القصة الشاعرة جنس أدبي راقٍ ومستحدث
د. جميلة هادي الرجوي
إن الإبداع الأدبي المتألق يحقق دوماً ما عجز عنه الفكر السياسي والثقافي من جانب الجدليات ، تلك الجدليات التي أصبحت في الآونة الأخيرة – للأسف – غريبةً عن واقع المجتمعات وتطلعاتها لانعتاق الروح قبل الجسد .. ، وهذا هو دور الفن الراقي الذي يحمل هدفاً ورسالة سامية مُتزيناً بكل حُلة بهية تأسر وجدا المتلقي ، وتستحوذ على عقله وفكره ، والمبدع الحقيقي هو الذي يُحدثُ حراكاً ، وتدور حول إبداعاته جدليات مثيرة تنجم عن كَوْنِ إبداعه يلامس الوجدان بنفس القدر الذي يُعالج فيه القضايا الحياتية ، وإن استخدم توليفة إبداعية مستمدة من لامحدودية الخيال و كافة المتغيرات ،
وإذا كان (لا شيء يُغني عن التطور) ، فلقد تعهدتْ المسيرة الإبداعية بثابت المتغيرات ، وبالتالي (يظل التجديد هو الشريعة الحقيقية للعملية الإبداعية) ،
ومنطلقاً من ذلك ، فلقد أكدتْ الأجناس الأدبية الحديثة على ماهية بلاغة اللغة العربية وقابليتها لمستجدات التطوير المتلاحقة ،
وإذا كنا بصدد إطلالة موجزة على حالات التطوير في المسيرة الأدبية والتي لا تتوقف عند حد معين فإن "القصة الشاعرة" كجنس أدبي مُستحدث له سماته التي تَميزه عن الأجناس الأدبية السابقة ، إذْ تختلف القصة الشاعرة عن الشعر المسرحي الذي برع فيه كلٌّ من أحمد شوقي ، وعلى أحمد باكثير ، وأخيراً فاروق جويده وحزين عمر ، كما يختلف عن الشعر القصصي الذي تميز به خليل مطران ، ويأتي هذا الاختلاف من أن القصة الشاعرة عبارة عن إبداع يعتمد على الإيقاع التفعيلي بعدد غير محدود من التفعيلات مع التزام التدوير القصصي والشعري بحيث يكون القص منهجاً مستتراً بأروقة الرمز متعدد الدلالات ، بحيث يبرز فيه دور المتلقي كمنفعل وفاعل في ذات الوقت ، ولذلك فإن الشعر بجميع مدارسه – وإن كان التدوير الشعري مُتوفراً – يختلف عن القصة الشاعرة لأنها تجعل من الرمز مرتكزاً أساسياً للحدث الشعري ، ويفضي إلى نهاية مُبهرة، ويتضح ذلك من خلال قراءة مُتأنية للنماذج التي تشدُّ إليها ثلاثية العمل الأدبي (مبدع ، متلقي ، وبيهما الناقد الحاذق) ، مما يجعل هذه الثلاثية قادرة على فهم سطوح النصوص ومضامينها ذات الأثر الخلاق ، وفي القصة الشاعرة تتحقق الوحدة العضوية للنص من خلال القناع الكلي الذي يمسك بتلابيبه المُمَوْسقة ، وأركانه التي تؤكد خصوصية العموم ، وتعميم الخاص بعيداً عن نظرية الفن للفن المُوغلة في الذاتية ، كما تسهم القصة الشاعرة في خلق صورة تكثيفية لمختلف المشكلات مهما صغُرتْ في حركة تفاعلية تهدف إلى رفض واقع الانكسار والتطلع إلى رسم المستقبل بريشةٍ مشرقة تجمع بين حداثة التشكيل و تراثية المضمون ،ويمكن أيضاً أن تُقدم معالجة اجتماعية للكثير من أمراض المجتمع المتوطنة ، إذْ تجعل من السرد إيقاعاً ومن الإيقاع حدثاً يتوافق والطبيعة البيولوجية والفسيولوجية للإنسان ، وفي قراءة سريعة لعدد من نصوص محمد الشحات محمد رائد هذا الجنس الأدبي الجديد نجد أنه في نص " زعيم من زجاجٍ تحمله القهوة" تتأكد ضرورة مواجهة عمليات التغييب والتغريب ، ومحاولات الضغوط التي يتعرض لها الزعماء والتي تحركها دوماً ملابسات الكيل بمعيارين ، أما في نص "الرصيف السائل" يشير بحرفية عالية إلى تلك القوى الواجب عليها القيام بدورٍ قومي ، والمنوط لها الأمن واتخاذ القرارات الحاسمة ، فإذا بهذه القوى تشجبُ وتُدين وترفضُ بشدة ، وكل ذلك من خلال تصريحات رمز النص إليها بالرصيف الرخْو الذي يسيل كلما وطئته قدم الماره ، وفي النصين اشتركتْ تفعيلة الخبب ليس فقط للسرعة وإنما لتوافقها مع إيقاع الشعر الغربي ، والذي أشار إلية النص بالقُبعة في النص الثاني ، وفي الأول أشار إليه بجرح المحتل ،
