فلسطين في أدب سميرة عزام
د. يوسف حطيني

من كتابنا: (سميرة عزام: رائدة القصة القصيرة الفلسطينية) الصادر في دمشق، 1999.

نجحت سميرة عزام، خلال حياتها القصيرة (1927-1967)،في معايشة أبعاد النكبة الفلسطينية معايشة يومية، من خلال اتصـالاتها المستمرة باللاجئين الفلسطينيين وعدم اكتفائها بتجربتها في التيه والتشرد ، على الرغم من أنها كانت تجربة مريرة وقاسية .

ومع خروج الكاتبة من بلدها ، مع مئات الآلاف من الفلسطينيين الذين هجروا على مرأى ومسمع من العالم أجمع ، حملت مثلما حمل غيرها غربتها ، وطافت بها من مكان إلى مكان ، فاستحالت هذه الغربة حنيناً لذكريات ، وإصـراراً وأملاً على العودة إلى وطن الشمس والحرية . ولا يخفى على قارئ قصص سميرة عزام أن هذه الكاتبة تتعاطف مع شخصياتها إلى أبعد الحدود ، وذلك عائد بالطبع إلى التجربة المشتركة في الغربة والحنين والأمل ، والبحث عن خلاص ، رأته سميرة في أن تختط طريقاً لها في المعركة الوطنيـة والقومية ،من خلال كتابتها الملتزمة ، بوصفها كاتبة تدرك دور الأدب (1)، ومن خلال ممارستها تجربة العمل الوطني المنظم (2) وتأكيدها من خلال هذين الدورين أن الطريق إلى فلسطين شاق وطويل ويحتاج إلى كثير من التضحيات . إن ما كتبته سميرة عزام ، فيما يتعلق بالموضوع الوطني ، كان مقتصراً في البداية على التفجع والندب لمصير الفلسطينيين ، مع وجود إشارات وتلميحات واستثارات للمقاومة ، ومع انطلاقة الأدب الثوري انطلقت سميرة عزام بقصصها نحو المقاومة الأصلب والرؤية الأوضح فإذا كان ثمة ابتعاد عن الأدب الثوري بعد النكبة ، فإن ذلك لا يعود إلى تقصير سميرة بقدر ما يعود إلى طبيعة المرحلة عامة . فقد انتقل الفلسطينيون تدريجياً من تصوير الفراق والحزن إلى الغضب والمقاومة (3) ولأن سميرة عاشت مع هؤلاء وتنفست هواءهم ، وقصر وعيها – آنذاك ، كما قصر وعيهم ، فقد جاءت قصصها ، وفقاً لهذه الأجواء ، مقسمة إلى المراحل المتداخلة التالية ، التي هي مراحل زمنية وموضوعية ( متعلقة بالموضوع ) في أن معاً :

1 – الماضي

2 – رعشة الأسى

3 – سورة الغضب

4 – المقاومة

وفـي كل هذه المراحل ثمة أمل يحدو سميرة ، وأبطال قصصها ، على العودة إلى البيادر و البيارات والبيوت التي ما يزال بعض الفلسطينين يحتفظون بمفاتيحها .

أولاً – الماضي :

كـان جرح الكبرياء لا يزال حديثاً حين راح الفلسطينيون يحنون في الداخل والخارج إلى الماضي . فبينما كان فلسطينيو الخارج يحنون إلى أرضهم التي هجروا منها ، فإن فلسطينيـي الداخل راحو يحنون للقيا إخوتهم الذين في الخارج ، ويحنون أيضاً إلى الفرح بعد أن فقد كل فرح معناه ، في غياب الكرامة الوطنية .

استطاعت سميرة أن تصور لنا في قصصها حنين أولئك جميعاً إلى ما مضى مكاناً وذكريات وعادات ورموزاً وطنية .

فالوطـن – المكان – الذي كان مرتع صبا سميرة نفسها كان يتجسد في أدبها ، شأنها في ذلك شأن أدباء المقاومة الفلسطينية ، فردوساً ضائعاً ، أو مضّيعاً بفعل تجار السياسة . إنها تصف الربيع والبيارة و البيت والديوان وشريط الهدنة الذي قسّم جسد فلسطين .

في قصــة (عـام آخر ) (4) تـحدث الحـاجة المـكرارة أم عبـود ، وهي في طريقهـا إلى ملاقـاة ابنتها عند بوابة مندلبوم ، السائق حديثاً فيه شجون الماضي وذكرياته حيث تحضر يافا / المكان/ بجزئياتها ، تقول أم عبود :

"كان بيتنا في (درج القلعة ) وكان لنا بيارة برتقال ثمرها لامع كالذهب ، موصوف بالحلاوة ، كنا من الاوادم (*) ، بيتنا (مضافة ) ، وزوجي مختاراً ....." (5)

إن البيت هنا ، في ذاكرة أم عبود ، وفي الذاكرة الجمعية الفلسطينية ليس بيتاً وحيداً ، فالاشتياق له هو شعور جمعي مشترك لأنه يرمز إلى كل البيوت ، كما ترمز البيارات إلى كل البيارات ،فيما ترمز يافا التي تحتوي درج القلعة إلى كل المدن الفلسطينية الأسيرة .

إنه الماضي ذاته الذي تصوره قصة "الحاج محمد باع حجته (6) " الماضي الذي يشي بالفخر والاعتزاز بالذات والطمأنينة ، حيث الديوان - قبل أن يأكله شريط الهدنة –ملتقى الرفاق يجتمعون فيه ليتشاوروا في الأمور المهمة المختلفة " (7) ، أما الآن فلم تبق لهم إلا الحسرة .

غير أن الغربة لم تكن غربة عن ذكريات الماضي فحسب ، ولكن عن الثقافة الشعبية أيضاً . بأعرافها المختلفة . فالحاجة أم عبود تتذكر ماضيها بتقاليده ، حين تحث سائق السيارة التي قادها في رحلتها المخفقة ، فتصف محتويات بيتها هناك :

"فراش كثير والخير من خيرك (....) وأواني النحاس كان جد عبود قد أحضرها من الشام ، فطارت الدار و البيارة و الفراش و النحاس (8) .

وفي قصة "زغاريد " (9) تحاول سلمى الصواف أن تنقل في خيالها ، عرس ابنها جميل من لبنـان إلى فلسطين ،بسبب عدم استطاعتها الذهاب إلى حضور عرسه هناك، وتظهر الصفعة التي يوجهها الوضع السياسي الجديد الناشيء إلى تقاليد الثقافة الشعبية الفلسطينية . تتساءل سلمى الصواف .

"ومن يا ترى من الحضور به حرص على العادة فلا ينسى أن يحمل إبرة و خيطاً يشد بها ثــوب العروس إلى بذلة العريس (10) ؟؟"

وحين تتساءل أيضاً في شبه ذهول : " تراهم يحتفلون بعرس جميل .... عرس وحيدها كما ينبغي للأعراس أن تكون ؟ فتمتلئ باحة الكنيسة بالحضور ، ويسخو أهل العرس بالملبّس يأكله الصغار و الكبار و يدعون للأهل بعمار الديار (11) .

لقد أدركت سميرة عزام حقاً أن هدف الاستيطان الصهيوني في فلسطين لم يكن موجهاً فقط ضد الأرض ، بل ضد الإنسان أيضاً ،وكان عليها ، لذلك أن ترفع راية ثقافة المواجهة ، ليغدو ماضيها الثقافي في حلبة الصراع أيضاً ، لأنه مستهدف بأشكاله كافة ، برموزه الوطنية ، و رموزه الدينية ، الإسلامية و المسيحية على حد سواء .

فالكاتبة تحشد كل رموزها الوطنية و الدينية في خدمة الثقافة المواجهة . فالحاج محمد يمتص دموعه " بطرف كوفيته (12) " التي غدت رمزا للإنسان الفلسطيني ، و سلمى الصواف تتساءل عن الكنيسة التي سيزف ابنها فيها ، فتقول :

" أهي كبيرة ككنيسة الخضر ، وقورة تنتصب فيها بجلال ، تنعقد في سمائها روائح البخور و الشمع المحروق مع التبتل و الابتهالات (13) " .

على أن عزام التي تصف كنيسة الخضر ، بأسلوب حنيني واضح ، لا يفوتها – و هي المسيحية دينا – أن تحن للشعائر الإسلامية ، مادامت الرموز المسيحية و الإسلامية ، قد غدت في نظرها رموزا وطنية في الاعتبار الأول .

