القرآنيون
في الإسلام يحق لأي إنسان أن يدلي برأيه في أي موضوع ويحرم على المسلمين قتل هذا الإنسان بمجرد أنه تكلم في قضايا تضاد منهج الإسلام المهيمن بل العكس فان الإسلام منح الضمانة لكل صاحب رأي أن يقول ما يراه بعد تأكيد أن كل مسألة ولها جوابها في المنهاج المهيمن وأن الحجة وإن كانت باطلة فسوف تقارع بالحجة وليس بقمع قائلها .لقد تعلمت من القرآن ومن الرسول محمد عليه الصلاة والسلام هذا الأمر فلا أدفع باطلا ً إلا بالحق ولا أدفع شبهة ً إلا بقذائف الحق وحجتي واضحة ليلها كنهارها لا يضل فيها إلا هالك .
وأما الصياح والعويل فهما من يشوشان علينا معرفة العدو العليم من الصديق الجهول ممن يشكك في أسسنا المنهجية .
لو تنافس شخصين لإمامة المصلين في المسجد فيجب أن نقدم أقرأهم للقرآن بل إن (الدكتور جمال البنا) يقدم المرأة إن كانت أقرأ من الرجل والصحيح عندي أن ميزة القراءة هذه بحاجة إلى توضيح فلا يمكن أن نقف في مضمون القراءة عند الأحفظ وهو يراعي أصول التلاوة تجويداً وإلا فإن القرآن سيصبح وفق ما وصفه النبي محمد عليه الصلاة والسلام كون القرآن لن يبقى منه إلا رسمه ..
اليوم والمسلمون قد أشكل عليهم الاسم عند ارتباطه مع المسمى في الكثير من المصطلحات وعندي أن المسلم الذي استكمل حفظ القرآن وتدبر تفسير آياته بعدها ثم وصل إلى مرحلة الكشف التأويلي وهو يتحف الناس بتوضيح ما أشكل عليهم من آياته وهو يفسر القرآن بالقرآن وبكلام الرسول محمد فإن هذا المسلم هو من يصح أن نطلق عليه ( القرآني ).
وهنا ستواجهني مشكلة تاريخية وأخرى فكرية فالتاريخية كون ظهور مصطلح ( القرآنيين ) ظهر في زمن النبي ليس كدال على أولئك المسلمين الذين يكتفون بالقرآن دون سنة رسول الله عليه الصلاة والسلام : حدثنا عبد الوهاب بن نجدة، ثنا أبو عمرو بن كثير بن دينار، عن حريز بن عثمان، عن عبد الرحمن بن أبي عوف، عن المقدام بن معد يكرب،عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: "ألا إنِّي أوتيت الكتاب ومثله معه، لا يوشك رجلٌ شبعان على أريكته يقول: عليكم بهذا القرآن؛ فما وجدتم فيه من حلالٍ فأحلوه وما وجدتم فيه من حرامٍ فحرموه، ألا لا يحلُّ لكم الحمار الأهليُّ، ولا كلُّ ذي نابٍ من السبع، ولا لقطة معاهدٍ إلاَّ أن يستغني عنها صاحبها، ومن نزل بقومٍ فعليهم أن يقروه، فإِن لم يقروه فله أن يعقبهم بمثل قراه".ونلحظ هنا أن الرسول وصف كل من لا يقرن القرآن مع سنته في فهم شريعتنا وكأنه يستكشف الغيب بظهور هؤلاء المسلمين الذين يفصلون بين القرآن والسنة ، ولقد كان سبب وصف ( القرآنيين ) هذا هو جماعة من المسلمين غفلوا عن حرمة الحمار الوحشي والغفلة لا تعني العناد برفض حجية السنة ،جاء في البخاري : أخبرنا أسد بن موسى ثنا معاوية ثنا الحسن بن جابر عن المقدام بن معد يكرب الكندي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرم أشياء يوم خيبر الحمار وغيره ، ثم قال ليوشك الرجل متكئا على أريكته يحدث بحديثي فيقول بيننا وبينكم كتاب الله ما وجدنا فيه من حلال استحللناه وما وجدنا فيه من حرام حرمناه ألا وإن ما حرم رسول الله فهو مثل ما حرم الله .
