إلى من نحتكم في الأثر الأدبي؟
حبيب مونسي
أكاديمي ومثقف جزائري
الجزائر
هل يتساءل المرء حينما يقف أمام نص أدبي يروم قراءته عن الكيفية التي سيباشر بها فعله؟ هل سيسمي ذلك الفعل بأسماء تروج اليوم في سوق الأدب، ولها من البهرجة ما يجعلها مواد فتنة، قبل أن تكون أدوات عمل فعالة في صلب النص وأعماقه؟ هل يكتفي بأن يجعلها مجرد قراءة، وهو يعلم أن هذه التسمية لم تسلم اليوم من لوثة الاصطلاح، التي تجنح بها إلى حدود المواقف والإيديولوجيات، التي تتعدد أوجهها من ثقافة إلى أخرى.
إنه بعد تردد قصير سيدرك أن فعل القراءة -هو الآخر- غدا مصطلحا غامض الدلالة، متلاشي الحدود، عائما في افتراضات يأتي بها وذاك، بحسب الأهواء التي تمليها رياح المقاصد والنيات. نعم إنه يدرك اليوم أن كل فعل لابد له من تبييت نية.. من تبييت قصد. حتى أولئك الذين يزعمون أنهم يأتون إلى أفعالهم الأدبية بنيات خالصة، يغذيها التذوق المحايد، كاذبون في ادعاءاتهم، لأننا نقرأ انطلاقا من نصوص اكتنزناها من قبل وجعلنا منها الخلفية التي تلون أحكامنا النقدية والجمالية.
ولكم رددنا في ما يشبه البلادة أقوال "رولان بارت" حينما عرَّف القراءة بأنها مجموعة نصوص تقرأ نصا، وقبلنا ببرودة هذا القول الفج، وأعدنا كتابته مئات المرات في بحوثنا، ورددناه في جلساتنا الثقافية المتعالمة. ولم ندرك حينها أننا نسقط أنفسنا في ميكانيكية جبرية تختزل الإنسان وتسجنه في النصوص. وإذا راجعنا أنفسنا وجدنا النصوص التي التهمناها لا تعد ولا تحصى،تذهب مادتها يمينا وشمالا، تتعارض وتتناقض، تتزاحم وتتشاجر، ولا يهادن بعضها بعضا أبدا، لأنها نصوص تلهث وراء مقاصدها التي لم ولن تنالها أبدا.. إنها في جريها وراء مراداتها لا تختلف في حيرتها عما نقوم به نحن حينما نتصفح الكتب ولا نغلقها أبدا.. من منا يزعم أنه أغلق كتابا وانتهى منه؟ فإذا ادعى أحدنا ذلك فقد قتل نفسه قراءة وبحثا.
إن الواحد منا ثقافة! نعم ثقافة مثلما قال "مالك بن نبي" رحمه الله. ثقافة تُعجن فيها مقومات حضارة بأكملها، تشارك النصوص في إفراغ حمولاتها فيها، ولكنها ليست كل شيء. في الواحد منا شيء من تراب بلدته لا يفارقه أبدا، يحمله كما كانت العرب تحمل حجرا من مكة في رحلاتها، لتظل مكة حاضرة معها أينما حلت وارتحلت. تلك الطينة التي تجعل الواحد منا أكبر من النص الذي سجَن معانيه في لغته، وحرر مقاصد مؤلفه لتلهث بعيدا في مدارات الاحتمالات. وكل فعل يـأتيه هذا المخلوق، إنما يتفصد من خمائر تلك العجينة التي صاغته إنسانا وثقافة، وشحنته أحاسيس ومشاعر، وعبأت أشواقه برؤى تمتد إلى تخوم الأمل في الاستقبال. فإلى أي نص نُرجع هذه الكتلة المتشنجة من العواطف؟ وإلى أي مرجع نؤول بها إن نحن أردنا أن نحددها مصدرا؟
إن القراءة التي كنا نعتقد أنها ذلك الفَكّ التلقائي لرموز الكتابة حرفا بعد حرف، وكلمة إثر أخرى،فإذا المعنى يقفز خلفها قفزا، وإذا الصورة تتشكل تباعا كلما تقدمنا في السير، وإذا المتعة ناتجة عن كل ذلك فيما نجد من لذة الاكتشاف والتعلم.. لقد أبطل التفكير الحداثي فينا هذه البساطة، واستبدلها بهم يجعل القراءة صراعا بين الذات والنص من جهة، وبين الذات القارئة وأخرى تتراءى بين السطور. وكأن العملية في كل أطوارها ضرب من الصراع الذي فسر به الغرب علاقاته بالوجود، وجعل الإنسان في صراع.. في كَبَد.. ملحمة لا تنتهي من النكسات والخيبات.. حتى أولئك الذين يكتبون اليوم يحاولون في شكل سادي توريثك نكساتهم وخيباتهم من خلال الفن.. لم يعد الفن ترويحا عن الذات كما زعموا، ولا إشراقات يجد فيها الروح فضاء ترنيماته. فالفن اليوم علاج لمرض العصر، ينفث من خلاله المرضى حمم الصدور وزفرات القلوب، ويبثون منه لوثات الجنون وهلوسات المخدرين.. لن يرفعك الفن اليوم إلى عتبات الإشراق التي كنت تحلم بها وقد سبقك إليها آحاد من المحظوظين فعبأها لك في بيت من الشعر أو لون في رسم، أو لحن في نغم.