ففي قصة " الحاج محمد باع حجته (14) " يقول سلمان أبو عاكف لنفسه : " شد كوفيتك (15) " ليخبر قومه أن الحاج قد باع حجاته السبع ثم يتذكر أيام زمان : “ سبع حجات ، بل سبعة أعراس “. ان كنت تذكر يا حاج ، قامت فيها القرية و قعدت ، و مدت لـك عشرات من حبال الزينة ، و ساقت عشرات الخراف تمشي بين يديك ملوية الأعناق قبل أن تعتلي تلال الأرز على السماط ، المبسوط لكل رائح و غاد (16) " .

و ثمة رموز أخرى لا تقل أهمية في الثقافة الشعبية ، هذه الرموز تبدو محمولة على استعمال الأمثال و المحفوظات الشعبية الفلسطينية التي تظهر في قصص سميرة عزام تجسيدا للوجدان الجمعي الفلسطيني ، و قصة عام آخر التي نعرضها هنا – مثالا – محشودة بالأمثال و المرددات الشعبية ، فالحاجة أم عبود تقول :

" ما أعز من الولد إلا ولد الولد (17) "

" نحن أحسن من غيرنا ، و غيرنا أحسن منا "(18)

" المال يعوض ، والدور تعود ، ما دام الرجال موجودين " (19) " وللظالمين يوم "(20) إنها حقاً كاتبة استخدمت الماضي ، ليس بوصفه مكاناً فحسب بل بوصفه وعاء للأعراف والثقافـة والتقاليد التي ينبغي أن تخوض معركة الثقافة أيضاً ، لتقاوم بذلك محاولة اقتلاع الثقافة الفلسطينية من جذورها ، هذا الاقتلاع الذي مارسه ، ويمارسـه ، المحتلون الصهاينة حتى الآن .

ثانياً – رعشة الأسى

وشيـئاً فشيئاً التفت الأدباء الفلسطينيون الذين صوروا ماضيهم الجميل بكثير من الرومانسية ، إلى واقعهم وكانت سميرة عزام منهم فهي لم ترَ فلسطين في سنوات الهجرة الأولى إلا حنيناً للحرية ولأشجار البرتقال ، وللأرض الخيرة وللسماء والشمس المطهرة فبـلدها يكمن في أنشودة طفل سعيد ، واستراحة قصيرة ، وعودة إلى البيت عند الغـروب ، وحديث واعد عن غد مشرق ، يتسامر به زوج بعد عناء طويل . أجل ، تلك هي حياة الفلسطيني قبل الهجرة ، وحين ترك أرضه فقد هذا كله ، فقد هذه النعمة التي لا تقدر والتي ترتبط على بساطتها بأعمق أسلاك عناصر الإنسانية في الإنسان ، بهـذه البساطة ، وهذا العمق ، تصور سميرة عزام الجريمة التي ارتكبها العالم بحقـها (21) . وقد تجلت عناصر هذه الجريمة في الحرمان من اللقيا ، ومن الفرح ، ومن الهوية أيضاً . إنها جريمة ارتكبتها ( القوى المتحضرة ) بحق شعب أعزل ، ففصلت جسده عن روحه .. وثمة قصتان لسميرة عزام ، تبينان رعشة الأسى ، والغصة التي شعر بها الفلسطيني في سني غربته الأولى ، قبل أن يتحول أساه إلى غضب و مقاومة ، تلكما قصتا " زغاريد (22) و " عام آخر "(23) في قصة " زغاريد (24) " تروي سميرة عزام حكاية سلمى الصواف التي تتلقى،ضمن برنامج رسائل اللاجئين إلى ذويهم الرسالة الإذاعية التالية :

" مـن جميل عبد الله في بيروت إلى ولده كريم عبد الله ووالدته سلمى وأخته وداد في يافا ، أنا بخير كذلك خطيبتي ناديا .سنتزوج في الساعة الثالثة من بعد ظهر الثامن من أيـار في كنيسة " السيدة " ثم نسافر لأعمل في الكويت،مشتاقون طمنونا بواسطة الإذاعة " ( 25 ) وعلى الرغم من أن بيروت ليست في السند أو الهند ، فإن سلمى الصواف لا تستطيع أن تذوق فرحة العمر ، ولا تقدر مع زوجها أن يفعلا شيئاً لعرس ابنهما سوى " من كريم عبد الله وزوجته سلمى وابنته وداد وزوجها . . نبارك زواجك ، وندعو لك بالخير " ( 26 ) . غير أن الأم المحرومة من الفرح تحاول أن تنقل العرس ، بخيالها ، إلى بيتها في يافا ، إلى كنيسة الخضر ، بكل تفاصيله ، ولكنها حين تدرك عبث كل هذا تملأ البيت بصوت زغاريدها المخنوقة .

إن النكبة هنا تجسدت في أقسى تجلياتها الإنسانية فالأم والأب ممنوعان من الفرح بفعل الهزيمـة ، ممنوعان حتى من تلقي خبر زواج جميل إلا عن طريق الإذاعة ، حيث تغدو العلبـة الخشبية مستودعاً لأشواق اللاجئين . إنها ليست مأساة الأم وحدها ، بل هي مأساة كل الأمهات ، مأساة يافا التي يتعاظم شوقها " لأن ترى عرساً لأحد أبنائها ، بعد أن صارت أعْراس الناس " كجنازات الصعاليك " ( 37 ) .

إن الألم هنا ألم وطني وإنساني في آن ، فحيفا تشتاق عرساً حقيقياً ، يقيمه جميع الأهل ، ولا يمكن بالطبع أن يقوم هذا العرس إلا باجتماعهم في يافا بالذات بعد أن شطرتهم الغربة . . لأن يافا ذاتها هي جزء من الفرح ، في زمن صارت فيه جباه الناس موسومة بالأسى .إنها قصة إجهاض العواطف النبيلة من قبل المؤسسات" الحضارية "التي تحكم العالم ،وتخطط للشعوب الفقيرة مصائرها .هي قصة عواطف قبل كل شيء .تملأ المحاجر بالدموع .ومع ذلك فإن الـدكتور هاشم ياغي يرى أن هذه القصة " تكاد تخلو من الانفعال العاطفي الحـار " ( 28 ) ، على الرغم من أن العواطف هي نواة القصة المركزية ، وهي التي تدفع الأم إلى حالة التوحد مع الأمكنة ، مما يجعلها تضيء الشموع في بيتها وتزغرد وسط دموعها لفرح حقيقي تنتظر أن يتم في يومٍ من الأيام .

" عام آخر " ( 29 ) مثال ثانٍ على المأساة الفلسطينية التي تورط العالم فيها . إنها قصة أم عبـود ، المرأة المسنة التي تقطع الأميال من سورية إلى الأردن إلى القدس ، حيث بوابة اللقاء والدموع ، بوابة مندلبوم ، لتلتقي ابنتها ماري التي ستأتي من الناصرة لملاقاتها هناك ، ولكن مرض زوج ابنتها ، يمنع ابنتها من المجيء ، فلا يبقى للعجوز إلا الحسرة والإصرار على العودة إلى البوابة ، في العام القادم ، ولو جاءت زاحفة على قدميها .

إن الحديث الساذج الذي تخوض به العجوز المكرارة مع السائق يدل دلالة بينة على الحزن الفلسطيني ، بواحد من أكثر أشكاله بؤساً : فالأم ممنوعة من زيارة ابنتها في الناصرة وهي تسمع أخبارها كالقصة السابقة بواسطة الإذاعة : " عرفنا من الإذاعة أن مـاري ولدت ، أنا ما سمعت الرسالة ، سمعتها صديقة فأخبرتني " ( 30 ) . . فأية فاجعة تلك التي لا تعرف فيها الأفراح والأتراح إلا بهذه الوسيلة ؟ ! .

إن هذه القصة هي باختصار " صفعة على وجه العالم لأنها في نواتها المركزية ليست سوى سرد واقعي لإجهاض الشوق الأصيل ، فخلاصة ما تقوله أن اللؤم الممنهج والمخطط والمتجّسم في مؤسسات لا وظيفة لها سوى ترميد الشعور النبيل ( . . . ) إنها تراجيديا بغير دماء ( . . . ) وما هي بمأساة إلا لأنها تدمير للروح البشري " ( 31 ) .

إن يوسف اليوسف الذي قال هذا الكلام عن القصة ، لامس جوهرها ، ولكنه أغفل تلميحات في القصة تدعو إلى المقاومة ، وإن كانت هذه التلميحات لا تجعل من هذه القصـة قصة غاضبة ومقاومة . وحسبنا هنا أن نشير إلى أن إصرار العجوز على العودة إلى بوابة مندلبوم ما دامت حية ، هو إرهاص بغضب أو بفعل ثوري .

