرجة الأساسية، بفعل عقده النفسية المترسبة إحساسه بقبح منظره، وشعوره المدمر بالكبت الجنسي الذي يدفعه إلى ممارسة كل أشكال السلوك الجنسي التعويضي والمنحرف.
في ختام مقالتي هذه أود أن أشير إلى خلاصة تنفيذية تفيد بأن عاملي الدين و العرف قد ساعدا على تشويه صورة المرأة في المجتمع مما انعكس على النظر إليها كوعاء للجنس، إضافة إلى الكبت و القمع و المحظور و الخوف من الحديث حول الثقافة الجنسية الصحية المفيدة و التي تحرر الإنسان من الأوهام و الخزعبلات وتقيه من الإصابة بالأزمات و العقد النفسية التي تحيله بدورها الى كائن عدواني يمارس التحرش و العدوان والاغتصاب.
نقلاً عن مجلة الغيداء - مركزشؤون المرأة - غزة
http://www.wac.org.ps/gaidaa/pdf/g21/48%20pdf10.pdf
http://ahmedarar1980.jeeran.com/arch.../7/615795.html