حقيقة دين الملك
بسم الله الرحمن الرحيمالسؤال الذي يطرح؛
يوسف المغلوب على أمره(3) .. وحقيقة دين الملك
كيف لنبي أن يعمل تحت إمرة حاكم كافر؟
لقد رضي نبي الله يوسف عليه السلام العمل في ظل الملك الذي كان في زمنه، وأنه لم يستطع أخذ أخيه في دين الملك، فأخذه بحكم إخوته على من يفعل فعله قبل أن يعرفوا أن السقاية قد دست في رحل أخيهم؛
قال تعالى: (قَالُواْ جَزَاؤُهُ مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّـاـلِمِينَ (75) يوسف.
وقال تعالى: (... كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَن يَشَاء اللّهُ نَرْفَعُ دَرَجَـاـتٍ مِّن نَّشَاء وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76) يوسف.
فكيف يرضى نبي من أنبياء الله المعصومين فعل ذلك؟
الجواب على ذلك لا يكون إلا من كتاب الله تعالى، وباللغة التي أنزلها الله تعالى بها كتابه المعجزة .... والرجوع إلى الإسرائيليات فيها من الخطورة التي لا تستبين أحيانًا للعالم .... فكيف بقليل العلم أو الجاهل؟!
الجواب على ذلك؛ أن الدين يطلق على الشرع، ويطلق على العادة؛ وتطبيق أوامر الدين والالتزام بها يجعلها عادة عند صاحبها لا يألف غيرها، ويثقل عليه الخروج عنها، ولذلك سمي الشرع بالدين ليكون هو عادة أهله.
فعندما يؤدي الفاعل الأفعال، ويكررها، ويلتزم بها، ويتمسك بها، ولا يخرج عنها، تصبح هذه الأفعال دينًا له، كانت من شرع الله، أو ضلالات لقومه، أو شركًا بالله؛
قال تعالى: (قُلْ يَـاـأَيُّهَا الْكَـاـفِرُونَ (1) ... لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6) الكافرون ... لذلك يقال: هذا ديني وديدني، أي عادتي التي لا أخرج عنها.
والدِين: الطاعة، والذل، ومن ذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم: [أُريد من قريش كلـمة تَدينُ لهم بها العرب أَي تطيعهم وتـخضع لهم]،
والمدين: المملوك، لأنه لا يستطيع الخروج عن أمر صاحبه، ومن ذلك تفسير قوله تعالى: (فَلَوْلا إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَهَا إِن كُنتُمْ صَـاـدِقِينَ(87) الواقعة،
ويوم الدين: يوم محاسبة الناس، وإلزامهم بجزاء أفعالهم،
والمدينة البلدة التي يلزمها أهلها، ولا يرحلون عنها، ولا يفعلون كفعل أهل البادية في تنقلاتهم؛ تقارب في الجذور كأن ميم مدينة زائدة.
وقد لزم بيان العلاقة بين الدِين (بكسر الدال)، والدَين (بفتح الدال)؛ ليتم فهم الدِين على حقيقة استعماله؛
فالدِين إن أريد به شرع الله، فيؤخذ ممن بلَّغه الشرع، ويحاسب على الخروج عنه،
وإن كان الدِين بمعنى العادة فيحاسبه الناس على الخروج عنه؛ إما لمخالفته لهم، وإما مخالفته لما عودهم عليه.
وأما الدَين؛ فإن يأخذه من مال غيره، ويحاسب عليه بوجوب الوفاء به، ورد الَدَين لصاحبه عند حلول أجله التي يستحق فيه، فهو ليس بأجرة، ولا هبة، ولا عطية، أو جزاء أو.... أما ماله الخاص الذي يملكه، فله حرية إنفاقه دون الخشية من المحاسبة عليه، وينسى أنه أنفقه، ولا يعد يذكر إنفاقه له ... خلاف الدَين الذي يأخذه من مال غيره.... وللمزيد راجع مادة (دين) في لسان العرب.
وكان من عادة هذا الملك أنه لا يظلم عنده أحد؛ ويحقق في أي شكوى ترفع إليه، ولو كانت من عبد لأحد السادة، أو كان سجين فوق ذلك.
فقد قال يوسف عليه السلام لرسول الملك: (...ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّـاـتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50) يوسف، فلم يهمل الملك الأمر، وأحضر النسوة، وهن نساء عليا القوم، وحقق معهن: (قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ ...(51) يوسف، ولو كان غير هذا الملك، ورجع رسوله بهذا الرد لأرسل إليه من يجره إليه جرًا.