من هنا يغدو كلام كاتيانا بيسللي التي رأت أن هدف القصة هو استجلاب بسمة حزينة إلى وجه القارئ ( 32 ) وكلام الدكتور فخري طملية عن اقتصار هدف القصة على إثارة الحزن والإشفاق ( 33 ) فيهما تسرع كثير . وسطحية ، خاصة في بحث الدكتور طملية الذي قدم حججاً لا تستطيع مواجهة النقد ( 34 ) . إلى ذلك فان قصة العجوز مليئة بالرموز ، فبالإضافة إلى الرموز الوطنية ، هناك رموز مسيحية أشار إليها يوسف اليوسـف : " كان في ميسور الكاتبة أن تجعل الابنة متزوجة في يافا ، ولكنها عمدت إلى جعل ماري تسكن الناصرة لتذكر بمريم العذراء والدة السيد المسيح " ( 35 ) .

وفي إشارة أخرى يقول " إن ماري لا تأتي بسبب مرض زوجها مما يوحي ، ولو من بعيد ، بأن العذراء منهمكة بآلام يسوع " ( 36 ) وهذا يعني أن الباقين تحت ضغط القمع الصهيوني إنما يخوضون معركة وجودهم ضد عدوهم وضد جلادهم .

وعـلى كل حال فإن استعمال هذه الصور المسيحية ، في بعدها الرمزي يمنح هذه القصة بعداً وطنياً إضافياً ، في وطن كان مهداً للسلام الذي يمثله السيد المسيح .

وثمة إشارات مختلفة إلى ذلك الأسى الذي يعانيه الفلسطيني ، في قصص مختلفة . ولكن هذه الإشارات لا تجعل مضمون القصص كلها مرصوداً لتصوير الأسى والحزن .

فـفي قصة " في الطريق إلى برك سليمان ( 37 ) حيث يترك الأب والأم ( بتّير ) ويهربان بطفلهما من جحيم الموت ، يفقد الأب ( حَسَنْ ) بيته وأصدقاءه ووضعه الاجتماعي وقريته وابنه .

وفـي نهاية القصة يفقد روحه أيضاً ، حيث تنهزم الحياة إزاء سطوة الجحيم والنار ، وإن القبر الذي وضع فيه حسن ابنه الصغير عمر الذي أصيب برصاصة صبغت بطانيته باللون الأحمر ، لم يكن لعُمَر وحده ، بل للعرب جميعاً ، يقول مطاع صفدي :

( أثناء الركض تستقر رصاصة ما ، في بقعةٍ ما . . وعند تجاوز الخطر يكون الطفل قد مات بين يدي أبيه . . وأخيراً : النازحان أمام قبر الطفل الذي انتقل من النوم إلى الموت . . من سرير في بيت حجره أبيض ، إلى حضن أبيه ، إلى حضنه التراب . . الجميع أمام القبر ، العرب كلهم ) ( 38 ) ولكن الغريب أن ترى الدكتورة نادرة السراج في القصة انتصاراً لإرادة الحياة ( 39 ) على الرغم من موت كل أعراف الحياة ، وموت المستقبل ( الطفل ) وفق المنظور الفكري القاتم الذي كان سائداً بُعيد النكبة .

وهناك إشارات أخرى في قصة " فلسطيني " ( 40 ) تحلل جزءاً من عناصر المأساة الفلسطينية التي يواجهها الفلسطيني فتكون هذه العناصر حقداً وخداعاً وشتماً من الآخرين دون سبب . إذ تغدو ظروف الفلسطينيين في الغربة مجالاً للتندر لدى الآخرين ، مما يضطره إلى البحث عن هوية بديلة . حيث يتلبنن دون أن يتخلص من( عار )فلسطينيته الذي يلاحقه .

إن الفلسطينـي هنا يلعن ظروفه التي جعلت الآخرين يضحكون لمأساته ، يذكر مرةً أنه " حين مات أبوه الذي يعيش في بيت أخيه في عمان ، أبرق لهم يقول : ( أخرّوه أسبوعاً أو ادفنوه ) ، وكانت تلك أتعس نكتة استمع إليها موظف البرقيات ضاحكاً " ( 41 ) .

إن ( عار ) الفلسطيني أيضاً يسلبه اسمه ، فبطل القصة لا يعرف له اسم في الدكاكين المجاورة سوى الفلسطيني، " بهذا ينادونه، ويعرفونه ،ويشتمونه إذا اقتضى الأمر " ( 42 )

وكان من الممكن أن توضع هذه القصة في إطار القصص التي ترتعش لها القلوب بالأسى واللوعة على ظروف الفلسطيني لولا الإرهاص بالفعل الثوري الذي انتهت إليه القصة ، مما يخرجها إلى غرضٍ آخر .

ثالثاً – سورة الغضب:

وقد انتقلت سميرة عزام ، ومعها الأدب الفلسطيني ، انتقالاً فذاً من تذكر الماضي ، وتصوير مآسي النكبة إلى الغضب الذي سيكون بداية المقاومة . إن هذا الغضب ليس عقيماً ذلك أنه كان مقدمة لما هو أكثر جدوى كما سنرى فيما بعد .

لقد غضبت سميرة عزام ودمرت الحرب براءة روحها ، فغدا الحب الذي تحمله في قلبها حقداً ينصب على مَن جرَّعها كأس الهزيمة المر . لذلك كانت شخصيات قصصها الفلسطينية ، في تلك الفترة ، تمتح من البئر ذاته ، وثمة ثلاث قصص ، تنحو فيها الكاتبة هذا المنـحى ،وهذه القصص هي " في الطريق إلى برك سليمان " ( 43 )و " لأنه يحبهم " ( 44 ) و"فلسطيني" ( 45 ) ففي قصة في الطريق إلى برك سليمان ( 46 ) يحمل حسن طفله الصغير عمر ، ويخرج به من جحيم قرية ( بتّير ) التي يدكها اليهود بأسلحتهم الثقيلة إلى برك سليمان ، مصطحباً معه زوجته ، وهزيمته التي يحاول تسويغها بأن الفلسطينين لا يملكون أسلحة لهذه المواجهة :

" وأحس ( حسن ) بأن رشاشه الفارغ ، خشبته العاجزة هي المسؤولة عن رجولته المهينة وأنه بدون ( * ) رصاصها سيموت في بيته ميتة فأر " ( 47 ) .

وفي طريق الهروب ، طريق الرجولة المهينة تستقر رصاصة في جسد عمر الغض ، وحين يضعه حسن في التراب يحس أن الحب الذي كان يسبغه على زوجته وابنه لا يكفي للحياة ، وأن عليه أن يحقد :

" ولما غطاه بالتراب ، حفنة إثر حفنة ، يحملها بيديه ، وقف وهزَّ الشجرة ففرشت له القبر بنجيماتـها البيضاء . ولم يقرأ صلاة ما ، فقد أخرسه الحقد"( 48 ) ، إنه الحقد الطارئ الذي تسلل إلى قلب الفلسطيني تحت ضغط الهزيمة ، إذ لم يبق أمامه خيار ، وقد فقد أسلحته كلها : بندقيته التي صارت خشبة ، بيته وأرضه وابنه ، وروحه أيضاً .

وثمة مثال آخر على الحقد الطارئ في قصة " لأنه يحبهم " ( 49 ) ، وهي تسير بالإضافة إلى خطها الرئيسـي ، وفق ثلاثة خطوط متوازية أخرى ، يحكي البطل فيها قصة صديقه وصفي الذي اتهم بسرقة أحد مراكز التوزيع لوكالة الغوث ، ويحاول تسويغ تصرفات صديقه من خلال ثلاث قصص يرويها عن المجرم الذي حولته النكبة إلى جاسوس علـى أبناء مخيمه ، وعن البغي التي لم يترك لها استشهاد أخيها وموت أمها إلا البغاء . وهذه المسوغات تجعل الراوي / البطل يدور في بوتقة الحقد نفسها ، ليقوم بعد ذلك بفعلٍ ثوري يمكن أن يكون إرهاصاً بالمقاومة ، ودعوة للتحول من الفعل الفردي إلى الفعـل الجماعـي ، إذ يتسلل في الليل إلى مركز التوزيع ، ويبقر بطون أكياس الذل / أكياس الفـول والطحين والتمر والزبيب ، ويشعل فيها النار . وهو مقتنع أن حقده هذا يرفعه عن اللص والمجرم والجاسوس والبغي ، لأنه رفض أن يأكلها ، وأن يجعل قومه يأكلونها ، ومقتنع أيضاً أن فعلته هذه التي ستحرم قومه من لقمة الذل ، لم يقم بها إلا لأنه يحبهم .