إن الصراع في القراءة ناجم عن دفع تطفل الآخر حين يصك أذنيك بزعقاته، ويغمز قلبك بسهامه.. أنت تريد قراءة وهو يريد لوثة تنساب فيك عبر الكلمات والأصوات.. ماذا يريد من يقول لك مثلا: (النص لعبد القادر رابحي/ سعيدة/ الجزائر)
أُرَتِّبُ بَعْضَ الجُذَاذَاتِ
الدُّرْجِ
أَكْتُبُ بَيْتًا حَزِينًا
وأَكْنِزُ هَذَا الضِّيَاءَ
لِأَنْشُرَهُ فِي صَدَى مُلْتَقًى قَادِمٍ
ثُمَّ أَحْرُسُ قَلْبِيَ مِنْ سَقْطَةٍ
تَتَنَكَّرُ لِلأَصْدِقَاءِ
وأُرْسِلُ بَارُودَتَيْنِ لـ(عُمْرِيَ)
عَبْرَ البَرِيدِ
وَفِي أَسْفَلِ النَّصِ
أَتْرُكُ بِئْرَ الكِنَايَاتِ مَمْلُوءَةً
لِلزُّهُورِ التِي لَمْ تَذُقْ بَعْدُ طَعْمَ الغَرَامْ
إن عبد القادر يريد منك أن تشاركه في لملمة (جذاذاته) وكأنه يستعد لرحيل، أو يقف في نقطة انتهى فيها وهم إلى خيبة، والخيبة هنا تفسرها "الجذاذات" لأنها قطع غير مرتبة، كتبت فيها ملاحظات ورؤوس أقلام غير منتهية.. وخربشات، وإثبات ومحو.. وما شئت مما تحمله الجذاذات.. إنها ليس أوراقا، فلو كانت كذلك، لكانت ذات قصد ومعنى.. إنه يريد أن يزج بك في عالمة المنهار لتكتب معه بيتا حزينا.. هل الحزن إذا هو النهاية الحتمية لمثل هذا التِّطواف؟ وهل تكفي فيه جرعات من الحزن؟ أم سنصدقه حين يقول لنا بأنه سينتحر: وأُرْسِلُ بَارُودَتَيْنِ لـ(عُمْرِيَ) عَبْرَ البَرِيدِ ..؟ حتما إنه لا يريد الانتحار! لن يستعمل السلاح! ولكنه يعلن عن انتحار من نوع خاص.. ربما كان انتحارا للفن جملة.. لنصوص عبد القادر في كليتها.. إذا هل أنت أيها القارئ مستعد للدخول إلى عتمات هذا العالم الذي يقترحه عليك ما يسمى اليوم شعرا؟. ها يتسع عمرك لتحمل فيه شبحا مثقلا بالحزن إلى حدود الانتحار؟ ونصا سيفغر فاه لالتهام الكنايات التي قد تتفتح للطعم الغرام.
إن النص الذي بين بيديك سيزج بك في أتون الآخر.. سيضيف إلى أتعابك شقاوة الآخر.. كذلك نصوص الحداثة التي لم تستطع الخروج من أسر الذاتية المريضة، تراوح مكانها مثقلة بمثل هذا الألم الذي لا يبرح كلماته.. معاناة تبحث عمن يقاسمها آلامها.. لقد حولت الحداثة القراءة إلى هذا التقاسم الفظيع لآلام الآخر.. لمخاوفه.. لقلة حيلته.. لقد ارتفعت عنها براءة الاكتشاف، وحلت محلها رزية المشاركة في تأبينات الذات.. الكل يريد أن يصرخ بآلامه في وجه الآخرين.. الكل يلعن ، يسب، يشتم.. يسترضي.. يتملق.. ولكن لا أحد يكتب أدبا!