فلو أخذ يوسف عليه السلام أخاه عنوة من إخوته، فسيرفعون شكواهم للملك، ولن يكون حكمه إلا برد أخيه إلى إخوته، وعند ذلك لن يستطيع الاحتفاظ به.
أما القول بكفر هذا الملك، فلا دليل على صحته، والذي يفهم من سورة يوسف عليه السلام خلاف ذلك؛
- فالرؤيا التي أُريها من الله عز وجل هي لإنقاذ رعيته، وتدبير أمرهم قبل أن يقع القحط عليهم، ويكون فيه هلاكهم، والملك هو الذي بيده تنفيذ السياسة الاقتصادية التي ستتخذ من أجل ذلك، فلو كان الملك كافرًا، ورعيته مثله كافرة، لما كتب الله عز وجل لهم النجاة من الهلاك من القحط.
- لجوئه إلى الملأ لعبير الرؤيا، وكيف كان ردهم عليه الذي يدل على مدى حرية التعبير لديهم؛ (يَـاـأَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيَـاـيَ إِن كُنتُمْ لِلرُّءْيَا تَعْبُرُونَ (43) قَالُواْ أَضْغَـاـثُ أَحْلَـاـمٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأَحْلَـاـمِ بِعَـاـلِمِينَ (44) يوسف
هو سماها رؤيا، وهم سموها أضغاث أحلام، والرؤيا من علم الله، والواو في الرسم العثماني سقطت في الكلمتين، وكتبت الهمزة على السطر، لأن الواو في الاستعمال العربي والجذري تشير إلى الداخل والباطن، والرؤيا ليست آتية من باطن النفس بل هي علم يلقى فيها إلقاء وليس منها .... أي من الله تعالى.... فسقطت الواو ليطابق صورة الكلمة واقع الدلالة.
- العدل الذي أبداه بالتحقيق في شكوى يوسف عليه السلام السجين عنده، ولم يهمل شكوى مستعبد مسجون عنده.
- سجن يوسف عليه السلام دلالة على وجود هيئة تحكم في القضايا دون الرجوع إلى الملك؛
قال تعالى: (ثُمَّ بَدَا لَهُم مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيَـاـتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (35) يوسف .... وقد طلب يوسف عليه السلام من السجين الذي نجا أن يرفع شكواه للملك، فلم يفعل، ولم يخرج يوسف من السجن؛
قال تعالى: (وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِّنْهُمَا اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ فَأَنسَـاـهُ الشَّيْطَـاـنُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (42) يوسف
- أنه لا يجبر أحدًا عنده على فعل شيء؛ .... فقد جعل الخيرة ليوسف عليه السلام دون أن يحدد له مهمة معينة؛
قال تعالى: (فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ (54) يوسف، فاختار يوسف عليه السلام ما يحسنه: (قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55) يوسف
- وحرصه على اختيار أهل الأمانة والوفاء، عندما تبين له عفة يوسف عليه السلام، ووفاءه لسيده، وامتناعه عن خيانته بشدة، بل قبول السجن على الخيانة: (وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي .... (54) يوسف
- إقرار امرأة العزيز بالتوحيد أمامه في استغفارها: (وَمَا أُبَرِّىءُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ (53) يوسف، ما يدل على أنه؛
إمَّا على التوحيد مثلها، أو أنه لا يلزم رعيته بدين محدد.
هذه علامات كلها تدل على صلاح الملك، فكيف يحكم عليه بالكفر؟!
وغير ذلك أن العمل الذي تولاه يوسف عليه السلام هو عمل إداري متعلق بتنظيم ما يدخل في الخزائن، وما يخرج منها في أمر طارئ، وهو الذي حدد طريقة إدارة ذلك، وليس عمله من باب العمل بأحكام منبثقة عن عقيدة غير عقيدته.
وكذلك فإن الآية دلت على أنه لم يحتكم إلى دين الملك في مسألة أخيه لو أريد بالدين غير الشرع الذي عليه يوسف عليه السلام.
بل قبول يوسف عليه السلام أن يكون وزيرًا للملك في هذا الشأن الذي قبله دلالة على صلاح الملك، وتوحيده لله، ولو كان الأمر على خلاف ذلك لما قبل العمل تحت إمرته، بل لا يفعله من هم دونه .... فكيف بنبي معصوم، وهو الذي قال عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم؛ يوسف بن يعقوب بن إسحق بن إبراهيم عليهم الصلاة والسلام.
والله تعالى أعلم
</i>