إنها قصة الفلسطيني الذي يراه الناس إمكانية لص ، لنستمع إلى المحقق الذي حقق مع الراوي بخصوص السرقة التي اتُهم بها صديقه وصفي ، يطلق حكمته الأجنبية الغريبة :

" في مثل ظروفكم يا صاحبي لا يدري المرء في أية لحظة يمكن أن يكون لصاً " ( 50 ) لقد أدرك الراوي أن المحقق ـ إنما هو ظهير للمجرم الذي سلم وطنه للغزاة القادمين من كل مكان لذلك رفض أن يكون حساب وصفي على يد الجلاد ، فالجلاد لا يمكن أن يكون قاضياً ، يقول في نفسه : " ولم تكن معي حين كنا نجمع التبرعات لمجلة تحمل اسم وطننا ، لا ..لا تنتظر مني أن أكون أميناً ، فأقول كلاماً من هذا القبيل ، فلن أحبك أو أحب الحقيقة بقدر ما أحب وصفي ( . . . ) حساب وصفي لن يكون على يديك . . سيكون بيني وبينه . . وأما أنت فليس بوسعي إلا أن أكون مدافعاً أمامك " ( 51 ) .

إن الكاتبة في هذه القصة تستثير التعاطف مع الفلسطيني الذي حولته ظروفه إلى مشروع إنسان خاطـئ ، فلا يبقى في نظر أحد إنساناً سوياً ، فإذا لم يكن لصّاً فهو إمكانية لص ، وإذا لم يكن مجرماً فهو إمكانية مجرم ، ولعل من الغرابة أن نقرأ للدكتور هاشم ياغي في تعليقه على القصة قوله : " ومع موافقتنا التامة على أن الظروف التي تلعب دوراً كبيراً في دفع الناس إلى ألوان سلوكهم فإن هذا التقرير ( القصة ) لم يستطع أن يبرز لِمَ كان وصفي بالذات من بين هؤلاء اللاجئين لصّاً ، مع أن الذي هب لحرق مخزن المؤن – رمز الظروف التعسة – هو صديقه الذي لم يصبح لصاً مثله ، لم يبين التقرير كذلك لمَ كان فياض الحاج علي مجرماً ،ولمَ كانت أخت أحمد مدرب الحرس ، بغياً ولمَ كان أبو سليم وغداً ..." ( 52 )

ويسوق واصف أبو الشباب اتهاماً مشابهاً ضد الكاتبة حين يقول في أثناء تعليقه على القصة ذاتها : " والكاتبة لا تعطينا مبرراً واضحاً عن أسباب السرقة ولا عن الدوافع التي أجبرت اللص كي يسرق " ( 53 ) ، ولكنه ، خلافاً للدكتور ياغي ، يجد تبريراً للمجرم والبغي في ثنايا القصة ( 54 ) .

فلـو تفحصنا القصة لرأينا هؤلاء – اللص والمجرم والبغي – يحاولون " أن ينتحلوا لأنفسهم هوية ما تميزهم عن القطيع " ( 55 ) ، وكانت هذه الهوية ضمن ظروفهم وكانت خطوتهم مبررة ، فالراوي الذي اتُهم بأن إحراقه مركز التوزيع غير مبرر ، إنما وضعت له الكاتبة القصة كلها لتبرير عمله ‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍ وقد أفردت المؤلفة ، تصريحاً لا تلميحاً ، لتبرير ذلك ثلاث صفحات ( 56 ) ،ففياض الحاج علي قتل زوجته على باب مركز التوزيع لأنها لم تشتر له بثمن ( الإعاشة ) مشروبـاً ينسى به همومه .

فياض هذا لم يكن مجرماً :

“ كان مزارعاً طيباً ، ولكنه فقد الكرامة حين فقد الأرض . هكذا قال لي أحد شيوخ المخيم ، وحدثني كيف كان فياض مثال الدماثة ، وكيف نحر أبوه خمسة خراف حين زوجه ابنة عمه التي يحبها “ (57) . وأبو سليم ، جاسوس المخيم ، لم يكن ليسجل على اللاجئين تحركاتهم ، ولم يكن ليبلغ عن الموتى لتبادر الوكالة إلى قطع مساعداتهم الغذائية ، لولا أنه فقد كرامته ، حين فقد وضعه الاجتماعي السابق ، وأن كان هذا التبرير ن غير كاف وغير مقنع ، من الناحية الوطنية ، لتحويل الفلسطينيين الذين فقدوا أوضاعهم الاجتماعية إلى جواسيس .

وأما البغي فإن ظروفها الشخصية ، وهي تتمثل في موت أمها بعد استشهاد أخيها ، قد دفعتها دفعاً إلى طريق البغاء ، وإذا كانت الكاتبة قد نجحت في استثارة شفقة القارئ على مصير الفتاة المحزن إلا أن هذه الظروف لا ينبغي أن تقود شقيقات آلاف الشهداء إلى الطريق ذاته ، فهذا الأمر غير مقبول من الناحية الأخلاقية،على الرغم من وطأة ظروف التشريد التي عاشها الفلسطينيون .

نلاحظ إذاً أن سميرة حاولت تبريد سقوط هؤلاء ، ونجحت في ذلك من الناحية الفنية ، وثمة ميزة أخرى للقصة ذلك أن سميرة انتقلت ، من خلالها من الفلسطيني الذي يقتل أخاه الفلسطيني من أجل لقمة الذل ، على نحو ما نرى عند غسان كنفاني (58) ، إلى الفلسطيني الذي يحرق هذه اللقمة حفاظاً على كرامته .

وثمـة مثال آخر على سورة الغضب الفلسطيني الناجمة عن ظروف التشرد "فلسطيني"(59) تحكي قصة أحد الفلسطينيين المدانين بفلسطينيتهم : بقال فلسطيني يحاول تبديل هويته ، فيلجأ إلى تزويرها بهوية أخرى لبنانية ، تخلصاً من تبعة جنسية الأصلية ، ولكن تغيير هذه البطاقة لا يقدم ، ولا يؤخر في وضعه السابق فهو ، وإن كان يحمل الهوية المزورة ، لا يساوي في نظر الناس أكثر من ( فلسطيني ) . في نهاية القصة تخاطب امرأة من الطابق الثاني صبي الكراج المواجه لدكان البقالة بعد أن يرفض الفلسطيني الاستجابة لها : “ وينك يا ولد ، قل “ للفلسطيني “ أن يضع لي في السلة زجاجة كولا .. “ (60) .

عندها يدرك الفلسطيني ان الحل لا يكون بتبديل الهوية ، وإنما بتغير نمط حياته ، حتى يفرض لهويته احتراماً ، ولنفسه وجوداً : “وأحس الفلسطيني في وقفته المرتعشة خلـف الطاولة بالصوت الممطوط ينفذ من جيب سترته إلى جيبه الداخلي ، فيحيل البطاقة إلى مزق صغيرة تخشخش في جيبه ، في غير عنفوان !” (61) .

إن هـذه القصة تمثل ، فيما يرى يوسف اليوسف ، الإنسان الفلسطيني في برهة سقوطه “ أو حين يخور فيحاول أن يتملص من مسؤوليته تجاه الشعور الجمعي “ (62) .