وأما المشكلة الفكرية فهي تقوم على أساس أننا لا يمكن أن نطلق مصطلح ( القرآني ) على أحد ٍ من المسلمين ما لم يبدر منه اعتراف واضح وصريح بعدم قبوله السنة كأصل من أصول الشريعة توازي في عمدتها القرآن .وهنا تبرز لنا إشكالية في ( دلالة المصطلح ) فما هي السنة ؟ وما هو الحلال الذي بينته ولم يبينه القرآن ؟ وكذا الحرام الذي بينه القرآن ولم تبينه السنة ؟ وهل يعقل أن فقيها معتبرا ً هو أبو حنيفة مثلا ً وهو يقدم القياس على النص ولم يصح عنده إلا القليل من الأحاديث ( وحسب بن خلدون فإنها سبعة عشر حديث فقط ) فهل نعتبره من القرآنيين وهو من سلم بمقولة ( إذا صح عندي الحديث فهو مذهبي )؟
أقول :
لقد وضع هذا الفقيه الجليل شروطا ً هامة منها :
1\ ألا يعارض خبر الآحاد الأصول المجتمعة بعد استقراء موارد الشرع .
2\وألا يعارض عمومات القرآن وظواهره .
3\ وألا يخالف السنة المشهورة ، سواء أكانت قولية أم فعلية .
4\ وألا يخالف العمل المتوارث بين الصحابة والتابعين دون تخصيص بلد
5\ وألا يعول الراوي على خطه ما لم يذكر مرويه
6\ وألا يعمل الراوي بخلاف حديثه
7\وألا يترك أحد المختلفين في الحكم من الصحابة الاحتجاج بالخبر الذي رواه أحدهم
8\ وألا يكون الخبر منفردا ً بزيادة سواء أكانت في المتن أم في السند
9\ وأخيرا ً ألا تعم به البلوى (أنظر كتاب الأصول للسرخسي نقلا ً عن صبحي الصالح ص 308).
ثم أن من المعلوم أن السنة تفصل ما أجمل القرآن وتقيد ما أطلقه وتخصص فيه ألفاظ العموم وتعين ما لم يعينه من المقادير والحدود والجزئيات قال تعالى : {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ }النحل44 .لاحظ معي التمني في الآية بالتفكر حتى أن رجلا ً هو الأوزاعي يقول ( الكتاب أحوج إلى السنة من السنة إلى الكتاب ).
والآن سنستعرض مشكلات عرضها القرآنيون ونشرع بالرد عليها :
أولاً قولهم :
القرآن وحي من الله وليست السنة كذلك :
أقول : هنا علينا أن نفرق بين الوحي ونزوله على قلب النبي بالقرآن وبين إلهامه النطق ببعض الأحاديث ورغم أنه عليه الصلاة والسلام رفض أن يكتب بعض صحابته آيات القرآن في نفس الصفحة التي يكتبون فيها أحاديثه لئلا يختلط كلامه مع كلام الله جل في علاه إلا أننا شاهدنا معضلة تفاوت علم الصحابة بسنة الرسول .
روى مسلم عن أبي سعيد الخدري أنه قال : ( قال رسول الله عليه الصلاة والسلام ( لا تكتبوا عني ومن كتب عني غير القرآن فليمحه ) ، في كتابه الهام (علوم الحديث ومصطلحه )يضع لنا د. صبحي الصالح حلا ً فيقول ولم يكن بد – وقد تفاوت علم الصحابة بسنة الرسول – من أن يختلفوا في تعليل بعض الأحكام وفي ضبط بعض الألفاظ وفي مقدار موافقتهم للسنة فيما اجتهدوا فيه واستنبطوه إذ رأى كل صحابي ما يسره الله له من عبادة النبي وفتاواه وأقضيته فحفظها وعقلها وعرف لكل شيئ وجها ً من قبل حفوف القرائن به فحمل بعضها على الإباحة وبعضها على النسخ لأمارات وقرائن كانت كافية عنده ولم يكن عندهم إلا وجدان الاطمئنان والثلج من غير التفات إلى طرق الاستدلال) .