قد تسألني ما الأدب في رأيك؟ فإذا أجبتك بما قاله الجاحظ اتهمتني بالقِدم وسوء الفهم.. وإذا جئتك بسلسلة لا تنتهي من تعريفات الحداثة للأدب، سخرت مني واتهمتني بالحذلقة والتعالم. ولن أقول لك شيء سوى أني إذا قرأت نصا إلى آخره فليس معنى ذلك أن النص جيد، وأنه ينتمي إلى الأدب! لا.. قد أقرأ السطر وأطوي الكتاب كله.. وقد أشتري الديوان ولا أقرأ منه حرفا واحدا.. إنها أحكام قيمة.. لذلك أقول كل نص قبل بحكم القيمة فهو أدب، وكل نص رفض حكم القيمة فقد أخرج نفسه من دائرة الأدب!. لأنني أريد أن تبقى لي حرية أن أقول أحسنت.. وحرية أن أقول أسأت.. أصبت.. أخطأت .. جيد.. رديء.. قد تقول : ومن يخول لك ذلك؟ أقول بحثي عن ذاتي فيما أقرأ.. ليس بحث الفاقد لأبعاده واتجاهاته، وإنما بحث المستزيد ليقينه وسبيله.. فليس النص مدار القراءة، وإنما الذات هي المدار.. إنها المنطلق والمنتهى.
سيسارع البعض لوسم هذا الموقف بالأنانية.. بالنرجسية بما شئت من الأسماء الجاهزة التي نطلقها كالقذائف الطائشة يمينا ويسارا، نصيب بها كل من هب ودب. غير أني أعيد السؤال للسائل قائلا: وماذا تفعل أنت حين تجعل نصك كله (أنا) أنظر في نص عبد القادر واقرأ:
أُرَتِّبُ .
أَكْتُبُ
وأَكْنِزُ
لِأَنْشُرَهُ
ثُمَّ أَحْرُسُ
وأُرْسِلُ ـ(عُمْرِيَ)
أَتْرُكُ بِئْرَ
ولك أن تعد من أصل إثنى عشر سطرا ركز الأديب أناه في سبعة منها.. إنها فقط مقطوعة من قصيدة، فلو عدت إلى القصيدة لوجدت الأمر مذهلا.. فإذا كان الأمر يجوز لهذا، فلماذا لا يجوز لي أنا.. أنا الباحث عن المتعة.. عن اللذة؟
إنني أدرك مرة أخرى أنني حين أستعمل المتعة واللذة أتورط بعيدا في حمإ الحداثة النقدية، وأبعث من البلى صاحبها الذي ألقى بها في أفواه جائعة، صنعت منها أقاويل لا تنتهي، وخلطت بينها خلطا عجيبا. إن المتعة في عرفي هي ما يسديه الزوج لمطلقته مقابل ما استنزف منها من شباب وجهد وخدمة. واللذة ما يجنيه المتلذذ من مادة لذته، أيا كانت تلك المادة. فإذا قلت بالمتعة قياسا على عرفي كان المستفيد هو النص ولست أنا. وكأني بذلك أنفق على النص من فهمي وتأويلي ما يجعله نصا غنيا حيا. وإذا قلت باللذة كان لي منها ما أجنيه من النص اكتشافا، وتعلما، وتذوقا. وكلما كان تلذذي بالنص كبيرا، كانت المتعة العائدة على النص أكبر .
إن القراءة حين تبتغي اللذة، تريد أن تكون النصوص في المستوى الذي تتوافر فيه هذه اللذة، لغة وتخيلا، وجمال فكرة.. أن تكون النصوص ضربا من الارتقاء في أحوال الذات وأشواقها. أما أن تكون النصوص ارتكاسات مستمرة في آتون الألم، والمرض، والجنون، فذاك ما لا يحقق اللذة أبدا.
سيقول أحدهم سريعا، أنك تريد نصا متفائلا منافقا.. نصا يقول ما تريده فقط.. نصا لا يختلف معك.. نص يسايرك في مشاعرك.. يدغدغ أحاسيسك.. نص لا يصدمك.. لا يخلخل فيك قناعاتك.. نص لا يُسائل موروثك.. نص يقيم علاقته معك على الصراع!!
نعم إن النص الذي أريد هو كذلك!! فيه كل ما ذكرت.. إنه نصي المحبوب.. النص الذي تكتبه الذات في صدق.. دون تملق.. دون خوف.. من أن يوضع في ميزان الحكم.. فالنص الذي يقرر الاختلاف، لا يقرره على نزوة وهوى، وإنما يقرره على علم ودراية وحجة.. والنص الذي يريد المصادمة، لا يؤسسها على التهور والمجازفة، وإنما يدجِّجها بالقوة والرأي.. والنص الذي يبتغي الخلخلة، إنما يبتغيها على أسس المناظرة والكلام.. والنص الذي يتجاسر على مساءلة الموروث، إنما يفعل ذلك وفي يده فقه الحاضر، خبر الماضي، واستشراف المستقبل.. والنص الذي يروم الصراع، لا يرومه مبدأ فارغا، يطيح به التالي جهد المتقدم للظهور والتباهي وحسب.. وإنما الصراع عنده، محكٌ تُختبر على مِبرده صلابة المعادن وقوتها..
مشكلتنا اليوم أننا قلبنا كل شيء رأسا على عقب.. ولوثة الحداثة فينا أبلغ، لأنها أحالت الأدب إلى فضاء مرضي تدور مياه مستنقعه في حوض واحد، ثم تركد، وقد تلبد وجهها وغزاه السواد من كل جانب.