غير أن الاتهام الذي يسوقه الناقد ضد الفلسطيني بأنه (رضوخي رعديد) (63) في هذه القصة ، هو اتهام مبالغ فيه ، ذلك أن هاتين الصفتين اللتين تنسحبان على معظم أجزاء القصة ، تغادرانها لتحول البطل إلى عكس اتجاهه الرضوخي صحيح أن استعادة الاسم لا يتحقق بإجراء إداري وإنما بفعل تاريخي (64) .ولكن تمزيق الهوية المزورة هو بداية الفعل،لأنه دليل ، ولو نظري على تمسك الفلسطيني بهويته الشخصية ، وبالتالي بهويته الوطنية .وثمة إشارات أخرى في قصص متفرقة ،يغدو فيها الحقد والغضب أقل بروزاً ،حيث لا يصبغان تلك القصص بصبغتهما ومن هذه القصص قصة (زغاريد) (65) التي يحقد فيها الفلسطيني ، لا على عدوه المباشر فحسب ،بل علىكل شيء حوله ،فبطلة القصة أم جميل ، تحقد حقداً ساذجاً على أم عروسة ابنها البعيد على الرغم من أنها – أي أم العروسة – لا علاقة لها بالظروف التي أبعدت الأم عن ابنها ، وبدلاً من أن تلعن الأم تجار السياسة والحرب فإنها تقول بسذاجة :”من يزغرد للعريس،أم العروس ؟بصفاقة ،كأن العرس عرس ولد ذكر لها ؟ لعنها الله .لقد خلا لها الجوّ فكانت أمه و أمها”(66) .وفي مكان آخر تكون أم جميل أكثر وعياً ،و إن لم تخف كراهيتها تجاه أهل العروسة :”وانفعلت أم جميل أكثر مع موجة كراهية فجائية استشعرتها تجاه أهل العروس إذ أوقعوا جميلاً في شباكهم .و استعجلوه الزواج،و ماخلّوه ينتظر انفراج الضيق ،و انحسـار الأزمة”(67) أبو جميل ،يحقد أيضاً” و يقوم و يبصق من النافذة ،ويلعن أبا اليهود “ (68)،ولكن حقده و حقدها لم يتجاوز الشفاه و القلوب إلى الفعل ،وبقي الاثنان يمارسان حقدهما بشكل سلبي ،غير واع ،أو واعٍ إلى حدٍ ما ،و لكنه في الحالين حقد لا يحاول التغيير،بل ينتظر أن يهبط عليه الفرج من السماء .لذلك كان لابد من فهم آخر للمأساة الفلسطينية ولابد من فعل أكثر جدوى من الحقد .

رابعاً – المقاومة :

و بعد أن أدرك الفلسطينيون أن الدموع التي يذرفونها ، و اللعنات التي يصبونها على أعدائهم لن تشفي الجراح التي خلفتها النكبة ، انتقلوا إلى المقاومة ، فليس ثمة إلا الحرب ، من أجل سلام كريم لا يقرّ به الأعداء .

و لعل قصة ( خبز الفداء) (69) هي أنصع مثال على تحول الصرخة الفرديـة التي كانت صرخة في وادٍ أصم ، إلى فعل جماعي يقوم به الفلسطينيون تجاه وطنهم ، ينأى بكينونتهم عن باب الذلّ و الاستجداء . إنها قصة رامز الذي تطوع حارساً على المستشفى التي ملأها الصهاينة بجرحى حقدهم الأبرياء ، و من ثم مدرباً للأجيال التي ستهب للدفاع عن عروبة الوطن إنها قصة سعاد أيضاً ، تلك التي تطوعت ممرضة بالمشفى ذاته ، ثم عملت على إيصال الزاد للمقاتلين في أشد الظروف خطورةً . و في المشفى يتعرف البطلان إلى بعضهما ، يحبّان بعضهما فيما بعد ، يجمعهما حب صغير ، و حب كبير ...و ذات مرة حين كانت سعاد في طريقها إلى المقاتلين ، أصابتها رصاصـة غادرة ، و لكنها استطاعت أن تصل إليهم ، غير أن الطعام الذي تحمله يختلط بدمها و تموت،و يكون على رامز أن يقرر : أن يمنع رفاقه أن يأكلوا هذا الأدام التعس ،أو أن يدوس على قلبه و يتركهم يأكلون ،حتى الرفاق أنفسهم لا يستطيعون هضم هذه الوجبة الأليمة .

و تنتهـي القصة حين يسقط رامز مغشياً عليه بعد أن يقول لرفاقه “ كلوا …. إن سعاد لا ترضى لنا أن نموت جوعاً” (70) .

إن بطل القصة رامز شخصية واضحة متكاملة فهو يعرف لماذا يحارب ، لقد تعرض ربيع وطنه لطعنةٍ غادرة لا ترحم : “ و في ربيعه ذاك عرف شيئين : الحب و الحرب .. و كان الأول يعطي معنىً للثاني . فالحرب ليست عدواً يقتل لشهوةٍ ، إنما هي حياة للأرض التي يحب .. و الفتاة التي يحب “ (71) .

وحين اغتيلت الأرض و الفتاة معاً كان على البطل أن يقدم تضحية ، للأمل القادم أن يقدم الخبز المعمد بالدم ، في صورة مسيحية واضحة ، لرفاقه ، حتى يأخذوا من سعاد شيئاً يجعلهم أشداء على أعداءهم ؛ لذلك كانت تضحية رامز مزدوجة ، إذ إنها تضحية شخصية و وطنية في آن واحد ، إن سعاد تضحي بنفسها ، بينما يضحي رامز بدمها و بقلبـه ، ليعيدا معاً صورة المسيح التي يكللها رامز بقوله (كلوا إن سعاد لا ترضى لنا أن نموت جوعاً) (72)

إن البطاقة السحرية التي وضعتها سعاد في جيب قميص صوفي نسجته ليكون من نصيب بطـل ، ثم كان بعد ذلك من نصيب رامز ، أهابت به “ أن يكون بطلاً حقاً قبل أن يعرف سعاد ، ثم كان بعد ذلك الحب بطلاً مزدوجاً " (73) .

و إن جزءاً من نجاح القصة مردّه إلى تقديم رامز ، شخصية إنسانية ذات ملامح واضحة فهـو ليس بطلاً طوطمياً ، إذ إنه يتمنى في بعض الأحيان “ أن ينفضّ إخوانه قليلاً ليعود إنساناً يخلع قناع الصلابة و يبكي “ (74) . و هو أيضاً إنسان يحب ، يؤرقه ما يؤرق العشاق ، بعيداً عن كونه مدرباً " و التفت إلى نفسه في المرآة المعلقة على الحائط ، و تحسس ذراعيه المفتولتين و ضحك على سخفه و هو يتأمل نفسه .. و لكن أي ضير في أن يكون سخيفاً فيرفع مثلاً القميص و يشمه طويلاً و يقبله أيضاً " (75) .

غير أن حب الوطن ينتصر لديه على حبه الصغير الذي بدا أكثر رومانسية عن حب سعـاد التي كان حبها لرامز أكثر وضوحاً من الناحية النظرية و العملية على حدّ سـواء ، فهي تتشبث بجذورها .. بأرضها ، على الرغم من أن أخاها يضربها ، حيث لم تجد إلا الفرار منه ، إنها ترفض أن تغادر حيفا مع من يغادرون ، لذلك يسألها رامز :

“هل فعلت ذلك بسببي ؟؟ “

وانفجرت في وجهه :

-” لا ليس ..صحيح أنني أحبك .. و لكنك لست كل شيء “ (76) .و في حوار آخر بين سعاد و رامز ، قبل أن يتعرف إلى اسمها في المستشفى ، يسألها عن مهنة التمريض الصعبة التي تمارسها في أحلك الظروف ، إذ تدور بين المرضى تلبي أجراساً تقرع في كل الغرف :

“ألا تجدين المهمة شاقة عليك ؟

و في حدة لم يتوقعها ردت عليه :

هل تجدني أضعف من الواجب “ (77) .

إن هذا الوضوح في أفكارها كان يراه رامز ، وفقاً لرؤيته الأقرب إلى الرومانسية ،في وجـهها في عينيها اللتين رأى فيها " بريقاً يعكس إرادة لاتحدَّ "( 78 ) . و يأتي التطبيق العملي للقناعات فتظهر سعاد أكثر شجاعة وأكثر تضحية بما يتناسب مع الإطار النظري الذي وضعت نفسها فيه ، الأمر الذي جعل " شخصيتها و اهتمامها الأول تجاه وطنها يخضعان العلاقة بينهما ليجعلاها علاقة زمالة أكثر منها رابطاً تقليدياً غير متكافئ بين شاب وفتاة"( 79 ) . ولعل الغريب أن يستعجل الناقد يوسف اليوسف الحكم على شخصية الفلسطيني في هذه القصة بأنها شخصية مهزومة ( 80 ) ، فهذا الحكم لا يصدق حتى على شخصية رامز التي شهدت تراجعاً نظرياً حين يبدي خوفاً مبرراً على حبيبته من الخطر الذي تعرض نفسها له من جراء إيصالها الزاد للمقاتلين لأنه من الناحية العملية منتصر بتضحيته ، فهناك شيء من سعاد ، كما يرى هو ، سيستقر في داخله شيء من البطولة التي لاتنقصه ، ليزداد انتصاراً على نفسه ، وعلى أي خوف محتمل في ظل واقع يصدم رومانسيته .