وعلى هذا الأساس فان الوحي الذي عصم حفظ آيات القرآن وهي تتنزل على الرسول فحفظ الرسول هذه الرسالة ووعيها الصحابة على أنها كلام الله المجيد وهم نفس الصحابة الذين عاشوا مع الرسول ساعة بساعة وحدث بحدث وهم نفسهم من أخذوا عنه قوله وفعله وتقريره كجزء من رسالته المتكونة من ثلاث أجزاء
1\ المرسل وهو الله جل في علاه
2\ الوسيط وهو جبريل عليه السلام الذي تابع التنجيم للقرآن وهو يتنزل على قلب الرسول
3\ المتلقي وهو الرسول محمد عليه الصلاة والسلام
وقد وعي الصحابة العصمة التي تشمل الثلاثة جملة وتفصيلا من دون أي شك أو تحذير في هذا الأمر الجوهري فالوحي رافق حياة الرسول وعندك الخبر المشهور عنه يوم أن دخل المسجد بزي رجل يسأل الرسول عن معاني الإسلام والإيمان والإحسان.
ثانيا ً :
وضعهم الشروط للاحتجاج بخبر الآحاد :
ومعلوم أن الصحابة احتجوا بخبر الآحاد وعملوا بمضمونه ولكنهم توقفوا في قبول بعضه دفعا ً للريبة أو رغبة في اليقين أو تواصيا ً بالحيطة البالغة في رواية الحديث .
أقول هنا : علينا أن نفرق بين أمرين
1\ صحة العمل بخبر الصحابي الواحد
2\ القطع بحجية هذا الحديث الآحاد
يورد الإمام النووي في(التقريب) عدم قطعية الآحاد ولو كان صحيحاً وعلل قوله : (لجواز الخطأ والنسيان على الثقة ) وعزا رأيه للأكثرين وللمحققين .
وهكذا ظل خبر الآحاد ظني الدلالة لا يفيد القطع وانقسم العلماء بين من يقر به وبين من وضع الشروط فيما يقبل من خبر الواحد وفيما لا يقبل كالخطيب البغدادي في كتابه ( الكفاية في علم الرواية ) ص 18: فقال :خبر الآحاد لا يقبل في
1\ منافاة حكم العقل
2\وحين ينافي حكم القرآن الثابت المحكم
3\وحين ينافي السنة المعلومة
4\ وحين ينافي الفعل الجاري مجرى السنة
5\ وحين ينافي كل دليل مقطوع ( ص 432)
وفي كتاب ( فتاوى شلتوت ) يقر شيخ الأزهر شلتوت أن خبر الآحاد لا يؤخذ في العقائد فحسب
أقول :
سيبدو للوهلة الأولى أن ثمة اضطراب بين العلماء وهم منقسمون في حجية الخبر الواحد والحقيقة عكس ذلك ، لاحظ عزيزي القارئ كيف أن جميع العلماء بالغوا في التحري والتدقيق والبحث العسير عن سند أي حديث وهل هذا الحذر إلا دالة على أهمية مكانة الحديث الصحيح وعلى اتفاقهم جميعا ً على حجية السنة المطهرة ؟
ثالثا ً : معضلة الأحاديث الموضوعة
ما الذي دعا المسلم أن يضع الحديث ويكذب على رسول الله عليه الصلاة والسلام ؟
أقول : هناك الكثير من الدواعي منها
1\ لترهيب وترغيب الناس بالدين :يقول النووي في شرح مسلم ج1 ص32 وهو يشرح وضع الحديث بغرض الترهيب والترهيب ( وقد سلك مسلك الوضاعين ثلة من المتسمين بسمة الزهاد ترغيبا ً في الخير في زعمهم الباطل )
2\ الخصومة السياسية : يقول بن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة وأعلم أن أصل الكذب في حديث الفضائل كان من جهة الشيعة حملهم على الوضع عداوة خصومهم نحو حديث السطل وحديث الرمانة وحديث غزوة البئر التي كان فيها الشياطين .. فلما رأت البكرية ما صنعت الشيعة وضعا لصاحبها أحاديث في مقابلة هذه الأحاديث .. )3:17
3\ وعاظ السلاطين ودورهم في تزيين الهوى للأمراء كالذي يحكى عن غياث بن إبراهيم أنه دخل على المهدي وكان يعجبه اللعب بالحمام فروى حديثا ً لا سبق إلا في خف أو خافر أو جناح ، فأمر له بعشرة آلاف درهم رغم أنه عرف أنه كذاب .