ومن ناحيةٍ أخرى فإنه لابد من الإشارة إلى أن اختيار التفعيلة يُعامل معاملة المُفردة بحيث تتوافق مع الدفقة الشعورية التي يتحملها النص ، وطبقاً للموضوع .. ، ففي نص "ظاهرة" كانت التفعيلة هي (مُفاعلتن) والخاصة ببحر الوافر ، وذلك لما فيه من شجنٍ يتوافق مع الحنين لخصلات شمشون ، والذي يستخدمه النص قناعاً وإسقاطاً على قوة الرجل العربي ، والتي مسها وهنٌ ، ورغم ذلك فإن الحنين مازال يجذبنا نحوها أملاً في النهضة من جديد ، .. ومن ثمَّ فإن القصص الشاعرة لم تعد فقط مجرد كلمات أو جمل مُموسقة قائمة على التفاعيل ، ومتضمنة حدثاً بمعايير القصة القصيرة ، وإنما هي نبضٌ لشعورٍ العامة والخاصة ،
وقد تتشابه الدوافع والنوازع لشعورٍ ما ، ولكن تتفاوتْ طرق التعبير والسلوكيات التي ينجم عنها الأثر .. ، والعمل الإبداعي يسمو كلما كان أثره يستدعي المصالحة بين الذهن والوجدان ، ولقدْ ذكرتُ هذا الشاهد بسبب وقوف البعض على مايسبب الخلط والالتباس بين الفنون المختلفة، ولاسيما في ظل تداخل الأجناس وتماسها ، وفي قراءتي لنصوص القصص الشاعرة وجدتُ هذه النصوص تفلتُ من حصار التشابه هذا ، ورغم استفادتها بكل الفنون والآداب فإنها تقف دوما على نقط التماس لتحتفظ بخصوصيتها وتفردها ، والأدهى من ذلك .. ما بالك صديقي الحميم الذي ترافقني في هذه السطور .. ألا تندهش معي عندما تكتشف فجأة أنك كتبتَ قصةً شاعرةً" في واحدةٍ من انفعالاتك التي تُولِّدُ ردّاً ما .. ، ودون سابق إنذار يكون هذا الرد نصاً إبداعياً .. حدث هذا بالفعل عندما تحرك قلمي ذات مرة ، تحمله ثورةٌ عارمة كانتْ تسكنني حينما شاهدتُ أطفال غزة عبر التلفاز يديرون حواراً ساخناً مع القنابل الفوسفورية الإسرائيلية ، وكانت حروف هذ الحوار تتكون من كلمات أجسادهم المنثورة وبقايا الأشلاء المحترقة .. ، سجَّلتُ ردي ولا أدري أنني نسجْبتُ قصةً شاعرة ولا أروع في أنها التي استطاعتْ التعبير عن هذا الواقع المرير بصورةٍ لم تستطع قصيدة أو قصة أو أي لوحة على حدة التعبير عنها .. ،
ومن عبق الشهادة يتبقى طرْحُ هذا النسيج الذي كتبتُ تحت عنوان
"لنْ يسقطَ نَسْرٌ في القمة .."
أثناء العدوان الإسرائيلي على غزة كردّ فعلٍ لا إراديّ .. ، أقولُ :-
جلستْ حاضنة الفنجال تحدق في خوفي المرسوم بجفني الراجف في الأوصال ، انتظرتْ واجمة في صمت موح بالأخطار ، لتزداد الرهبة ساد الصمت ..، تعيد التحديق وتردف قائلة في ثقة : لن تسقط غزة بالتأكيد ، ولن تخضع أبدا للإرهاب ..، سترفع رايات العزة في كل مكان ما عادت شيئا محصورا بزمان أو رؤية إنسان ..، زغرد قلبي فرحا وتساءل : ماذا أيضا ؟ قالت : لا تخشي فقدانا ..، غزة ذابت شوقا في الشريان ، وتحيا نورا في الأجفان ، تعانق صهوة إصرار للتطهير وللتغيير بوحي الشهداء ؛ بفجر طل من الخذلان ..، يشيع النور ويهدي زخات الامطار ، فيغدو الجسم صحيحا ويضيء العقل بنور الله ..، تولى الديك دعاء النصر ، تولد صوت في الوجدان ! أشاع الدفء ، ورحت أغني : لا .. لن يسقط َ نسرٌ في القمة ْ !! "