في قصة " في الطريق إلى برك سليمان " ( 81 ) ، ثمة إشارات إلى المقاومة ، ولكن السلبية التي طغت على القصة ، لا تجعل هذه الإشارات ترقى إلى القصة المقاومة ، وإن كنا لا نستطيع إغفالها فحسن كان ، مثل رامز ، يعرف لماذا يحارب ، وإن كان لم يحارب خلال القصة لأسباب تكاد تكون موضوعية ، إنه يحارب من أجل السلام ، ولكن لو جاءت الذخيرة :

“ ولو جاءت الذخيرة لانتصب مارد على كل سطح من رفاقه شباب الحرس “ (82)

" وشـق عليه أن تبكي سعاد . . ولما نظر إليها حانقاً لم تقل له أكثر من كلمتين " وطفلنا يا حسن " ؟ . . لعيني عمر كان يحارب ، لعيني جيل من رفاق عمر " ( 83 ) .

*الأمـل : ومن الألم إلى المقاومة إلى الأمل تابعت سميرة عزام مسيرة الدرب الطويل الذي يدرك دور الأدب ، فأضاءت الطريق وألهبت الحماس ، ودعت إلى المقاومة ، ورسمت أيضاً فجر الأمل الذي توزع نوره على كثير من قصصها ، ولعل الأمل هو الظاهرة التي اختلطت ببكاء المشردين وصياح الغاضبين ورصاص المقاومة إذ أنه جمع بين هؤلاء جميعاً وأطل من وسطهم .

في قصة " زغاريد "( 84 ) ثمة أمل وسط الدموع والكآبة التي تسيطر على الجو ، فنهاية القصة المأساوية تشي بأمل وتشي بأن الناس ما زالوا قادرين على تصور الفرح ، بل الزغردة له ، وإن كان ذلك الفرح مختلطاً بالدموع على الرغم من كل الجراح التي حملتها أرواحهم .

فسلمـى الصواف بطلة القصة تحاول أن تكمل حلمها وأملها من خلال الأطفال :

“ واقتربت تشعل شموعهم ولكنهم لم يتحركوا كانوا يحدقون إليها بعيون غريبة ، وهي تدور بينهم تمسح دموعها بكّم ثوبها ، وتهز صمت الحي بزغاريدها المخنوقة “ ( 85 ) .

في قصة " عام آخر " (86 ) ، قصة كل من الانشطار الروحي الجسدي اللذين عانى منهما الفلسطينيون بفعل النكبة ، ينتصب الأمل من خلال الإصرار على العودة عبر بوابة مندلبوم الضيقة ، فالعجوز التي تقابل الرجل الناصري الذي جاء يخبرها أن ماري لن تجيء بسبب مرض زوجها تقول له :

“وقل لـها على لسـاني بعد السـلام إنني إذا عشـت عاماً آخر فسآتي إليها زاحفةً على قدمي “ ( 87 ) . وهذه الصورة تتطور بتطور فكر سميرة عزام إذ تصبح أرقى في الوجدانيات الفلسطينية حين تتحول إرادة الكاتبة من الإصرار على اللقاء عبر بوابة مندلبوم ، كل عام ، إلى حلم كبير في العودة :

“ مندلبوم . . مندلبوم . .

أيتها البوابة التي تأكل أسلاكها عيوننا

لقد قررنا ألا تظلي وحدك بوابة اللقاء وعزمنا أن نجعل كل حدودنا بوابات

ولقد قلنا كلمتنا . . فماذا تقولين ؟” ( 88 ) .

في قصة " في الطريق إلى برك سليمان " ( 89 ) يولد الأمل وسط النكبة في حلم الطفل الصغير ، وفي غد الشجرة ، وفي روح حسن الحاقدة التي يتسرب منها الأمل ، فحين يمضي حسن إلى سرير عمر ويحمله تصفه الكاتبة بقولها : “ كان نائماً . . ولعله كان يحلم بيوم هنيء تشرق شمسه على رجاء “ ( 90 )

والكاتبة حين تتذكر شجرة اللوز فإنما ترمز إلى الحياة المستمرة التي لن ينهيها السفاح كما يشاء ، تقول سميرة : “ شجرة اللوز غرسها يوم ولد عمر . . وكبرت الغرسة واخضرت وكان يحمل ابنه ويوقفه بقربها ويقول دعنا نقس أيكما صار أطول أنت أم اللـوزة “ ( 91 ) . ولا شك أن الإشارة إلى الشجرة ، وإلى الطبيعة التي هي رمز التجدد ، يدل على الأمل بالحياة المستمرة المتجددة ، فإذا مات عمر فإن شجرة اللوز لم تمت ، ولعل مزج صورتهما معاً يؤكد أن عمر غير قادر على التجدد من خلال جيل رفاقه ، الجيل الذي وُلِد مشرداً ، أو عاش طفولته كذلك . . وفي أشد لحظات الموت حلكة نجد حسن يبحث ، رمزياً ، عن الأمل و الكاتبة تبحث عن الطبيعة كي تبثها آلامه وآماله :

“ ولما غطاه بالتراب حفنة إثر حفنة ، يحملها بيديه ، وقف وهزَّ الشجرة ففرشت له القبر بنجيماتها البيضاء “ ( 92 ) .

وفي قصة " خبز الفداء " ( 93 ) التي هي قصة البطولة والتضحية الحقَّة ، ينبعث الأمل من عيني سعاد ، ومن دمها أيضاً ، فسعاد / فلسطين ، حية وشهيدة لا تزال تمثل طموح الفلسطينين / رامز لذلك تصبح عينا سعاد رمزاً للوطن :

" وفي عيني سعاد رأى خير فلسطين كله ، رأى ظل بيت سعيد له ، وزوجة تنجب له أبطالاً صغاراً وتجعل من حبه معنى لوجوده " ( 94 ) .

وحين تمضي سعاد شهيدة في سبيل الوطن لا تفقد نظرتها أي معنىَّ من معانيها ، بل لقد كان موتها طريقاً جديداً للحياة :

“ لم يكن في نظرتها موت،في عينيها اللتين تتحديان أي شيء .كان فيهما حبُّ ووعد بالحياة “ ( 95 ) ، وهذا الوعد سيكبر ،وستزداد المقاومة ضراوة ،خاصة في نفس رامز الذي سيأكل من خبز الفداء وسيستقر شيء من سعاد في أحشائه ، داعياً إياه إلى مزيد من الفداء 0 الوطن المستتر :وإذا كانت سميرة عزام قد عبرت عن موضوعات الأدب الفلسطيني ومراحله بوضوح كما رأينا فيما سبق ،فإن الكاتبة كانت تقدم أفكارها ، في بعض الأحيان ، من خلال ستار شفيف . وثمة خمس قصص يمكن ببساطة كشف ستار الرمزية عنها ، تقع أربع منها في مجموعة " الساعة والإنسان " بينما تقع الخامسة في مجموعة " العيد من النافذة الغربية " .

قصة " الساعة والإنسان "( 96 ) تتحدث عن أبي فؤاد الذي يوقظ موظفي سكة الحديد في حيفا حتى لا يفوتهم القطار ، إنه ذاق مرارة التأخر عن القطار ، فقد سقط ابنه قتيلاً تحت عجلاته . . . دراما اللحم والحديد دعت أبي فؤاد إلى أن يوقظ جميع العاملين طيلة حياته ، وحين يموت يترك وراءه ساعة تقول : تك . . تك . . تك . . إن شخصية أبي فؤاد هنا شخصية رمزية ، حيث فؤاد رمز الشهداء ، ودور والده ، هو إنقاذ حيفا ، المدينـة النائمة ، إنقاذ أهلها وتنبيهم على الخطر ، قبل أن يفوتهم القطـار : قطار الزمن ، لذلك فعليه أن يوقظ الجميع : فتحي وغسان وعبد الله ويوسف ، و حين يموت يكون موته مدوياً ، فالساعة التي مازالت تتكلم ، حين صمت كل شيء ، تقوم هنا مقام أبي فؤاد ، الذي قام بدوره على أكمل وجه ، ثم ترك للزمن بعد ذلك أن ينبه على نفسه .