4\ الوضع فعل بشري بدليل حصوله في زمن النبي عندما قال النبي ( من كذب علي ّ متعمدا ً فليتبوأ مقعده من النار ) وان هذا الحديث وقع في حادثة ما
5\ كان لنشوء الخلافات الكلامية والفقهية السبب الذي دعا المتخالفين إجازة الوضع ليؤيدوا مذهبهم
رابعا ً :
فرية سد باب الاجتهاد وعلاقتها بحجية الحديث :
معلوم أن عدد آيات القرآن تبلغ نحو ستة آلاف ويصل المتعلق منها بالأحكام نحو مئتي آية أما مجموع أحاديث الأحكام فيقرب نحو أربعة آلاف حديث(روح الدين الإسلامي : عبد الفتاح عفيف طبارة : ص:460) ووفق هذه الأرقام فإن أمام الفقيه وهو يحاول أن يواكب عصره الاهتمام أكثر بالحديث لكي تعينه السنة أكثر على الاجتهاد .
في كتاب (الميزان) للشعراني ص71 جاء ما يلي :
( يحتمل أن الذي أضاف إلى الأمام أبو حنيفة أنه يقدم القياس على النص ظفر بذلك في كلام مقلديه الذين يلزمون بما وجدوه عن إمامهم من القياس ويتركون الحديث الذي صح بعد موت الإمام فالإمام معذور وأتباعه غير معذورين وقولهم : ( إن إمامنا لم يأخذ بهذا الحديث ) لا ينهض حجة ً لاحتمال أنه لم يظفر به أو ظفر به لكن لم يصح عنده )
لاحظ أن الشعراني يعيب على مقلدي أبي حنيفة أنهم وافقوا شيخهم ولم يوافقوا رجال الحديث والأصح أن ينهلوا من علوم الحديث ما يعينهم على مواكبة فترتهم التاريخية !!! ، فماذا نقول نحن والتاريخ يقول أن أوائل القرن الرابع الهجري اقتصرت فيه المذاهب على أربعة أئمة وأبطل فيه نحو خمسمئة مذهب ( احمد أمين :ظهر الإسلام 2:7)
هنا أقول :
أن علم مصطلح الحديث لم يتوقف بدليل أن زماننا هذا والشيخ الألباني رحمة الله عليه قد أجتهد فيه وكتب لنا سلسلته الصحيحة وعشرات الكتب الهامة ولكن العلة تكمن في محاولة تأسيس لفقه معاصر يوحد الملة ويعشق الفقه في اللحظة الراهنة ( أنظر إلى المقالة التي نقلتها والمنشورة هنا في الواحة عن
(التجديد الأصولي بين البوطي والمرزوقي... )
وأخيرا ً :
يقول د. اسد رستم في مقدمة كتابه ( مصطلح التاريخ) : إن القواعد التي وضعها أئمة الحديث منذ قرون عديدة للتوصل إلى الحقيقة في الحديث تتفق في جوهرها واتجاهها والأنظمة التي اكتشفها علماء أوربا فيما بعد في علم المثودولوجية ، ولو أن مؤرخي أوربا في العصور الوسطى والعصور الحديثة اطلعوا على مصنفات الأئمة من علماء الحديث لما تأخروا في تأسيس المثولودوجية حتى أواخر القرن الثامن عشر). ولقد رأيت في كلام الدكتور رستم بعض المبالغة لأننا أغفلنا جانبا ً هاما ً وهو إكمال نقد متن الحديث وأغلقنا الباب على كل مدع ذلك ونسي الدكتور رستم أن أوربا لا تعير أهمية لصاحب النص أو ناقل النص أي نص وإنما هي مهتمة بأحقية دعوى النص ذاته وهذه رأيتها – حسبما أعتقد – ظاهرة إسلامية غفل عنها المسلمون إذ أن الله تعالى يقول في قرآنه المجيد فكرر وللمرة الرابعة : { قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ }النمل64 .
وهكذا سنرى أن حجة القرآنيون باتت واهنة في الوقت الذي يتوجب على فقهائنا مسايرة روح عصرنا باستغلال الكنز المعرفي في كتب الصحاح والتي تتطلب هي منا أيضا ً تواصل الغربلة .