و لا تبتـعد قصة " وهل كان رمزي " ( 97) كثيراً عن القضية الوطنية فالكاتبة ، وإن كانـت تستخدم الرمز بطريقة أقل وضوحاً ، تقدم لنا قصة ولد ضاع وهو في الرابعة من عمره ، وكان يرتدي بنطالاً أزرق ، وبعد أربع سنوات يظهر رمزي ، ولكن الأم لاتعترف به ابناً فقد تركته ولداً في الرابعة يرتدي بنطالاً أزرق ، وهذا الغريب القادم ليس كذلك …

بعد أيام من بقائه في دار أمه ، يهرب الغريب مرة ثانية لتعود الأم فتقف على باب المدينة سائلة المارة “ هل فيكم من رأى ولداً في الرابعة ، يلبس بنطالاً أزرق ؟ “ (98) ..

إنه الوطن الضائع المغدور ، الذي سرقه الغزاة ، وغيروا ملامحه ، لذلك فإن صديق رمزي يقول ، عندمـا يراه مرة ثانية “ قد يكـون رمزي ، ولكنه ليس رمزي الذي أعرف “ (99) والأم ترفض أن تقبل ابنها / وطنها ، إلا كما كان ، جميلاً لا تدنسه أقدام الغزاة .

أما “ قصة الحب والمكان “ (100) . فهي تستخدم الحيوان رمزاً واضحاً : إنها قصة الكلب الذي تنتقل رعايته من مستأجرٍ للبيت إلى مستأجر آخر ، ولكنه يظل مخلصاً لمالكه الأصلي ولبيته ، وحين يعود المستأجر السابق،صاحب الكلب ، تتحرك المشاعر (الإنسانية )في الكلب ، فيهش ويبش وينبح نباحاً فيه سيماء الفرح ، ويعانق صاحبه ، ولكنه حين أخذه صاحبه إلى الباب الحديدي يريد إخراجه من الدار ، عوى بشدة وعاد إلى مكانه وتشبث به كأبي هولٍ صغير .. إن المراد هنا من شخصية الكلب أن تكون قدوةً للإنسان وتبعث في النفس شعوراً بضرورة التشبث بالأرض وعدم التخلي عنها .

أما قصة “ طير الرخ في شهربان “ (101) ، فتقترب من القضية القومية أيضاً ، إنها حكاية راضي الذي حارب مع الترك في القفقاس ، ثم عاد حياً إلى العراق ، بعد أن انتقل هارباً ، من تفليس إلى تبريز إلى طهران ، عاد لينبه قومه على وجود قطارات وسيارات وطائرات في العالم الآخر البعيد عن عالمهم المتخلف:

" شفت عرباين حديد .. واحدة مكبلة بالثانية ، وتجرهم الإمّاية ، تمشي بينهن على شعـرتين مثل الصراط المستقيم (...) وموهذي بس . غيرها أعجب منها عرباين صغار تمشي على كل طريق ولها عينين تضوي وتطفي . تشيل خمس ست أوادم ، تركض وتصيح بالك .. بالك “ (102) ،وفي إشارة ساذجة إلى تنبيه قومه على الطائرات .

يقول راضي :”طير كبير أكبر من الرخ ، صوته يهرج البلد “ (102) ولكن “ شيخ “ شهر بان القابع على صدور الناس،والذي كثيراً مايتفل في حلوقهم ، لم يكن يريد لأحد أن يصدق راضي فاتهمه بالكفر والجنون،وهذه إشارةواضحة إلى الدور الذي لعبه دعاة الفكـر الديني السلفي في العهد العثماني من تثبيط إرادة التحرر ، ونقض كل ما يمكن أن يؤدي إلى تحرير الناس الفكري ، وذلك على طريقة محاكم التفتيش الأوربية فالشيخ يأمر بجلد راضي حتى الموت،لأنه أصر على “كفره وجنونه “ .أما “العرباين الحديد “ التي كان راضي قد رآها ، فقد طوقت البلدة بعد انسحاب الحامية التركية ، ولفـظت من بطونها عساكر حمر الوجوه بينما “ انهرجت البلدة بطيور الرخ تملأ سماءنا وتمزق آذاننا بما يشبه الرعد” (104) . إن دور راضي الذي أراد أن يوقظ أهالي شهربان مهما للغاية ، فقد قاموا – وإن بعد فوات الأوان – ليحاسبوا شيخهم على تقصيره ، وخيانته ، وليتفرغوا بعد ذلك لمحاربة الانكليز .

* في ذاكرة الوطن : إذاً ، لقد عاشت سميرة عزام مراحل النكبة الفلسطنية وقد تجلى ذلك في قصصها التي رافقت الفلسطيني في حنينه وبؤسه وغضبه وثورته وأمله ، وعلى الرغم مما سـبق ، وعـلى الرغـم من الشهـادات الكثـيرة التي تشهـد على إسهـام الكـاتبة في الـكتـابة للقضيـة الوطنيـة (105) التي هي بنـت نتائجهـا القـاسية ،

فإن بعض الظلم الذي حاق بالكاتبة إنما جاء من خلال محاولة نفر من النقاد إخراج كتابتها من حيز الكتابة الوطنية والتقليل من أهميتها ، زاعمين أن هذه الكاتبة لم تكتب عن فلسطين إلاّ النرز اليسير الذي يضعها في صف الذين أنكروا فلسطنيتهم ، ولم يكونوا مخلصين لها .

فالدكتور واصف كمال أبو الشباب ، يجرد سميرة أو يكاد من حسها الوطني ويقدم مسوغات كثيرة لطرح هذا الموقف . فعملها في الإعلام الغربي : “ المرتبط في هذه الفترة الأولى من النكبة بأجهزة إعلام أجنبية كان لها الدور الأول في تشريد الشعب الفلسطيني ، منعها إلى حد كبير من الالتفات إلى مأساة شعبها “ (106) وهذه الحجة أضعف من أن تثبت أمام المناقشة ، فربما يكون العمل في دائرة من هذا النمط أكثر دفعاً للكتابـة عن الوطن في ظل غربتين ، وإذا افترضنا جدلاً أن ملاحظة الدكتور أبو الشباب صحيحة ، فبماذا يعلل الدكتور احتواء مجموعة “ الساعة والإنسان “ ، والتي هي برأي الكثيرين ، أفضل مجموعات عزام ، على قصص فلسطينية أكثر حميمية ، على الرغم من أنها كتبت قصص هذه المجموعة ، بعد التحاقها مباشرة بمؤسسة فرانكلين للترجمة والنشر ؟ وكيف يسوغ الكاتب قوله ، الذي يتناقص مع قوله السابق : في بحثه ذاته : “لقد عانت الكاتبة سميرة عزام ، على ما يظهر ، كثيراً من كونها تحمل الجنسية الفلسطينية ، خلال عملها في إذاعة الشرق الأدنى ( …) فانعكست هذه المشكلة على نفسيتها ، وأصبحت تشعر بمدى الصعوبة والمعاناة القاسية خلال عملها في أقطار متعددة “ (107) . ويهاجم أبو الشباب الكاتبة لأن مجموعة الظل الكبير فيها “ تجاهل واضح للإنسـان الفلسطيني (….) ما عدا قصتين فقط “ (108) ولأن مجموعة الساعة والإنسان لا تحتوي سوى قصتين صغيرتين وحيدتين “ (109) .

ولعل من أبسط الأساسيات النقدية ألا يؤخذ موضوع معين في أثر ما أخذاً مساحياً أو حجميـاً ، فالمسألة مسـألة كتابية نوعـية ، ولا يتـرك أبو الشبـاب القصص التي تثبت “ فلسطينية ) سميرة عزام الحقة دون أن يهمشها ، ويهشمها ، مقدماً لها تقييمات لا تتخذ الطابع الموضوعي ، فهو يعلق مثلاً على قصة “فلسطيني “ (110) ، وهي قصة مرسومـة بفنية عالية كما سنرى فيما بعد ، بقوله : “جاءت أقرب ما تكون إلى خبرٍ مسلٍ طريف ينُشر في صحيفة يومية” (111) . وثمة اتهام آخر يسوقه أبو الشباب ، متسرعـاً فهو يبدي خشيته من أن تكون الوجدانيات الفلسطينية (112) التي تمثل نحو ستين صفحة من مجموعتها الأخيرة ، ليست من وضع سميرة عزام “ بل من صنع من أراد نشر مجموعاتها كي لا يقطع صلتها بفلسطينيتها “ (113) أما بالنسبة إلى الوجـدانيات فثمة دلائل تجزم أنها من كتابة سميرة ، كتقاطع الأسلوب وتقاطع الموضوعات (114)

-فهناك تقارب واضح بين قصة "مجنون الجرس" (115) والوجدانية رقم عشرين (116) وكذلـك بين قصة "عام آخر" ( 117)والمقطع العاشر من الوجدانيات( 118)وهذا يدل على أن المقطعين كانا مشروعين قصصين"أغلب الظن أنه لو أن العمرقد امتد بالكاتبة لتحولت معظم هذه الملاحظات[الوجدانيات]إلى قصـص خاصة وأن بعضها يحمل مقومات القصة"( 119) .

- وهناك الأسلوب ذاته ، والأفكار ذاتها ، وشجرة اللوز ، والبيادر وكثير من الكلمات التي هي من صميم المعجم القصصي للكاتبة ، ولا يمكن أن تتكرر في الوجدانيات ، من باب وقع الحافر على الحافر .

الوجدانيات عمل نثري جميل ، ولو استطاع الناشر أن يكتب مثله ، فما أعتقد أنه سيدّعيها لغيره إذ ما الذي يجبره على تقديم هذه المقاطع الجميلة إلى سميرة عزام ؟

- الأهم من ذلك كله أن أبو الشباب لا يقدم دليلاً واحداً يثبت بشكل قطعي أن الوجدانيات من وضع الناشر .

ولعل هذه الدلائل إضافة إلى ما كتبته سميرة وعرضناه في هذا الفصل يؤكد أن الكاتبة قد كانت مخلصة لقضيتها الوطنية ، واستحقت الدخول إلى ذاكرة الوطن …..تلك الذاكرة التي لا تعرف النسيان .

هوامش

( 1 ) من الممكن النظر في : عزام ، سميرة : الأدب ودوره في معركة فلسطين ،مجلة الآداب ، بيروت ، العدد 3 ،آذار ، 1965 ،ص ص 8 – 10.

( 2 ) يذكر شفيق الحوت أن سميرة عزام كانت عضواً قيادياً في تنظيم عربي فلسطيني مناضل ، من الممكن مراجعة :

-الحوت ، شفيق : سميرة عزام المناضلة ، مجلة الآداب ، بيروت ، كانون الثاني، 1968 ، ص ص15 .

(3) piselle، Kathyana : samira azzam : auther’s works and vision. PP 95- 96 ، ص ص 67 – 77.

(4 ) عزام سميرة : الظل الكبير، دار العودة، بيروت، ط2، 1982، وقد اعتمدت هذه الطبعة بالنسبة لكل مجموعات سميرة عزام.

( * ) الأوادم : تعني في العامية الفلسطينية أصحاب السمعة الطيّبة .

( 5 ) المصدر نفسه ، ص 72.

( 6 ) هذه القصة منشورة في : - أبو بكر ، وليد : أحزان في ربيع البرتقال دراسة في فن سميرة عزام القصصي ، مصدر سابق ، ص ص 88 – 95.

( 7 ) المصدر نفسه ، ص 89 .

( 8 ) عزام ، سميرة : الظل الكبير ص 72.

( 9 ) المصدر نفسه ، ص ص 47 – 54.

( 10 ) المصدر نفسه ، ص 53.

( 11 ) نفسه ، ص ص 52 – 53.

( 12 ) أبو بكـر ، وليـد : أحزان في ربيع البرتقال ، دراسة في فن سميرة عزام القصصي ، مصدر سابق ، ص 93 .

( 13 ) عزام ،سميرة : الظل الكبير ص 52( 14 ) أبو بكر ، وليد : أحزان في ربيع البرتقال ،دراسة في فن سميرة ، عزام القصصي ، مصدر سابق ، ص 88 – 95

( 15 ) المصدر نفسه ، ص 89.

( 16 ) نفسه ، ص 89.

( 17 ) عزام ، سميرة : الظل الكبير ، ص 57 .

( 18 ) المصدر نفسه ، ص 74.

( 19 ) نفسه ، ص 74.

( 20 ) نفسه ، ص 74.

(21) إدريس ، عايدة : سميرة عزام والنكبة ، مجلة الآداب ، بيروت ، كانون الثاني 1968ص 26.

(22) عزام ، سميرة : الظل الكبير .ص ص 47 – 54 .

( 23) المصدر نفسه ، ص ص 67 – 77 .

( 24) نفسه ، ص ص 47 – 54 .

(25) نفسه ص 49 .

( 26) نفسه ، ص 49 .

( 27) نفسه ، ص 52 .

( 28) ياغي ، د. هاشم : القصة القصيرة في فلسطين والأردن ( 1850 – 1965 ) ، ص 184 .

( 29 ) عزام ، سميرة : الظل الكبير ص 67 – 77 .

( 30 ) عزام ، سميرة : الظل الكبير ص 71 .

( 31 ) اليوسف ، يوسف سامي:الشخصية والقيمة والأسلوب ، دراسة في أدب سميرة عزام ، مرجع سابق ، ص 61.

Piselly ، Kathyana : Samera Azzame : Auther’s Works And vsion p.97

( 33 ) السرساوي ، أحمد : في الذكرى الستين لميلادها والعشرين لرحيلها : سميرة عزام أميرة القصة القصيرة الفلسطينية ) – مجلة الحرية نيقوسيا – العدد 228 _ ( 1303 ) ص 45 .

(34)في معرض الرد على اتهامات الدكتور طملية تمكن مراجعة :

ـ المرجع السابق ، ص 45 .

( 35 ) اليوسف ، يوسف سامي : الشخصية والقيمة والأسلوب ، دراسة في أدب سميرة عزام ، ص 60 .

( 36 ) نفسه ، ص ص 61 – 62 .

( 37 ) عزام ، سمير : وقصص أخرى ص ص 23 – 33 .

( 38 ) صفدي ، مطاع : في الطريق إلى برك سليمان ، مجلة الآداب ، بيروت العدد 10 ، تشرين الأول 1957 .

( 39 ) السراج ، د. نادرة جميل : سميرة عزام في ذكراها الخامسة ، دراسة في فنها القصصي ، مرجع سابق ص 76 .

( 40 ) عزام ، سميرة : الساعة والإنسان ص ص 83 – 93 .

( 41 ) نفسه ، ص 89 .

( 42 ) نفسه ، ص 86 .

( 43 ) عزام ، سميرة : وقصص أخرى ص ص 23 – 32 .

( 44 ) عزام ، سميرة : الساعة والإنسان ، ص ص 5 – 25 .

( 45 ) المصدر نفسه ، ص ص 83 – 93 .

( 46 ) وقصص أخرى ، ص ص 23 – 32 .

( * ) هكذا في الأصل والصواب حذف الباء .

( 47 ) المصدر نفسه ، ص 27 .

( 48 ) نفسه ، ص ص 31 – 32 .

( 49 ) عزام ، سميرة : الساعة والإنسان ص ص 5 – 25 .

( 50 ) المصدر نفسه ، ص 12 .

( 51 ) نفسه ، ص 11 .

( 52 ) ياغي ، د. هاشم : القصة القصيرة في فلسطين والأردن ( 1850 _ 1965 ) ، مرجع سابق ، ص ص 235 – 236 .

( 53 ) أبو الشباب ، د. واصف كمال : صورة الفلسطيني في القصة الفلسطينية المعاصرة ، دار الطليعة ، بيروت ، ط1 ، 1977 .

( 54 ) نفسه ، ص 81 .

( 55 ) عزام ، سميرة : الساعة والإنسان ، ص 19 .

( 56 ) المصدر نفسه ، الصفحات 32 و 24 و 45 .

(57) نفسه ، ص 11.

(58) كنفاني ، غسان : الآثار الكاملة – مجلد القصص مؤسسة غسان كنفاني الثقافية ، دار الطليعة ، - بيروت ، ط2 ، 1980 ، ص ص 781 – 790 ، وقد أشار محمود شاهين إلى هذه الملاحظة في : الحزن الدفين – دراسة في أدب الكاتبة الفلسطينية الرائدة سميرة عزام بمناسبة الذكرى الثامنة عشرة لرحيلها ، ملحق فتح الثقافي ، العدد التجريبي (0) ( دمشق ، 1985 ) ص 53 .

(59) عزام ، سميرة : الساعة والإنسان ، ص ص 83 – 93.

(60) المصدر نفسه ، ص 93 .

(61) نفسه ، ص 93 أيضاً .

(62) اليوسف ، يوسف سامي : الشخصية والقيمة والأسلوب في أدب سميرة عزام ، مرجع سابق ص 63.

(63) المرجع نفسه ص 65 .

(64) دراج ، فيصل : سميرة عزام : البحث عن الإنسان والأخلاق والوطن ، مرجع سابق ص ص 134